أراء وتحاليل

الوهم والحقيقة في الحرب الباردة بين الجزائر وفرنسا

د. محمد لعقاب

لا أعتقد أنه يوجد جزائري واحد ما زال دم نوفمبر يسري في عروقه يصدق أن فرنسا تستطيع أن تقيم علاقات الند للند مع الجزائر، وتقيم معها شراكة على أساس “رابح- رابح”، فالمؤكد أن فرنسا تعمل بكل ما استطاعت، لتحقيق مكاسب اقتصادية وسياسية على حساب المصلحة الوطنية الجزائرية.

 

الوهم في الرد الجزائري على فالس

في الحقيقة، لم تحدث زيارة الوزير الأول الفرنسي مانويل فالس للجزائر أزمة بين البلدين، بل أعادت فرنسا إلى حقيقتها، رغم تحسنها الملحوظ والذي كان في صالح فرنسا منذ عام 2012، ووضعت الجزائريين أمام أنفسهم، هل هم قادرون على التعامل مع فرنسا التي مازالت استعمارية أصلا؟

تسوّق وسائل الإعلام الجزائرية منذ نشر مانويل فالس صورة الرئيس بوتفليقة على موقعه الشخصي بتويتر في شكل متعب ومرهق، فجعلت منها وسائل الإعلام الفرنسية مادة للتهكم على الرئيس بوتفليقة والسخرية من الجزائر، ردود فعل شخصيات وأحزاب سياسية وحتى إعلامية على أنها قوية ضد فرنسا، وقالت إن الجزائر ردت لفرنسا الصاع صاعين.

فقد انتقد وزير الخارجية رمطان لعمامرة، بدبلوماسية موقف الحكومة الفرنسية، بقوله إن تصرف فالس غير لائق، والجزائر دولة ذات سيادة ولا تقبل تجاوز الخطوط الحمراء.

وفي ذات السياق، بادرت أحزاب الموالاة، في مقدمتها حزب جبهة التحرير الوطني   بالرد على سلوك الوزير الأول الفرنسي، وعلى الحملة التي يشنها الإعلام الفرنسي ضد الجزائر.

لكن انتقادات أمين عام التجمع الوطني الديمقراطي أحمد أويحيى، أخذت منحى آخر، حيث وصف موقف الوزير الأول الفرنسي بـ “الدنيء”، وقال إن سبب تحامله على الجزائر يرجع لعدم منح فرنسا صفقات ولعدم دعم الجزائر سياسة تلك الدولة في القضايا الإقليمية. ثم لأول مرة في حياته السياسية ينتقد من أسماهم عملاء فرنسا في الجزائر، النافذين في مجال الأعمال والإعلام، حيث قال إن فرنسا بدأت بالمهمة وتركت الباقي لعملائها لمواصلة البقية من خلال الدعوة إلى تفعيل تطبيق المادة 88 لإزاحة بوتفليقة عن الحكم عبر 4 صحف معروفة للرأي العام الجزائري.

كما شارك في انتقاد الموقف الفرنسي كل من الاتحاد العام للعمال الجزائريين ومنتدى رؤساء المؤسسات الذي يعتبر تجمعا لرجال المال والأعمال الجزائريين.  وحتى بعض أحزاب المعارضة شاركت في الرد على الوزير الأول الفرنسي مثل رئيسة حزب العمال التي قالت مخاطبة الحكومة الفرنسية إن قضية صحة الرئيس شأن داخلي محض، ومن حق الجزائريين حتى تحنيط رئيسهم.

وعلقت صحف جزائرية قريبة من الحكومة على مانويل فالس بقولها إنه انتقم من الجزائر بأسلوب غير أخلاقي بعد قطع الرئيس بوتفليقة الطريق أمامه لتوقيع عدة اتفاقيات كانت كلها تصب في صالح فرنسا، ولم يجد المسؤول الفرنسي من وسيلة للرد على الجزائر سوى نشر صورة الرئيس بوتفليقة الذي ظهر متعبا على غير عادته، بعدما وقف الرئيس بوتفليقة في وجه الإتفاقيات التي كانوا ينتظرون التوقيع عليها بكل سهولة، وأدى إلى تضييع صفقات من أيديهم تخدم فرنسا أكثر من الجزائر، مثل اتفاقية توسيع مشروع تركيب عربات التراموي بقيمة 160 مليون أورو ومشروع متخصص في صناعة الغاز الصناعي بقيمة 110 مليون أورو وكذا مصنع السيارات بيجو بـ 150 مليون أورو، وهو الأمر الذي أدى إلى تفويت صفقات تدر على فرنسا أكثر من مليار ونصف مليار أورو سنويا.

 

الحقيقة الغائبة في الرد الجزائري على باريس 

إن السؤال المطروح، هل بمثل هذه المفردات، التي لا ترتقي إلى مستوى قوة ردود فعل المواطنين عبر شبكات التواصل الاجتماعي، تكون الجزائر قد ردت الصاع صاعين لفرنسا؟

من وجهة نظري، إن الرد على فرنسا لم يكن في المستوى، فعندما نلاحظ الميزان التجاري مع فرنسا، نلاحظ أن فرنسا تحتل المرتبة الأولى في صادراتها للجزائر، وعندما نلاحظ الامتيازات التي تحظى بها الشركات الفرنسية المستثمرة في بلادنا نلاحظ أنها امتيازات لم تخضع لنظرة اقتصادية محضة، مثل مصنع رونو الذي استفاد من كل شيء ولم يقدم أي شيء للجزائريين، فسعر سامبول يساوي بسعر سيارة غولف الألمانية في أوروبا، والجزائريون منحوا تسيير حتى الماء الذي يشربونه لفرنسا، فضلا عن تسيير المطار، وكأن الجزائريين عاجزون عن كل شيء حتى تسيير الماء والمطار.

وبفضل التسهيلات التي حظيت بها فرنسا في الجزائر، بلغ عدد شركاتها المستثمرة أكثر من 450 شركة، وبغض النظر عما يشاع على أنها خلقت حوالي 30 ألف منصب شغل، فإن هذه الشركات لم تمكن الجزائر من تصدير دولار واحد، وتصوروا لو كانت هذه الشركات صينية أو كورية أو يابانية، ألا تكون الجزائر تصدر 4.5 مليار دولار للخارج؟

والأكثر من ذلك، وحسب تصريحات وزيرة التربية الفرنسية، فإن فرنسا هي التي تشرف على ما أسمته وزير التربية الوطنية نورية بن غبريط إصلاحات الجيل الثاني، ورغم التكذيبات التي جاءت من هنا وهناك في الجزائر، فإن الوثائق التي نشرتها جريدة جزائرية وطنية يوم 20 أفريل، تثبت أن هناك توجها لفرنسة المنظومة التربوية.

هذه الحقائق تدل بوضوح أن الجزائريين لم يردوا الصاع صاعين على فرنسا، فلو كانوا كذلك لأبرموا اتفاقيات بالتراضي مع الصين وكوريا واليابان وروسيا وألمانيا وأمريكا، ثم نرى النتيجة.

ولو شاء الجزائريون أن يردوا الصاع صاعين لباريس، لغيّروا لغة التدريس من الفرنسية إلى الإنجليزية، التي لم تأخذ بها أي أمة في العالم إلا وتطورت، ولكن التركيز على الفرنسية في المنظومة التربوية، يعني العمل على إبقاء التبعية الثقافية والاقتصادية والسياسية لباريس.

 

حقيقة النظرة الفرنسية للجزائر

دعنا ننظر إلى الموضوع من جانب فرنسا، لقد قال فالس أمام سلال أن باريس لن تغير موقفها من الصحراء الغربية، رغم أنف الجزائر، وقامت فرنسا بفتح مصنع جديد حديث لرونو في المغرب بقيمة 1 مليار أورو عشية زيارة فالس للجزائر، بينما حسب العارفين يعتبر مصنع رونو في الجزائر مصنعا بدائيا.

كذلك توسعت دائرة الحملة على الجزائر في فرنسا، بعدما شاركت فيها قناة فرانس 24 التابعة لوزارة الخارجية الفرنسية، عندما استضافت فرحات مهني وقدمته على أساس أنه رئيس حكومة القبائل في الجزائر، وهي الحكومة التي قال عن وزرائها رئيس بلدية تازمالت السيد اسماعيل ميرة أنهم يتلقون راتبا شهريا من باريس ومن الموساد بقيمة 5 ألاف أورو شهريا، وبعدها فتحت فرانس 24 ملف التوارق لمعرفتها بحساسيته في الجزائر ولانعكاساته المباشرة على الأمن الوطني

 

شهر العسل الذي لا ينتهي

تشير هذه المعطيات إلى أن العلاقات بين الجزائر وفرنسا، مثل الزئبق، تتحسن لسنوات ثم تعود للتوتر، وهذا تبعا للمسؤولين الذين يتداولون على الرئاسة والحكومة في باريس، وكيف ينظر كل منهم للتاريخ الاستعماري الفرنسي للجزائر، وكيف ينظر المسؤولون في الجزائر لفرنسا، هل هي استعمارية، أم هي الأم الحنون؟

لقد بينت عدة تجارب في الزمن القريب، كيف أن الجزائريين حكومة وشعبا وإعلاما وأحزابا يقومون برد فعل عاطفي سريع تجاه فرنسا، ثم يعود النظام الجزائري لمنح باريس مكانة الأفضلية الاقتصادية والثقافية.

ويمكن الإشارة لتأكيد هذا التحليل، إلى عدد من المواقف الجزائرية من مواقف فرنسية مهينة للجزائريين، منها:

–       إخراج الإعلام الفرنسي بإيعاز من دوائر سياسية دائما قضية رهبان تيبحرين في محاولة لاتهام الجيش الجزائري بالتورط في اغتيالهم، بعدما ظلت فرنسا الرسمية والإعلامية لسنوات طويلة محضنا لسؤال “من يقتل من؟” خلال عشرية الإرهاب.

–       رغم هذه القضية الحساسة، نظمت وسائل إعلام جزائرية يوما مفتوحا للتعاطف مع فرنسا عقب التفجير الإرهابي يوم 13 نوفمبر، بينما لم تقم هذه الوسائل بتنظيم يوم مفتوح للتعاطف مع ضحايا الإرهاب في برج البراجنة بلبنان قبل يوم واحد من اعتداءات باريس، ولم تنظم يوما مماثلا للتضامن مع ضحايا داعش المشكوك في نشأتها وانتمائها وأجندتها في العراق وسوريا.

–       أهانت فرنسا الرسمية أكثر من مرة الحكومة الجزائرية عندما قامت بتفتيش عدة وزراء في مطارات باريس.

–       أهان مؤخرا الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي الجزائر في محاضرات ألقاها في تونس والإمارات، في شكل تحريض ضد أمنها واستقرارها.

–       أهان وزير خارجية فرنسا الأسبق روبرت كوشنير المجاهدين الأبرار الذي قهروا فرنسا الاستعمارية من أرضنا خلال زيارة الرئيس نيكولا ساركوزي حينها إلى الجزائر.

وغيرها من الإهانات، لكن الردود الجزائرية لم تكن في مستوى المسؤولية، وبعدها استفادت فرنسا اقتصاديا من الجزائر ما لم تستفد منه أي دولة أخرى.

وبناء على هذا، هل نصدق تصريحات المسؤولين الجزائريين وعلى رأسهم أحمد أويحيى أم نعتبرها وهما من أجل الاستهلاك الداخلي وتعزيز المواقع عشية مواعيد انتخابية حاسمة؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى