بين الفكر والسياسة

مالك بن نبي : 3) شــروط النهضــة

بقلم نورالدين بوكروح  

ترجمة عبدالحميد   بن حسان                                                                                                

مُباشرة بعد صدور كتاب “الظاهرة القرآنية” في فيفري سنة 1947، قام مالك بن نبي بوضع الخطوط العريضة لكتاب “خطاب حول شروط النهضة الجزائرية”، وهو العنوان الأصلي لهذا العمل. وبعد فترة انقطاع، عاد الكاتب إلى الموضوع في شهر أفريل 1948 لِيُنْهِيَه في باريس شهراً بعد ذلك.

وفي شهر جوان من السنة نفسها، شرع بن نبي في نشر مقالات في جريدة (الجمهورية الجزائرية La République algérienne)، واستمرّ ذلك إلى سنة 1955 مع بعض الانقطاعات. وكانت المقالة الأولى مُرافعة من أجل دخول اللغة العربية إلى الجمعية الجزائرية « La langue arabe à l’Assemblée algérienne »  نشرتها جريدة “الجمهورية الجزائرية” الصادرة في 6جوان 1948.

اتّجه بعد ذلك بن نبي إلى تونس حيثُ دُعِيَ لإلقاء مُحاضرة حول موضوع النهضة. ولم يكن هذا الموضوع عند مُفكّرِنا موضوعاً ثقافيا فحسب، بل كان ذا طابع سياسي، ذلك أنّ الشَّرْطَيْنِ اللَّذيْن انطلق منهما في نظرته هما: نهاية القابلية للاستعمار ونهاية الاستعمار . وبعد هذه المحطة بِزَمَنٍ يسيرٍ، قام بتنشيط محاضرة حول “مُدَوَّنة الرقم في اللغة العربية”، ومحاضرة أخرى بعد ذلك بفترة وجيزة حول “الإنسان، الأرض والزمن” في مقرِّ جمعية الطلبة المسلمين بالعاصمة الجزائرية.

صدر كتاب “شروط النهضة” في أواخر فيفري 1949. وكان مالك بن نبي يقصد بإكماله لهذا العمل أن “يترك لإخوانه الجزائريين تقنية خاصة بالنهضة”. وكان التعبير عن هذا الشعور هو الذي دفعه إلى اختيار فكرة مؤثرة لماكيافيل(Machiavel)  هي أبعد ما تكون عن الموقف المعروف للماكيافيلية ـ كافتتاحية لكتابه، جاء فيها: “إنَّ واجب الإنسان الشريف أنْ يُعلِّمَ للآخرين ما لم تسمح له مظالم الوجود ومكرُ الظروف أن يحقِّقَه، رجاءَ أن يتمكنوا ـ إذا كَفَتْهم قدراتهم وأُتيحتْ لهم ظروف أنسب ـ  مِنْ أن يحققوا ما لم يُحققه هو” (1).

وجاء تقديم الكتاب بقلم الدكتور عبد العزيز خالدي الذي كانت له سابق تجربة في التأليف والكتابة، كما كان ذا تجربة في الكتابات النقدية اللاّذعة حتى صار مَهيب الجانب، وقد ظهرت مقالاته الأولى في مجلة المساواة « Egalité ».

لقد ظهر هذا الكتاب الذي أهداه بن نبي للدكتور سعدان والسيدة “بِيَا” (2)Mme Pia) ) في ظرف كان فيه العالم الإسلامي متكتِّلاً ضدَّ الشيوعيّة. إنها بداية الحرب الباردة. وكان جواب مالك بن نبي لكل الدعوات الخافتة للمشاركة في هذه الإستراتيجية بالرفض في كل مرّة. وكان دوما يتحاشى التهجم على المعسكر الشيوعي الذي كان يرى فيه حليفاً موضوعيّاً. ورأيه في هذا الشأن هو رأي نهرو(Nehru)  الذي كان يرى أنه “إذا كانت الشيوعية فظيعة فإنّ الاستعمار أفظع بكثير“.

 

ولأجل ذلك نعته مُنَاوِؤه بأنه مُساندٌ للشيوعية. ومِمَّن كان معاديا لمفكرنا نجد  كاتب ياسين (1928-1989) الذي نشر مقالا في جريدة Combat الفرنسية، إذ تهجّم على كتاب مالك بن نبي. وفي الواقع فإنّ كل الصحف ذات التوجّه الوطنيّ كانت متحاملة عليه، وأمثلة ذلك جريدة Liberté لسان حال الحزب الشيوعيّ الجزائريّ، و La République algérienne لسان حال حزب البيان UDMA، وجريدة البصائر، لسان حال جمعية العلماء، و Le Jeune musulman، عن جمعية الطلبة المسلمين الجزائريين، إضافة إلى Alger-républicain..إلخ.

ولم يصدر عن مالك بن نبي أيّ ردّ فعل على كل تلك التهجّمات، لكنه عَمَدَ إلى تسجيل ما يلي في مذكراته: “لقد حقق “جهاز الحرب النفسية” (psychological-service) انتصاراً على أول دراسة علمية حول مُعامِل المُستَعمِر coefficient colonisateur “، وهي دراسة بيَّنتْ الوسائل العاجلة لمعالجة هذا الأخير. هذا في الوقت الذي يسعد فيه الاستعمار حقيقةً بأنَّ الحركات الوطنية تبحث عن حلول للمعضلة في كوكب القمر“. ولن يُجيب مالك بن نبيّ عن خصومه ذاكراً كُلاًّ باسمه إلاَّ بعد هذا الظرف بمدة عشر سنوات، وذلك في كتابه “الصراع الفكري في البلدان المستعمرة” “La lutte idéologique dans les pays colonisés” (3)

تُرى، ما هو سبب هذه الحرب الضروس؟  السبب يكمن في تلك الانتقادات اللاّذعة التي وجّهها بن نبي إلى الجميع، إضافة إلى ظهور المفهوم الجديد الذي صاغه، وهو”القابلية للاستعمار” colonisabilité).  فكلّ أولئك الذين أحسُّوا بأنهم معنيون بتلك الأوصاف ثارت ثائرتهم.

بتاريخ 28 مارس 1948 صدر مقال في جريدة La République algérienne، وحَرَصَ صاحبه على استعمال اسم مستعار هو: يوبا3. وهو اسم يُخفي وراءه ـ حسب رأي بن نبي ـ كاتبة فرنسية. وكان موقفها ناقدا لمالك بن نبي لكنها لم تستطع إنكار قيمة كتابه، فهي تقول: “إنّ تلك الآراء التي تبقى صحيحة من حيث إقدامها وجرأتها تكشف عن قوة شخصية صاحبها، بل أكثر من ذلك، فهي تكشف عن مِزاج مفكِّر وكاتب. إنها شخصية قوية وأصيلة إلى درجة إمكانية تشبيهها بشخصية أوجست كونت  Auguste Comte… ونحن مُضطرّون لقبول هذه الأحكام المتناقضة (في حق مالك بن نبي) ولو على مَضَضٍ… إنه في هذه المرّة ليس بالساحر المحتال، بل هو ذاتٌ إيجابية. وحتى لو كان رأيه خاطئا، فهو صاحب نظرة جامحة لا ترى إلاَّ عظائم الأمور” .

أمّا محمد الشريف ساحلي (1906-1989(، فمن جهته يتحدث في مقال في درجة متوسطة من العداء عن “مفهوم خاطئ من حيث مبدئه، وخطير من حيث نتائجه” (4) .

وفي الجزء الثاني من كتاب “وِجْهَة العالم الإسلامي، الجزء 2″  « Vocation de l’islam II » أطلق مالك بن نبي العنان لغضبه قائلاً: “لقد وُلِدْتُ في بلدٍ وفي حقبة زمنية لا يَفْهَمُ الناسُ فيهما الكلامَ الواضحَ إلاَّ فهماً أعرجا، أمَّا الإيحاء أو التلميح فلا يفهمون منه شيئا… لقد كتبْتُ لإخواني في الجزائر، والذين تنخر عظامَهم قابليةٌ تامة للاستعمار، وهم يرزحون تحت نيره. لكن إخواني فهموا فكرتي فهماً أعرجا لأنني عمدْتُ إلى إخراجها في صورة لعنة دائمة ضدّ قابليتهم للاستعمار من أجل إعطاء الفاعلية اللاّزمة لتلك الفكرة. فكانوا بشقاوتهم يتمنون أن يرمقوني وأنا ألعن الاستعمار ببطولة ! أمّا المستعمرون، ولسوء الطَّالع، فقد فهموني بمجرّد الإيحاء ثُمَّ فعلوا بي ما يستحقُّه مفكر لا يسبّ الاستعمار، بل يقتله… في مهده، يخنقه في جذوره التي تمتدّ إلى القابلية للاستعمار. عندما بدأْتُ حياتي الفكرية منذ عشرين سنة، لم أكن أحسب أنَّ الإدارة الاستعمارية ستُقدِّم لي يد العون لِأُحاربَها، كما لم أكن أحسب على الإطلاق أنَّ مِنْ بين إخواني الذين يتظاهرون بمحاربة “القابلية للاستعمار” مَنْ سيبخل عليَّ بمساعدته ويحاربني بأسلحة الإدارة الاستعمارية نفسها. وبالفعل، فإنَّه يكفي أنْ تُصْدِرَ تلك الإدارة إشارة واحدة حتى يَنبري مائة “وطنيٍّ” ومائة “عالم” ومائة “مُنْقِذٍ للبلد” بالتوقيع على إدانة فكرتي ومجهودي وعملي، والإعلان عن الإدانة وتنفيذها فوراً “. 

إنَّ قُرَّاء “شروط النهضة” كانوا قِلَّةً، وهم المتعلّمون طبعاً، لكنهم هم ذاتهم المقصودون بالانتقادات اللاَّذعة بعبارات مُحرَّمة تماما في أعراف تلك الحقبة الزمنية. لقد هاجم “المنتخبين” و”العلماء” بأسمائهم، وانتقد خطاب حزب الشعب PPA الشعبوي، وهاجم الطلبة “التقدّميين” كذلك. وبهذا يكون مالك بن نبي قد ناصب العداء للجميع. وأشعل المواجهة بينه وبين الحركة الوطنية، والتي كانت تثور ثمَّ تهدأ إذا كان القمع من السلطات الاستعمارية أو إذا أتيحت فرصة القيام بعمل مشترك، تلك المواجهة ستتواصل باستمرار إلى اندلاع الثورة وإلى أبعد من ذلك.

إنَّ هذا الكتاب يُعدّ في مصافّ الأدب الرفيع، وبعض صفحاته تنطوي على تأثر الكاتب والفيلسوف الألماني نيتشه Nietzsche. والعنوان كذلك قد يُذكِّرُنا بكتاب فيخته Fichte الذي عنوانه “خطاب إلى الوطن الألماني”، والذي كُتِب سنة 1807، وهو وقت لم تكن ألمانيا قد توحّدتْ فيه بعدُ. في هذا الكتاب يدعو الفيلسوف الألماني الأصيل « philosophus teutonicus  مواطنيه إلى تحقيق كفاءاتهم في الحياة الدنيا، وذلك بالإصرار على إعطاء حياتهم معنى كونيا. ذلك أنّ فيخته يولي الدين أهمية قصوى، وهو يرى أنّ الدين هو الذي يضمن الوحدة الذاتية للأفراد. وهو موقف مطابق تماما لآراء مالك بن نبي.

وعلى أية حال، فإنّ نبرة “شروط النهضة” ووتيرته يكشفان عن تأثر بن نبي ب”الفلسفة الحيوية” والفكر الألماني. والدليل على ذلك أن الكاتب يذكر كُلاًّ من فيخته، ونيتشه، وشبنجلر، وهرمان دي كيسرلينج (Oswald Spengler, Herman de Keyserling)

وكان البعد الشعريّ والاتّجاه التراجيدي متناوبين في هذا الكتاب الذي تضمّن فصولا قصيرة لكنها في غاية التركيز، إذ لُخِّض تاريخ الجزائر في بضع صفحات من خلال إلقاء الضوء على المراحل الاجتماعية التي مرّتْ بها: “المرحلة الملحمية”،”المحاربون والتقاليد”، “المرحلة السياسية”، “الفكرة والمعبود”. هذا هو الجزء الأول.

أما الجزء الثاني، فجاءت افتتاحيته نصاًّ يتضمن حكمة بنفس الأسلوب الذي جاءت به التوطئة، وهو مزيج من النثر والشعر. وفي بضع صفحات يضع مالك بن نبي اللَّبِنات الأولى لنظريته في الحضارة ( العودة الأبدية، دورة حياة الحضارة، الخيرات الدائمة …)

وقد جسّد نظريته هذه بمنحنى بياني يُظْهِرُ اللحظات الحاسمة في دورة الحياة، وهي: ظهور فكرة دينية يتمُّ بواسطتها إدماج ثلاثة عناصر هي الإنسان والأرض والزمن. هذه المرحلة هي مرحلة النفس. وهذا التركيب البيوتاريخي ستتولّد عنه مرحلة رقيّ اجتماعيّ وإبداع فكريّ، وبعبارة أخرى فهي الحضارة التي تنطلق بعد ذلك بسرعة دفعها إلى أن يطرأ حادث يؤدّي إلى إيقاف اتجاهها إلى الأعلى. وهنا تبدأ مرحلة العقل التي تستمرّ فيها الحضارة في انتشارها، لكن الشعلة المقدسة تخبو تدريجيا إلى أن تنطفئ تماما. وبعد ذلك يبدأ الانحطاط أو مرحلة الغريزة التي يتوقف فيها الإبداع الفكريّ والعلميّ، ويكون الجمود والثبات على نموذج لم يعد قادرا على الاستجابة للمستجدّات لانعدام التجديد. وبعد ذلك تتوقف الحضارة نهائيا.

لكن مالك بن نبي يرى أنّ النهضة، العودة إلى التاريخ، أمر ممكن إذا توفرت بعض الشروط. وهذا هو موضوع الكتاب على وجه التحديد. ومن أجل ذلك جاءت “الخطابات” التي تتناول المهام الواجب تحقيقها من أجل الشروع في مسار النهضة، وهي: توجيه الثقافة، وتوجيه العمل، وتوجيه رأس المال. أمّا القسم الثالث من الكتاب فهو مخصص لـ المُعامِل الاستعماريّ coefficient colonisateur و معامل الاحتقار الذاتي coefficient autoréducteur. وتلي ذلك دراسات مفصلة ومخصصة لفئات اجتماعية ( النساء، الكشافة، العلماء، الساسة…) أو لمفاهيم معينة مثل الفن، الأرض، الزمن… أما الخاتمة، فكانت إعلانا عن المواضيع التي ستتمّ معالجتها في الكتاب الموالي، وخاصة تلك المتعلقة ب”العولمة“(le mondialisme)  وبـ”المدينة البشرية” .(la cité humaine) 

وإذا كان الهدف من كتاب “الظاهرة القرآنية” هو إثبات صحة الرسالة الإسلامية، ومن كتاب “لبّيْك” تبيين قدرة تلك الرسالة على إحداث تغيير جذريّ في الإنسان، فإنَّ كتاب “شروط النهضة” يهدف إلى تبيين تلك الشروط التي لا بدّ أن يخضع لها المجتمع كي يصير مجتمعا فعَّالاً أي: قادراً على إحداث مسار تطوّر فكري، اقتصادي واجتماعي يُطْلَقُ عليه اسم الحضارة.

ويمكن اعتبار كتاب “شروط النهضة” كمقدمة مُطَوَّلَة من أجل التعريف بعمل أشْمَلَ وأعمّ، وهو بمثابة مخطط عمل ستُدْرَسُ أجزاؤه بتفصيل في وقت لاحق. لكن سرعان ما يظهر الترتيب الذي يخضع له فكر مالك بن نبي، وهو ترتيب يتجسد في الانتقال من الفكرة إلى الحقيقة، ومن الفرد إلى المجتمع، ومن المجتمع إلى البشرية.

والمعروف أنَّ  عنوان الكتاب كان يُفترض أن يكون “وجوه مع الفجر“. وهذا العنوان يُذكِّرُنا بكتاب لـ نيتشه عنوانه “الفجر”(Aurore). لكن (النهضة) و (الفجر) عند هذين الفيلسوفين هما استعارة واحدة تعبِّر عن تلك اللحظة الحاسمة التي ينطلق فيها شعبٌ ما في مسار التاريخ. أمّا (الوجوه) فهي إشارة إلى شعبٍ أفرادُهُ  يكرهون الفكر وتفكيرهم بليد، وهم يحيون كما جَبَلَتْهُمُ الطبيعة، وهي حال المسلمين بعد عصر الموحدين.

وهذا المشهد يُصوِّره مالك بن نبي في كتابه قائلا: “إن المشهد الاجتماعي الجزائري يمتدّ عبر سلسلة لا متناهية من التدرّج اللَّوْنِيِّ الذي يُفسِّر أسباب كل النَّشاز والإيقاعات الفاسدة في مجتمع فَقَدَ توازنه التقليدي، وهو يبحث عن توازن جديد. وفي رحلة البحث تلك تغلبُ على حياةِ الجزائريين تفاصيلُ غير متوقعة ومتنافرة، ساذجة وعابثة أحياناً، وأحيانا أخرى تصل إلى درجة المأساوية. هذا التعدد في النظرات يعبِّر عن مستويات التكيّف المختلفة في الجزائر، كما يعبّر عن اختلاف الأزياء والآراء والأذواق، وانتشار الخلافات. فالأرض ليست كروية عند الجميع. بعض الناس يعيش في 1368، وبعضهم في 1948، وآخرون بين هذين البعدين الشاسعين. إنها مأساة تكيّفنا بكلِّ حِدَّتِها، حتى في علاقاتنا الحميمية والعائلية. ينتابنا شعور بأننا نعيش في وسط هجين يتكوّن من ألف شعب وألف ثقافة. إنَّ هذا النَّشاز يُعْزَى أوَّلا إلى نظرة غير كاملة ومُبعثرة إلى الوسط الجديد الذي نعيش فيه، وإلى تقييم خاطئ للحضارة التي تجذبنا إليها بقوّة لا تُقاوَمُ”. 

وفي بداية كتاب “شروط النهضة” قدّم مالك بن نبي توطئة في شكل مقطوعة شعرية تُعبّر عن النهضة تعبيرا تصويريا. وهذه المقطوعة الشعرية تُذكرنا بدون شك بالتوطئة التي افتتح بها كتاب “هكذا تكلّم زرادش’Ainsi parlait Zarathoustra). إنّ المسألة هنا ليست مجرد تقارب أسلوبي أو تناصّ بين مالك بن نبي ونيتشه، فمفكرنا يبدو وكأنه هو نفسه “زرادشت” الذي أتى ليوقظ مدينة من سُباتها. لقد افتُتِح كتاب الفيلسوف الألماني بهاته الأسطر:”لقد سئمتُ من حكمتي، مثل النحلة التي خزّنًتْ من العسل ما يزيد عن اللزوم” وفي “مذكرات” مالك بن نبي نقرأ:“لقد شاهدتُ من الأشياء ما يزيد عن اللزوم منذ عشرين سنة ! لقد بلغْتُ درجة التخمة، كتخمة النحلة عندما تخزّن من العسل ما يزيد عن اللزوم…”

إنّ “زرادشت” في كتاب نيتشه كان بمثابة إعادة بعثٍ لنبيِّ المزدكيين(5) . فقد انزوى هذا النبي في الجبال وهو في الثلاثين من العمر، وبعدها بعشر سنوات عرف نور النبوّة. وفي صباح يوم من الأيام، قام من نومه وهو يناجي (النجم الكبير) ليعبِّر له عن رغبته في دعوة الناس إلى (العودة الأبدية). وفي مدخل المدينة التقى بجمع غفيرمن الناس منهمكين في اللهو بألعاب المهرجان، فقال لهم مُواجِهاً: “إنني أقول لكم: أنتم لا زلتم تعانون من الفوضى العارمة. وقد حان الأوان كي يحدد الإنسان لنفسه هدفاً. لقد حان الأوان كي يغرس فسيلة أمله الأكبر“.

إنّ الإنسان المتدهور الذي يريد مالك بن نبي إصلاحه هو الإنسان المُتَردِّي الذي يريد نيتشه إيقاظه في قوله: “أريد أنْ أُعلِّم الناسَ معنى وجودهم وهو أن يكونوا بَشَراً متفوِّقين surhomme)) “. لكن الجمهور يسخر منه ويُعْرِض عنه. لقد خاب أمل “زرادشت” وقررأنْ يُغادر المدينة ويلجأ إلى الغابة. وعندما استيقظ في الغد غيّر قراره: “إنّ “زرادشت” يجب ألاّ يُخاطب الجمهور، بل يخاطب أصحابه الذين بإمكانهم أن يساعدوه في الحصاد، لأنَّ كل المحاصيل عنده جاهزة للجني… لقد جاءتني حقيقة جديدة بين فجرِ يومٍ وفجرِ اليومِ الموالي… من الآن فصاعداً لا أريد أن أخاطب الجمهور… إنّ الخالق، والحصّاد هو الذي أريد أن ألتحق به…”

في توطئة كتابه، يُخاطب مالك بن نبي رفيقا له بأسلوب مادحٍ ومُؤثِّر : إنه الزارع الذي راح يَحُضّه على غرس فسيلة النهضة. وفي كتاب نيتشه نجد أنَّ “زرادشت” يعود إلى الجبل وإلى وحدته، “لينتظر كما ينتظر الزارع بعد زرعِ بذوره… وقد انتابه اشتياق ولهفة شديدين إلى من يحبّهم : ذلك أنَّ لديه أشياء كثيرة يمنحها إياهم“. لكنه استيقظ في الصباح بعد حلم فيه إنذار: لقد قام أعداؤه بتغيير وجهة رسالته وزوّروها. إنّ “إرادة القوة” (volonté de     puissance) التي تمنّى نيتشه أن يتسلح بها مُعاصِروه هي “إرادة الحضارة ” (volonté de civilisation) التي يسعى مالك بن نبي أن ينفخها في أهله، وذلك باقتراح قيمٍ جديدة عليهم، وهي: الفاعلية، الروح الجماعية والنمو…

وقد جاءت التوطئة في كل من كتاب نيتشه وكتاب “شروط النهضة” متْبوعة بـ (خطاب) حول (العودة الأبديةl’éternel retour )، وهو المفهوم الذي عبّر عنه مالك بن نبي بـ ( دورات الحضارةles cycles de civilisation )… إنها ذلك التناوب المستمر بين الذهاب والإياب، والازدهار والتدهور، والعظمة والصَّغار… وفكرة ( العودة الأبدية) ناتجة عن تأثر نيتشه بفيلسوف ألماني آخر، وهو غوته Goethe  الذي يعتبره نيتشه أحد أجداده.

وإذا كانت التوطئتان متشابهتين عند مالك بن نبي ونيتشه فإنّ الأمر يختلف في بقية المحتويات. فكتاب نيتشه حُكِمَ عليه بأنه عمل يدعو الى العدمية و اليأس لأنه لا يحمل أهدافا تاريخية واجتماعية دقيقة. أمّا كتاب مالك بن نبي فهو مجموعة من التوجيهات الموجهة إلى أفراد وجَبَ عليهم أن يتحرّكوا كي يغيِّروا حاضرهم. وبين الفيلسوفين قاسم مشترك وهو أنهما وقَفَا موقف احترام وتقديس تُجاه الغيب، وتُجاه ما هو خارج حدود الأفق الضيق، وتُجاه (الإنسان المتفوق)…

كلاهما يشعر بالقَرَفِ إزاء الإسفاف والتدهور وغياب إرادة التحضّر، كلاهما نَدَّدَ بالانحطاط الذي يتمثل عند نيتشه في الإنسان المجرّد من الثقافة والذوق، ويبدأ عند بن نبي بما بعد الموحدين. كلاهما كان تفكيره بمنطق الحضارة، وكلاهما كان قاضيا صارما وشاعرا مرهف الإحساس.

لقد كان هذان الفيلسوفان يحلمان بالعظمة إلى درجة الهيام، فعَرَضَا على مُعاصِرِيهما فلسفة حياة جديدة. لقد أُصيب نيتشه بالجنون، بينما نجا مالك بن نبي من هذا المصير بفضل إيمانه. ويبدو أنّ نيتشه قد تنبّأ بمصيره منذ 1870 في رسالة إلى إروين رود Erwin Rohde، يقول فيها:”المُعضلة أنني لا أملك نموذجا، ولهذا فأنا مُعرَّضٌ لأصيرَ مثل المجنون المتروك لحاله“.

الأول (نيتشه) كان متشائما إلى درجة أنه عاش خارج زمانه، أما الثاني (بن نبي) ورغم الصعاب التي انتابت حياته، فقد بقي (حاضراً) في عصره لأنه كان يشعر بأنَّه صاحب مهمة يجب أن يؤدّيها، هذه المهمة هي أن يكون شاهدا على قومه. وقد حدث له أن فكّر في الانتحار، لكنه صرف عزمه عن ذلك. الأول كان ضحية الرغبة الجامحة في القوة إلى درجة الجنون، والثاني كانت تحدوه إرادة النهضة إلى درجة الهَوَس. وهكذا كابد “زرادشت” ، بين الناس، فشلاً ذريعا. أما مالك بن نبي فعايش في عصره معاناة بدون اسم ولا نهاية.

وعلى عكس ما قد يخطر على البال، فإنّ نيتشه كان منشغلاً بالدين. وأسلوبه كان مَجَازيا بالأساس، وهناك اعتقاد بأنه اقتبس من كتاب لوثر Bible de Luther . وقد تحدّث مالك بن نبي عن “تلك النّفحة التوراتية في أسلوب نيتشه التي لا وجود لها في أسلوب أي فيلسوف آخر(7).

إنَّ نيتشه، هذا اللّعّان الذي كان ابن رجل دين، عاش مُناوِئاً لقيَمِ الدين المسيحيّ التي كان يجد فيها إذْلاَلاً للإنسان وتنكّرا لتطلُّعه إلى العيش في ظلّ الحرية والعطاء الوافر. إنّ حقده على المسيحية ليس من أجل التّحدّي، بل كان بمثابة احتجاج عنيف ، إنّه لا يتهجّم على مبادئها بل على أخلاقها وعلى الحالة الوجدانية التي ولّدتْها في الإنسان الغربيِّ. كان نيتشه يبحث عن “إله مجهول“، وقد أصيب بالجنون بسبب عجزه عن إيجاد ذلك الإله على عكس غوته (Goethe)الذي وجده عندما احتكّ بالإسلام.

وممَّا جاء في أكثر كتب نيتشه ضراوةً في الهجوم على المسيحية: “إنَّ الإسلام مُحِقٌّ ألف مرّة في احتقاره للمسيحية: ذلك أنَّ الإسلام ينطلق من فرضية وجود بَشَرٍ سابقين له… أمَّا المسيحية فقد حرمتْنا من حصاد الثقافات التّليدة، وبعد ذلك حرمتنا من الثقافة الإسلامية. إنّ الثقافة العربية العجيبة في إسبانيا، والتي هي في حقيقتها أقرب إلينا من الثقافة الرومانية واليونانية، تلك الثقافة العربية دُسْنا عليها بأرجلنا لأنها وليدة نوازع بشرية، لأنها كانت تقول: نعمْ للحياة. وكانت تقولها بالذوق الرفيع الذي عُرِفتْ به الحياة العربية في إسبانيا… وبعد ذلك جاءت الحروب الصليبية التي قاتلتْ الإسلام، وكان حريٌ بها أنْ تسجد له. تلك الثقافة بلغتْ شأْواً بحيث يصير لِزَامًا حتى على قرننا التاسع عشر أن يعتبر نفسه في أدنى الدرك مقارنة بها… “الحرب بدون هوادة ضد روما ! السلم والصداقة مع الإسلام”. هذا ما كان يختلج في نفس الإمبراطور الألماني الفذّ فريدريك الثاني، وهذا ما كان يعمل على تجسيده في الواقع(8).

إنّ أسلوب المناجاة هو الغالب على أعمال نيتشه الذي كان مقتنعا بأنَّ مخاطبة أعماق النفس البشرية هي السبيل الوحيد إلى جعله يُغيِّر ذاته. ونظراً إلى أنّ هذا الفيلسوف كان يصبو إلى مخاطبة أعماق النفس البشرية لغرس قيم جديدة فيها، فقد فضّل النبرة الدينية، لأن هذه النبرة هي وحدها التي بإمكانها أن تُطِلَّ على أغوار اللاوعي في الوجدان البشري، فذلك هو المجال الذي تتشكل فيه الأفكار الأولية والنماذج والدوافع.

إنّ نيتشه يقترح ديناً جديداً، وهو العزم على القوة، ويسلك في ذلك الأنماط العملية الموصِلة إلى الغرض، تلك الأنماط هي: الكشف عن حقائق بطريقة مُدهشة، تعيين مستلزمات جديدة، سبيل الدعوة… وحتى لو صار نبيًّا، فهذا لا يكفيه، ولأجل ذلك فهو يضع أعماله في مرتبة المصدر، أي أبعد من الخير والشّرّ، لكي يضرب عرض الحائط بكل القيم التي أكل الدهر عليها وشرب، ويستبدلها بدين عالي المقام ـ وهو دين الإنسان المتفوِّق(surhomme)  ـ وهو يعتبر نفسه قُسَّا لهذا الدين. إنّ نيتشه يشبه ذلك الناسك الغاضب والمنزوي في مغارته، وهو يُمْلِي أمراً قاطعاً لبني عصره لكي يأخذ بأيديهم في طريق الخروج من عالم الثرثرة الفارغة.

إنَّ هذا الضرب من روح الثورة نجده عند مالك بن نبي، كما نجد عنده موقف الرفض الباتِّ للقيم المُحنَّطة، سواء في ذلك ما تركه من كتب منشورة أو ما لم يُنْشَرْ، ومثال ذلك هذه الفقرة المأخوذة من (دفاتره) والتي يُسلِّطُ فيها جَامَ سخطه على ما يُسمّى ادِّعاءً بـ (الثقافة الإسلامية): “وهكذا فإنّ ثقافة الأزهر والزيتونة، هذه الثقافة التي تقتل الضمائر والنفوس، صارت ممقوتةً عندي إلى أبعد حدٍّ، وصرْتُ أعتبرها أفدح كارثة يمكن أن تحدث للعالم الإسلامي. وبكل أسف، فمنذ أن اقتنعتُ بذلك لم أفْتأْ أجد ما أفكر فيه في أرض الواقع. فالإسلام لن يعيش ولن يتجدد في الضمائر إلاّ إذا قتلنا ما يُسمى اليوم بـ (الثقافة الإسلامية)، تلك الثقافة التي تُعفِّن النفوس وتُذِلُّ الطِّباع وتُؤنِّث الفضائل.أنا اليوم (الكاتب يقصد سنتي 1937-1938) مُقتنع بهذا أكثر من أيِّ وقت مضى“.

إنّ النبرة النِّيتشوية واضحة فيما سبق، فقد كان نيتشه ضدَّ “أولئك الذين يتحدّثون عن أسعد الآمال في السماوات العُلى، وأولئك الذين ينفثون سمومهم… إنّ لديهم شيئا يعتزون به. وكيف يُسمُّون ذلك الشيء؟ إنهم يُسمّونه الثقافة…” (9).

لقد اقتبس كلٌّ من جبران خليل جبران ومحمد إقبال ومالك بن نبي من نيتشه طفراته الخاطفة واندفاعه وتسرّعه. هؤلاء الثلاثة جميعا تأثروا في مرحلة صحوتهم الفكرية بالتيارالحيوي في الفكر الألماني عموما، وبفلسفة نيتشه وأسلوبه بشكل خاصّ. إنهم مَدِينون لنيتشه بتفتّحهم على الضمير التراجيدي واكتشافهم لعلم النفس الفاوستي. إنّ المشكلة التي كانت تقُضُّ مضاجعهم هي تأخر العالم العربي الإسلامي والاستبداد الذي كانت تمارسه المدرسة التقليدية في مجال الفكر، هذه المشكلة ذاتها وجدوها مطروحة بنفس الكيفية تقريبا في كتب فيخته Fichte وغوته Goethe ونيتشه Nietzsche.

ولأجل ذلك كله شنّ هؤلاء المفكرون الثلاثة حربا على الاستقالة الفكرية داعين الفكر العربي الإسلامي الحديث إلى استيعاب صور جديدة ومفاهيم مستوحاة من الفلسفة الألمانية. فقد كتب محمد إقبال بكل شجاعة قائلا: “لا عجب في أنَّ الجيل الإسلامي الجديد في آسيا وإفريقيا يُطالب بتوجّه جديد للعقيدة. فبعد الصحوة الإسلامية صار من الضروري دراسة الفكرالأوروبي في استقلالية تامة، والنظر في إمكانية الاستفادة مما وصل إليه ذلك الفكر من نتائج تعيننا على مراجعة الفكرالديني الإسلامي، بل وإعادة بنائه إذا دعت الضرورة إلى ذلك” (11).

أمَّا جبران خليل جبران، الذي كان يؤمن بدين كونيّ، فهو يرى من جهته أنَّ“الله وضع للحقيقة عدّة أبواب، بحيث يمكن استقبال كلّ مؤمن من يدق على أحد تلك الأبواب”.

 

المراجع:

1) في شهر أكتوبر 1963 تعرّض مالك بن نبي خلال نقاش مع الدكتور خالدي والدكتور العقبي لهذه الفكرة التي قصد بها  ماكيافيل(Machiavel)  إهداء تركته الفكرية لأجيال المستقبل، وقد كتب بن نبيّ في مذكراته يوم 13 أكتوبر 1963 يقول:”إنّ أجيال المسلمين تتعاقب لكنها لا تتوارث. وروح الغرب تَشْرَئِبّ إلى المستقبل بمعايشة الحاضر مع الحرص على النظر إلى الماضي. والملاحَظ أنَّ المسلمين لم يظهر عندهم في مرحلة ما بعد الموحِّدين رجل من طراز ماكيافيل حريص على ترك رسالة للأجيال القادمة، إنهم لم يعرفوا ذلك الرجل العازم على أن يصير في زمنه حامل الرسالة المراد تمريرها إلى حقب التاريخ المستقبلي“.

 

2) لم نتمكن من تحديد هوية هذه السيدة. وقد جاء الإهداء بهذه الصيغة: “إلى السيدة بيا، المرأة ذات الشهامة، والتي لم تعرف عن شخصي غير الاسم والدين، ومع هذا فقد منحتني كل حنان الأمومة، وأنا بدوري لم أعرف عنها غير ذلك الحنان”.

 

3) وهو الكتاب الذي يمكن أن نقرأ فيه ما يأتي: “لمّا صدرت النسخة الفرنسية لكتابي المعنون بـ”شروط النهضة” في الجزائر منذ خمس عشرة سنة، سارَعَ الاستعمار بالضغط على أحدِ أهمِّ الأزرار، وسُرعان ما أدَّى ذلك إلى ظهور حملة مُعادية لي من خلال ثلاثة أنواع من ردود الأفعال. الأول كان من “جمعية العلماء المسلمين الجزائريين” بواسطة مقالين منشورين في الجريدة الناطقة باسم الجمعية. وفي هذه الجريدة  ينعت صاحب المقالين كتابي بأنه مستوحى في مُجملِهِ من المقالات التي نُشِرَتْ في إحدى الجرائد اليومية الباريسية. والثاني نُشِرَ في جريدة ناطقة باسم حزب ذي تَوَجُّهٍ وطنيٍّ من خلال مقالين كذلك. والكاتب فيهما يتظاهر بأنه يقدم نقدا نزيها ومُحايِداً لكتابي تحت عنوان: “عَثرةٌ وإبْهام”. وهوعنوان مُغْرِضٌ جدًّا كما هو واضح. أمَّا ردُّ الفعل الثالث فجاء في لسان حال الحزب الشيوعيّ الجزائري. وقد قدّم كتابي بأنه “يستحقُّ إعجاب الاستعمار“. وفي نفس المضمار لا بد أن نضيف موقف “الصحافة التقدّمية” بصفة عامة والتي ضربَتْ صفْحاً عن الموضوع بتحاشيه والسكوت عنه. وهو سكوت من ذهب بالنسبة للاستعمار. أمَّا فيما يخصّ جمعية الطلبة، فمالك بن نبي يُذكِّرُ بأنها “نشرتْ بيانا تندد فيه بالكتاب لأنه يُسِيءُ لقضية شعبنا !”.

 

لقد اضطرّ مالك بن نبي إلى نقل هذه الردود ليس للانتقام، بل ليُبيِّن الكيفية التي يعمل بها الاستعمار في معركته الإيديولوجية. يقول: “إنَّ المعركة لم تّجْرِ بين كاتب يكافح من أجل قضيةٍ وبين الاستعمار الذي تتناقض مصالحه مع تلك القضية، بل جاءت في صورة معركة بين الكاتب والحركات الوطنية التي تدَّعي، وبمفارقةٍ عجيبة، أنها تُمثِّل هي بدورها تلك القضية.. لقد تمكّن الاستعمار من زحزحة اتجاه المعركة التي يُفْتَرَضُ أن يواجه فيها فرداً بعينه ليُحوِّلَها إلى صراع بين هذا الفرد وبني جلدته… فبمجرد الضغط على زرّ سِرِّيّ تمكّن الاستعمار من تحويل المعركة إلى مناورة نفسية ذات هدفين. الأول يتمثل في إلقاء ضوء ساطع على الكتاب بكيفية تنتهي بتشويهه في نظر الرأي العام وإحاطته بشكوك يصعب إبعادها في بلد تسيطر عليه الأميّة والسياسة الاندفاعية. والثاني أنه خلق أو حاول أن يخلق لدى الكاتب عقدة نفسية بمحاولة عزله عن قضيته… فقد كان، من جهة، يريد أن يعزل المُقاتل في الحلبة الإيديولوجية بالتحريض على رفض أفكاره من قِبَلِ الرأي العام في بلده باستعمال كل الوسائل، ومن جهة أخرى كان يسعى إلى تثبيط عزمه وصرفه عن القضية التي يناضل من أجلها، وذلك بإشعاره بأن مجهوده سيذهب سُدَى وأنه يناضل من أجل قضية لا غاية لها“.

 

4) محمد الشريف ساحلي هو كاتب “عثرة وإبهام”.

5) يذهبُ روني جينون René Guénon (عبد الوحيد يحي) إلى أنّ “زرادشت” عند الفرس القدامى لم يكن شخصا بذاته، بل كان يمثل وظيفة النبوّة. فقد عاش أكثر من “زرادشت” واحد في حقبٍ زمنية مختلفة. وكان للزرادشتيين كتابهم المسمى (أفيستا)، وهم يُعتبَرون من أهل الكتاب في الإسلام. وتذهب بعض المصادر الأخرى إلى أنّ “زرادشت” هو إبراهيم عليه السلام، وبعضها الآخر يرى أنه البراهما.وقد كتب بيار بونسُويْ Pierre Ponsoye، أحد تلاميذ روني جينون ـ وقد أسلم هو بدوره ـ ما يلي: “إنَّ الإسلام الذي جاء متفتِّحا على كل توجّه ميتافيزيقي، وعلى كل أشكال الوحي الصحيح والنُّبُوَّات والكتب السماوية، قد لعب دورا أساسيّا، ليس في إدماج المزدكية والديانات المصرية المبهمة القديمة، بل وحتى في إدماج التيار الفيتاغوري(pythagoricien) الذي تمكّن من الاستمرار في العيش في الوسط الفارسي العربي حتى تمكَّنَ من الحفاظ على أركانه السّرّية، على عكس ما جرى له في أوروبا. وهكذا يمكن أن نقول إنّ الإسلام، وبفضل العناية الإلهية، قادر على تقبُّل وإدماج كلّ أشكال النبوَّة في العالم، وهو بهذا أقدر من غيره على رؤية اسم Graal الذي يرتسم في النجوم، لأنّ هذا الاسم في دلالته الكونية الشاملة يمثل المحطّ الروحي والنظريّ للدين الحنيف” (Cf. « L’Islam et le Graal, étude sur l’ésotérisme du Parzival de W.Von Eschenbach », Ed. Denoël, Paris 1957 .

أما توينبي Toynbee فيشير من جهته إلى أنَّ: “هناك احتمال أنَّ الأنبياء الخمسة: “زرادشت”، وعيسى الثاني، وبوذا، وكونفوشيوس، وفياثاغور، قد تعاصروا بعض السنوات خلال القرن 6 قبل المسيح، وهذا دون أن يكون كلٌّ منهم على علم بوجود الآخرين”  (Cf. « La grande aventure de l’humanité », Ed. Elsevier, Paris 1977)..

ومالك بن نبي يقول في إحدى ملاحظاته المسجلة في (دفاتره) بتاريخ 22 أكتوبر 1963: “لقد ألْهَمَ بوذا في الهند كتاب القوانين لـ ماني Les lois de Manou . وأَلْفَ سنةٍ قبل المسيح أمْلَى الإله مردوك قوانينه على أوّل مُشَرِّعٍ، وهو حمورابي. أما الإله مزدك Mazda فقد سلّمَ كتاب القانون الخاص ببلاد فارس ل”زرادشت ، وهو فوق الجبل وهو مُحاطٌ بالرعود والبرق. أمّا عند العبريين فقدْ سلّمَ “يهفي” Iahvé ألواح الوصايا العشر لموسى. كما أوْدَعَ أحدُ الآلهةِ قوانين جزيرة كريت لدى المَلِك مينوس…”

(6) وقد عبَّر غوتهGoethe  عن هذه الفكرة مُشَبِّها إياها بنبضات القلب… هي انقباض ثم ارتخاء لعضلاته باستمرار (la systole-diastole )، وهي العملية التي تتحكم في حركية واشتغال الخليقة كما تنظِّم نبضات القلب. وغوته كذلك هو مخترع مفهوم الإنسان المتفوِّق surhomme/ ubermensch. ولهذا قيل”إنّ زرادشت عند نيتشه هو ابن فاوست Faust عند غوته”.

7(مقدمة « La naissance de la philosophie à l’époque de la tragédie grecque »

« Le problème de la culture », Révolution africaine du 10 avril 1968(8.

9) عن كتاب: “المسيح الدجال” F. Nietzsche : « L’Antéchrist », Ed. UGE, Paris 1967.

10) عن كتاب: “هكذا تحدث زرادشت”« Ainsi parlait Zarathoustra », Ed. LGF, Paris 1983.

11) عن كتاب:”اعادة صياغة الفكر الديني للاسلام” « Reconstruire la pensée religieuse de l’islam », Trad. Eva vitray-Meyerovitch, Ed. Unesco, Paris 1996.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى