بين الفكر والسياسة

 مــالــك بــن نبــي: 14)السنــوات الأخيــرة

بقلم نورالدين بوكروح

ترجمة عبد الحميد بن حسان.

نشر بن نبي بين 1964 و 1968 عددا كبيرا من المقالات في مجلة Révolution africaine. وقد شكّل رفقة الدكتور خالدي قطباً في مواجهة القطب الآخر ذي التوجه الماركسي. كان يعي جيدا بأن الجزائر بدأت تتجه في اتجاه خاطىء، فحاول أن يُحذِّرَ النُّخَبَ السياسية والفكرية من “خطر الانجرار وراء الإيديولوجيات الحديثة (الشيوعية) في نفس الوقت الذي ثبت إفلاسُها في الغرب“.

ولهذا خصص سلسلة من المقالات للقضايا الإيديولوجية والسياسية ، وهي: (سوسيولوجيا الاستقلال) بتاريخ 26/09/1964، ( السياسة والحكمة الشعبية) بتاريخ 18/09/1965، (السياسة والبوليتيك) بتاريخ 25/09/1965، (السياسة والإيديولوجيا) بتاريخ 19/10/1965، و (تغيير الإنسان) بتاريخ 14/05/1967… وتعتبر مسائل التطور والبناء مواضيع كثيرة التكرار في تدخلاته. وقد عالجها بشكل خاص في مقال تحت عنوان ( شروط الحركية الاجتماعية) بتاريخ 28/05/1967، وفي مقال ( العمل والاستثمار) بتاريخ 04/06/1967، وفي مقال ( الأفكار والبناء الاجتماعي) بتاريخ 11/06/1967، وفي مقال ( اقتصاد شدّ الرمق واقتصاد التطوير) بتاريخ 20/12/1967، وفي (العامل الديموغرافي والتأخر) بتاريخ 27/12/1967، وفي ( نشتري أمْ نصنع؟) بتاريخ 14/02/1968، وفي ( التخطيط والتخطيط المُصغَّر) بتاريخ 20/03/1968.

وكانت الأحداث الدولية تتلاحق بوتيرة سريعة على بن نبي: فهنا صراع إسرائيلي عربي، وهناك القضيتان الفلسطينية والفيتنامية، وحركات التحرر في إفريقيا… وكان متواجداً في كل الجبهات، إذ خصص بعض مقالاته لشخصيات عصره الرمزية مثل: كاسترو، في مقال تحت عنوان (الأخلاق والثورة) مؤرخ في 13/03/1968، وشي جيفارا ، في مقال مؤرخ في 23/10/1967، ومحمد مُصدّق، في مقال تحت عنوان (وصية مُصدّق) مؤرخ في 004/1967…

ولمّا وقع العدوان الإسرائيليّ على البلدان العربية في جوان 1967، أراد أن يُلْفِتَ انتباه القادة العرب إلى الأسباب (الحضارية) التي تقف وراء هزيمتهم، واقترح البدء في مشروع سوق عربية مشتركة ووحدة سياسية واقتصادية بين بلدان المغرب. ولهذا خصص عِدَّةَ مقالات لهزيمة جوان 1967، مثل: ( ثمن الوحدة العربية)، مؤرخ في18/06/1967، و (لحظة الفلاش) مؤرخ في 25/06/1967، و (لحظة التفكير) مؤرخ في 02/07/1967، و( دور البترول) مؤرخ في 09/07/1967، و(هيئة الأمم المتحدة تُدِين الشعب الفلسطينيّ) مؤرخ في 23/07/1967… و كان ،أسبوعان قبل حرب جوان 1967، قد أرسل برقية إلى سفير مصر بالجزائر ليخبره بأنه يضع نفسه تحت تصرف مصر كمتطوِّع.

أنهى بن نبي تحرير الجزء الثاني من مذكراته بتاريخ 21 جويلية 1967، وفي شهر أوت ألّف مقالا تحت عنوان (عودة إلى المنبع) لكن الرقابة منعتْ نشره. وفي شهر سبتمبر سافر إلى موسكو لحضور احتفالات الذكرى الخمسين لثورة أكتوبر. وكان شريف بلقاسم هو الذي عيّنه بصفته كاتباً. وأتيح له بالمناسبة أن يشاهد عرض مسرحية (إسْمِرَالْدَا) في مسرح “بولشوي”الشهير. أمضى ثلاثة أسابيع في الاتحاد السوفياتي. وفي شهر ديسمبر وُجِّهَتْ له دعوات لإلقاء محاضرات في ألمانيا وأنجلترا.

وعندما عاد إلى أرض الوطن وجّه رسالة إلى مسؤول جبهة التحرير، قايد أحمد،حيث نقرا أسطره الإستفزازية. يقول: “بصفتي مثقفا بسيطا، فأنا مبدئيا لا أوافق ولا أعارض فكرة الحزب الواحد. فأنا براجماتي. لكنْ عندما تتبنى بلادي صيغةً ما فأنا أحترمها بحكم أني مواطن منضبط. إنني أحترمها طالما حافظتْ على هيبتها. لكنني أتساءل بصدق عمَّا إذا كانت الجزائر بلداً بحزب واحد. وأجد نفسي مترددا في الإجابة عن هذا التساؤل، بل إنّ شعوراً ينتابني بأنّ مع السلطة الرسمية سلطة موازية تشُلُّها وتستعمل أختامها وتوقيعها، كما أوضحتُ ذلك في رسالتي الثانية التي وجهتُها إلى بومدين“.

بتاريخ 01 فيفري 1968 استقبله الرئيس بومدين في مقابلة خاصة. وفي 16 من الشهر نفسه تلقى استدعاء للمثول يوم 22 أمام الغرفة الإدارية بمحكمة الجزائر بطلب من رعية فرنسي بصفة عزل قضائي لفائدة شركة تأمين متواجدة في باريس. وكان الهدف من هذه الإجراءات هو طرده من مسكنه.

وهكذا صار بن نبي إذن بـ (حصاة في حذائه) كما في المثل الشعبي وهذا منذ أكثر من سنة، وقد اضطرّ إلى تقمّص دور المحامي في محاكمة أعجب من العجب. وبالإضافة إلى المحاكمة فقد اتصل بالرئيس بومدين في رسالة جاء في نسختها الثانية: “ذات يوم كنتم تحدثتم في خطابكم الذي ألقيتموه في نادي الصنوبر عن (الحَرْكة) الذين تركتهم فرنسا في الجزائر وهي تغادر البلاد. وقد لمّحتم كذلك إلى العمل التخريبي الذي يقوم به هؤلاء (الحرْكة) ضد الحياة الوطنية في كل المجالات. أسْتَسْمِحُكم في إضافة توضيح حول نقطتين، وهو التوضيح الذي استفدته من تجربتي الشخصية منذ أنْ عُدْتُ إلى الجزائر. إنّ هؤلاء الحرْكة لا يمثلون مجموعة من الأفراد المنبثين في البلاد أو في الدولة بدون هدف فحسْب، لكنهم على عكس ذلك، إنَّهُمْ يمثِّلون نظاما مؤطّراً تأطيراً جيِّداً من طرف فكرٍ أجنبي سام يستعمله في مهام مُحْكَمة التخطيط. إنهم في الواقع، وبفضل هذا الفكر المُدَبِّر، يمثِّلون سلطة موازية بأتم معنى الكلمة في البلاد. وبطبيعة الحال، ليست لديَّ معلومات حول عمل هذه السلطة الموازية في كل مجالات حياتنا الوطنية. لكنني بالتأكيد أكثر الناس علماً بتقنية عملها في مجال العمل الفكريِّ الذي هو مجال نشاطي الشخصي...”

كانت هذه رسالة من مثقف فُرِضَتْ عليه أجواء نفسية جديرة بأن تُفقد التوازن العقلي لأيٍّ كان، وكانت خاتمتها: “سيادة الرئيس. إنني إذ أوجه إليكم هذه الكلمة لا أقصد طرح مشلكة شخصية، بل وضعية لها صلة بالمصلحة العامة، وهي الوضعية التي يمكن أن تكون من اهتمامات أمن الدولة، وأنا مقتنع بهذا. ذلك أنه من الواضح أن وجود هذا النظام الذي أواجهه ليس من أجل متابعتي أنا فقط…”. وماذا جرى بعد كل هذه المساعي؟ لا شيء.

الإسلام والديمقراطية”: كان بن نبي في مواجهة مشكلة البناء والتشييد، ونظرا لما لاحظه من محاولات لإخضاع بلاده للماركسية والبعثية، فقد عمد إلى نشر نص تحت عنوان “الإسلام والديمقراطية”، وذلك سنة 1968. وقد بدأ نصه هذا باقتراح تعريف لكلا المفهوميْن: فالإسلام هو الإيمان بالله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والصيام وحج البيت. فهو مجموعة من الواجبات. والديموقراطية في أصل معناها هي حكم الشعب، وهي تحدد مجموعة من الحقوق. وبن نبي يتوسع في تعريف الديمقراطية، فيرى أنها إحساس ذاتي، وإحساس تُجاه الغير، ومجموعة من الشروط الاجتماعية والسياسية الضرورية لتكوُّن مثل هذه الأحاسيس وتفتّحها لدى الفرد.

وفي هذا يقول: “لا يمكن أن تتحقق الديمقراطية كفعل سياسي، أي بكون الحكم للشعب، إن لم تكن راسخة في الفرد ابتداءاً، على مستوى (الأنا) عند ذلك الفرد، في بُنى شخصيته. كما لا يمكن أن تتحقق إن لم تكن موجودة في المجتمع كمجموعة من الاتفاقات، والعادات، والأعراف ، والتقاليد”. وينتج عن ذلك أن “الشعور بالديمقراطية ليس ملازما لكل الظروف الأخلاقية والاجتماعية… إنها نتيجة لثقافة، وتتويج لروح إنسانية، بمعنى أنها نتيجة لتقييم الإنسان على المستوى الشخصي وعلى مستوى الآخرين“.

ويبيّن بن نبي أن تشكّل هذا الشعور في تاريخ الغرب قد سار ببطءٍ انطلاقا من اليونان ومرورا على روما، ثمّ جاءت به حركة الإصلاح والنهضة، ووصل إلى “الإعلان عن حقوق الإنسان والمواطن” في فرنسا:”كان الشعور بالديمقراطية في أوروبا نتيجة طبيعية لتيار ثقافي مزدوج، وحصيلة لتحرير الروح بواسطة الإصلاح، وتحرير العقل والذوق بواسطة النهضة“.

لكن، وبمعزل عن تاريخه في السياق الأوروبي، فإن للشعور الديمقراطي حقيقته الداخلية التي يترجمها بن نبي كعادته بمصطلحات علم النفس وعلم الاجتماع. إنه يُعرِّفه بأنه “الحدّ السيكولوجي الذي دونه يبدأ شعور العبودية بالبروز، والذي فوقه يبدأ شعور المستبد. إن الإنسان الحر، أي المواطن في الديمقراطية، عبارة عن وجود حيّ بين هذين القطبين السلبيين. تلك هي الحقيقة الداخلية التي يمكن أن نُرْجِع إليها أي مسارلإرساء الديمقراطية (démocratisation). إنها تندمج بين حقيقتين تحيطان بها وتمثلان قطبيها السلبيين بشكلٍ ما، وهما: نفي (الأنا) عند العبد، ونفي (الغير) عند المستبد“.

ونستنتج من ذلك أن مسار إرساء الديمقراطيةيجب بدءاً أن يمحو تلك الميول المضادة لها بوسائل تربوية. وبعد ذلك ينتقل بن نبي إلى النظر في الإسلام ليتساءل عما إذا كان ديننا ينطوي على العناصر الثلاثة المكونة لهذه المسألة. يقول: “بعبارة أخرى ينبغي علينا التساؤل عمَّا إذا كان (الإسلام) قادرا على تقوية الشعور الذاتي لدى الفرد وشعوره تُجاه الآخرين، وعَمَّا إذا كان منسجما مع أسس الديمقراطية في نفسية الفرد، وعمَّا إذا كان بإمكانه خلق الشروط الاجتماعية العامة التي تناسب استمرار الحسّ الديمقراطي ونموّه وفاعليته. ـ وقبل الإجابة عن هذا التساؤل: (هل من شأن الإسلام أن يخلق الحسّ الديمقراطي؟)، ينبغي أن نتساءل أوَّلاً عمّا إذا كان من شأنه أن يحُدَّ من قوة وآثار المشاعر السلبية التي تظهر عند المستبد وعند العبد“.

والقرآن حسب، رأي بن نبي، هو الذي “يعطي الإنسان قيمة تعلو على كل قيمة سياسية واجتماعية. والله ذاته هو الذي ارتضى له هذه القيمة. ولقد كرمنا بني آدم وحملْناهم في البرِّ والبحْرِ ورزقْناهم من الطَّيِّبات وفضَّلْناهم على كثيرٍ ممَّنْ خلقْنا تفضيلا”(الإسراء 70)…فالتصور الديمقراطي الإسلامي يجعل في الإنسان حضوراً لله، أما التصورات الأخرى فهي تجعل فيه حضوراً للإنسانية والمجتمع. فبين أيدينا نمط ديمقراطي قداسي من جهة، ومن جهة أخرى نمط لائكي”.

ويستشهد بن نبي بآية قرآنية أخرى تؤدي دورَ الحامي ضد الاستبداد، وهي قوله تعالى ” تلك الدَّار الآخرةُ نجعلُها للذين لا يُريدون عُلُواًّ في الأرض ولا فساداً، والعاقبة للمُتَّقين” (القصص، 83) . وهو يعود إلى وقائع التاريخ، فيعترف بأنّ “مجهود إرساء الديمقراطية الذي حرّكه الإسلام لم يدمْ إلاَّ أربعين سنة“. هذا مع أن القرآن الكريم كان غنياًّ بالنصوص التي تضمن حرية الضمير، وحرية الحركة، وحرية التعبير، وحُرمة الديار…

وكنتيجة لهذا يسجل بن نبي أنه “ينبغي اعتبار كل مجهود لإرساء الديمقراطية ، وبصفة خاصة أصله، كمجهود تربوي على مستوى الشعب كله يشمل كل المجالات: النفسية والأخلاقية والاجتماعية والسياسية… إن تثبيت دعائمها ليس مجرد تسليم السلطات من جهة إلى جهة أخرى، من الملِك إلى الشعب مثلا، بل هو تكوين للأحاسيس والانعكاسات والمقاييس التي تشكل أسس الديمقراطية في ضمير شعب ما وفي تقاليده. ولا يكون الدستور الديمقراطي تعبيرا صادقا عن الديمقراطية إلاّ إذا كان مسبوقا بمجهود في سبيل إرسائها. ومن هنا نفهم لماذا كانت الدساتير المستعارة من طرف الدول النامية أخذا عن الدول ذات التقاليد الديمقراطية عملاً سطحيا. وقد تكون تلك الاستعارات ضرورية، لكنها تبقى غير كافية إذا لم تُصاحبها تدابير من شأنها أن تغرسها في نفسية الشعب المستعير“.

“إنتاج المستشرقين وأثره في الفكر الإسلامي الحديث”: إن فكرة تأليف هذه الدراسة خامرتْ ذهن بن نبي عندما علم بأن مؤتمر العمال الجزائريين المنعقد في باريس، والذي وُزِّعَتْ فيه دراسته “الإسلام والديمقراطية” قد دُعِيَتْ إليه الكاتبة الألمانية سيغريد هونكه  (Zigrid Hunke) كي تقدم كتابها الذي صدر بنسخته الفرنسية والذي عنوانه “شمس الله تشرق على الغرب”، والهدف من ذلك حسب بن نبي هو “ تحويل انتباه الحاضرين من المشاكل الشائكة في الحاضر إلى سحر الماضي التليد وترفه“.

وهو يرى في هذا حلقة من الصراع الفكري. وقد افتتح هذه الدراسة بتصنيف المستشرقين في أربعة أصناف هي: القدماء، والمحدثون، والمادحون، المنتقدون للحضارة الإسلامية. وبعد ذلك يصرِّح بأنه لا يهتمّ إلاّ بفئة المادحين الذين يؤثِّرون في الفكر الإسلاميّ الحديث ويسعون إلى تخديره. فحملة التقريظ التي يقوم بها هؤلاء المستشرقون ما هي إلاّ صورة مطابقة للغايات التي يسعى إليها الصراع الإيديولوجي. وبن نبي يُحَيِّي جهود المستشرقين سيديو Sedillot وجوستاف لوبون Gustave Le Bon وأسين بلاشيوس Asin Palacios، وينتقد ماكسيم رودنسون Maxime Rodinson، ويختتم دراسته بالتأكيد على ضرورة أن يسترجع العالم الإسلامي استقلاليته في مجال الأفكار كما هي الحال في المجالين الاقتصادي والسياسي.

في أفريل 1968 زار بن نبي مدينة بوسعادة رفقة الدكتور خالدي حيث ترحّما على روح الرسام المسلم إيتيان دينيEtienne Dinet . وفي شهر ماي توجّه إلى غرداية من أجل إلقاء محاضرات. وعاد إلى الجزائر متعبا ومنهاراً، وسجل ذلك في دفاتره بتاريخ 10 أوت: “منذ 32 سنة، أي منذ جوان 1936، وأنا في انتظار الفَرَج في حياتي. فقد انتظرت انطفاء الحرب إلى سنة 1939. وقد اندلعت الحرب وانتهت، فانتهت آمالي معها. وازداد الضباب كثافةً في أفقي. اعتقدتُ عندما انطلقتُ في عالم الكتابة بكتاب (الظاهرة القرآنية)، أن الضباب سينقشع، لكنه لم يزدد إلا كثافةً. وقد جاءت الثورة، وكانت عندي بمثابة بُشرى للتحرر. لكن زوبعتها أودت بأوهامي وبأحلام الشعب، إذ أدت إلى استقلال مُثبِّطٍ أكثر من الحقبة الاستعمارية. ومشكلتي الشخصية في هذه اللوحة الداكنة أكثر سواداً لأنني أنا الذي يتحمل أثقل التبعات تُجاه الاستعمار والصهيونية والخونة الذين لاأَنِي عن فضحهم. فأين الحلّ ؟ الحلُّ لم يعُدْ في حرب عالمية جديدة، أو في ثورة جديدة، أو في هجرة جديدة. فقد ذُقْتُ من كل هذا وعِشْتُهُ دون أنْ أجد حلاًّ لمشكلتي“.

قضى بن نبي مدة شهر، من آخر أوت إلى آخر سبتمبر 1968، في جبال القبائل عند أحد تلاميذه قبل أنْ يتوجه إلى مصر تلبية لدعوةٍ وجَّهتْها له جامعة الأزهر لحضور ملتقى حول الجهاد. وقد قدّم عرضا وأجرى بعض الحوارات في الإذاعة والتلفزيون المصرييْن. وخلال شهر رمضان نشّط عشر محاضرات في المؤسسات التعليمية والدينية في الجزائر. وتقدم باقتراح للسلطات فحواه تنظيم ملتقى سنوي دولي في الجزائر حول الفكر الإسلامي. وقد قُبِل الاقتراح وتمّ تنظيم الطبعة الأولى من هذا الملتقى خلال شهر ديسمبر 1968 في ثانوية عمارة رشيد بالجزائر العاصمة.

وفي جانفي 1969 أنهى ترجمة (إنتاج المستشرقين) إلى العربية استعداداً لمؤتمر الكُتَّاب المغاربة المزمع عقده آنذاك في طرابلس (ليبيا). وفي فيفري توجّه إلى الخرطوم تلبية لدعوة وجهها له العلماء، وهناك ألقى خمس محاضرت وحَظِيَ باستقبال رئيس الدولة. وقد تعرَّف خلال هذه الرحلة بناشري دار الفكر التي مقرّها دمشق، ووضع بين أيديهم كتبه بالعربية من أجل نشرها. وعندما عاد إلى الجزائر ألقى محاضرة حول “أثر المستشرقين”، وذلك بتاريخ 7 مارس 1969.

وفي 27 ماي تمّ تدشين مسجد جامعة الجزائر بحضور مالك بن نبي. وبعد ذلك ألقى محاضرات في المدرسة الوطنية للإدارة وفي المدرسة العليا للأساتذة. وقد سجل في دفاتره بتاريخ 01 جويلية، وهو يتابع الأخبار المتعلقة بنزول مركبةأبولو 10    (Apollo 10)على سطح القمر:”إنّ لهذا الحدث دلالته عند كل شريحة من الناس. وله عندي دلالته، وهي: في الوقت الذي ينتظر فيه البعض خلاصاً يأتي من السماء يصعد البعض الآخر إلى السماء“. أما في 12 نوفمبر فقد سجّل: “الساعة تشير إلى الحادية عشرة ليلا، وقد أنهيت بعون الله ترجمة الكتاب الثاني من “مذكرات شاهد على القرن: الطالب”.

وفي فيفري 1970 كان في القاهرة من أجل المشاركة في مؤتمر إسلامي. حيث أقبل عليه جمال عبد الناصر ليُحيِّيَه ويصرِّح له بأنه قرأ كل كتبه. وفي شهر ماي عينته الحكومة الجزائرية رفقة الدكتور خالدي ليشاركا في المؤتمر العالمي للمسيحيين من أجل فلسطين، كممثليْن للجزائر. وقد سجل ما يأتي مؤرخاً في 05 ماي: “ينتابني شعور بأن الضمير المسيحي بصدد تدشين مرحلة جديدة من تاريخه على سطح الأرض… ولقد تميّز المؤتمر بمداخلات مثيرة، وخاصة مداخلات جورج مونتارون Georges Montaron ورئيس الدير بيار l’abbé Pierre“.

وخلال هذا العام شرع مسجد الجزائر في إعادة طبع أهمِّ كتبه في شكل (polycopiés)، ومن هذه الكتب: (الظاهرة القرآنية)، (شروط النهضة)، (وجهه العالم الإسلامي)، و (فكرة كومنويلث إسلامي).

وشرع هذا المسجد أيضا في نشر مجلة دورية تحت عنوان (ماذا أعرف عن الإسلام؟)، وكان بن نبي يشارك في كل عدد بمقال أو أكثر. وقد صدر العدد الأول من هذه المجلة المتواضعة والتي تفتقد إلى إطار قانوني، في فيفري 1970، وقد تضمّنت تمهيدا بقلم مالك بن نبي، ومقالين، أوّلهما ( ماذا أعرف عن الإسلام؟)، وفيه يذكر مقولة شارل ديغول الشهيرة ” “إننا نرى بأعيننا أن كل شيء مرتبط بالعالم الإسلامي، وأن مشكلة المشاكل هي مستقبل الإسلام”، والثاني بعنوان (الإسلام كعامل لتحرير الضمير الإنساني وتحقيق كرامته).

أمّا العدد الثاني فقد صدر في أفريل 1970، وفيه كتب بن نبي مقالا تحت عنوان (الإسلام وخُرافة القرن العشرين). وصدر العدد الثالث في ماي 1970، وفيه كتب تحيّة ( في ذكرى بن باديس). والعدد الرابع في أكتوبر 1970، وكتب فيه (الأزهر والصراع الفكري). العدد الخامس ظهر في نوفمبر 1970، وكتب فيه (المسلم ومشكلة الإنسان). أما العدد السادس فصدر في ديسمبر 1973، وتولى فيه تحرير كلمة العدد تحت عنوان (حول رمضان).

 وفي ماي 1973 صدر العدد الثامن وفيه كلمة العدد بقلمه تحت عنوان (وعد الإسلام)، وآخر بعنوان (عدم تناسب المسلم مع العالم الحديث وضرورة تناسبه)، بالإضافة إلى تعليق حول حديث لأبي بكر الصدّيق. وفي جوان 1973 صدر العدد التاسع، وفيه مقال له تحت عنوان ( الكتاب المحفوظ) حيث يندد بإقدام بعض الطلبة الماركسيين على مهاجمة مسجد جامعة الجزائر وإحراقهم نسخاً من القرآن الكريم. وأخيرا صدر العدد العاشر في أكتوبر 1973، نشر فيه مقالا تحت عنوان (حق الفقير).

وفي جوان 1970 وُجِّهتْ له دعوة لإلقاء محاضرات في ليبيا. وقد إستضافه العقيد القذافي لمدة طويلة.وبهذه المناسبة سلّمه بن نبي مجموعة من الوثائق المتضمنة: مختصر تاريخ ليبيا، و ( البترول وقاعدة ويلوس Wheelus)، و (المثالية) و (اليقظة الضرورية)، و (خاتمة). ويمكننا أن نقرأ في نص (المثالية): “إنّ السياسي في البلدان العربية يتكلم بلغة الديبلوماسي: فهو يتفادى قول الحقيقة أو يغطّيها. والحال أننا لو عرّفنا الديبلوماسية بمقابلتها مع السياسة لقلنا إنّ الديبلوماسية هي فن قول ما يخدِّر الشعور، أما السياسة فهي أنْ تقول ما يوقظه“. وبن نبي يسمّي هذه الوضعية التي تسببت في تدهورعدة بلدان عربية بـ “عقدة الديبلوماسية”.

وينبغي أنْ نعلم أن القذافي كان شديد الاحترام لبن نبي، وكان كثيرا ما يلتمس منه تحاليله. كما قدّم له يد المساعدة في حياته وبعد موته، وذلك بإيلاءأرملته وبنتيه كل العناية. وهناك ليبيَّان آخران، وهما تلميذاه، ساعدا بن نبي في حياته، وهما: محمد دخيل، ومحمد حويسة. وكان بن نبي من جهته يُكِنُّ للقذافي محبة كبيرة، كما كان يُعلِّق عليه آمال العالم العربي الإسلاميّ. وقد عيّنه جمال عبد الناصر عضواً في معهد الدراسات الإسلامية بالقاهرة في شهر سبتمبر 1970.

مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي“: عاد بن نبي إلى استكمال تحريركتابه “مشكلة الأفكار في العالم الاسلامي” بطلب من الدكتور عمار طالبي، وكان قد انقطع عن ذلك في جانفي 1960 بالقاهرة. وقد أنهى الفصل الأول في 04 أكتوبر 1970، وفي 14 من الشهر نفسه وصل إلى الفصل الرابع. وفي 22 نوفمبر أمكن له أن يسجّل في دفاتره: “الساعة تشير إلى الثامنة والنصف مساءً. وقد أنهيتُ اللحظةَ كتابة آخر سطر من هذا الكتاب“.

في ديسمبر 1970 توجّه إلى ليبيا رفقة الوزير شريف بلقاسم. وفي مارس كان في القاهرة حيث ألقى محاضرات وأقام بها أكثر من شهر. ومن القاهرة توجّه إلى ليبيا تلبية لدعوة القذافي الذي التقى به مراراً وسلَّمه عملاً جديدا تحت عنوان “رسالة الإسلام في العالم”. وفي شهر مارس توجّه إلى بيروت التي أمضى فيها عدة أسابيع مُقيماً عند عمر مسقاوي، وحرّر له وكالة تُخوِّلُ له نشر كتبه باللغة العربية. وهنا قام بن نبي بإضافة فصل جديد ملحق بـكتابه “مشكلة الثقافة”، وعنوانه هدا الفصل (الأزمة الثقافية)، كما قام بتحرير تمهيد للطبعة الثانية من هذا الكتاب. وعاد إلى القاهرة التي أمضى فيها شهراً آخر لكي يُشْرِف على طبع كتاب ” مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي”.

مرّت الآن ثلاثة أشهر منذ مغادرته الجزائر. وقد صدر الكتاب في 10 جويلية، فأهدىبن نبي نسخته الأولى لأمين منصور، رئيس تحرير جريدة (أخبار اليوم). وفي اليوم نفسه ألقى محاضرة في نادي الطلبة الماليزيين بالقاهرة. وفي 16 جويلية عاد إلى ليبيا حيث استقبله القذافي.

في 15 سبتمبر سافر إلى الولايات المتحدة تلبية لدعوة الطلبة الذين كانوا في استقباله في مطار شيكاغو. وقد ألقى بعض المحاضرت في هذه الولاية الأمريكية ثمّ واصل رحلته إلى كل من ديترْوا، ميتشيغن، ماديسون، لوس أنجلوس، نيو أورليونس، باتون روج، واشنطن، فيلاديلفيا… وعندما عاد إلى الجزائر في بداية نوفمبر ألقى محاضرة في قسنطينة حول “دور المسلم في الثلث الأخير من القرن العشرين”.

في غُرّة جانفي 1972 وجه رسالة إلى الرئيس بومدين ليحيطه علماً بما يأتي: لقد توجه إلى المطار في 22 ديسمبر الفارط من أجل السفر إلى جدة تلبيةً لدعوة وجَّهتها له جامعة عبد العزيز لإلقاء محاضرات، وأداء مناسك الحجّ رفقة زوجته وابنته رحمة. وبعد استكمال كل الإجراءات القانونية، وحتى أمتعته أودِعَتْ في الطائرة، جاءه أحد أفراد الشرطة ليخبره بأنه ممنوع من مغادرة التراب الوطنيّ. عاد بن نبي مع عائلته إلى منزله وحاول أن يستفسر عن أسباب منعه من السفر وحرمانه من أداء فريضة الحج ومن القيام بأنشطته الثقافية. وهو يقول في رسالته إلى الرئيس بأنه يجد نفسه مضطرا إلى تأويل هذا المنع على أنه “وضع رهن الإقامة الجبرية“. ولم يُسمح له بالسفر إلى السعودية إلاّ بتاريخ 21 جانفي. وقد أدّى حجته الثالثة بعد أن كان حجّ في 1954 وفي 1961، وإثر ذلك ألقى سلسلة من المحاضرات في جدّة ومكة والمدينة، وفي الرياض.

المسلم في عالم الاقتصاد”: سجّل مالك بن نبي هذه الملاحظة وهو في بيروت مع زوجته وابنته يوم 07 مارس:”خَامَرَتْنِي فكرة تأليف كتاب جديد، وهو “المسلم في عالم الاقتصاد Le musulman dans le monde de l’économie))، وذلك فور إلقائي محضرات حول الاقتصاد في جامعة للملك عبد العزيز بن سعود بجدّة“. وشرع بن نبي في إنجاز هذا العمل، وأنهى جزأه الأول. وفي 17 مارس أنهى جزأه الثاني. وانتقل إلى دمشق في 19 مارس، وفي 26 مارس انتقل إلى لبنان حيث تلقى برقية تعلمه بوفاة الدكتور خالدي ( وكان أثر الصدمة قويا جدا، إذ علمنا من عائلته أنه آلى على نفسه ألاّ يشاهد التلفاز منذ ذلك اليوم حتى وفاته).

ألقى بعد ذلك حوالى عشر محاضرات. وعاد إلى بيروت في 10 أفريل، ثم إلى دمشق ثانيةً لإلقاء محاضرات أخرى في الجامعات السورية. وهكذا مرت ثلاثة أشهر منذ مغادرته الجزائر. وصدر كتاب (المسلم في عالم الاقتصاد) باللغة العربية في بيروت بتاريخ 18 ماي 1972. والكتاب هو عصارة الرؤى الاقتصادية التي ألّفها في كتبه ومقالاته. ولم تصدر النسخة باللغة الفرنسية إلاّ سنة 1996 وفيها مقدمة بقلم كاتب هذه الأسطر. ويتكوّن من تمهيد مؤرخ في 07 مارس 1972، وثلاثة أجزاء، هي: أسسالعلاقات الاقتصادية الحالية في العالم، وخرائط الإمكانات في العالم، وشروط الانطلاقة)، بالإضافة إلى الخاتمة.

وبتاريخ 07 مارس 1973 تعرّض بن نبي وزوجته لاعتداء من جيرانهم الساكنين في الطابق السفلي، أمام بيت منزلهم. فقد انهال عليه ثلاثة رجال مع امرأتين ضربا حتى سقط على الرصيف، وأشبعوه لطماً مع زوجته، كما أخذوا منه برنوسه الأبيض وكسروا نظارته .

في بداية ماي 1973 زار باتنة وبسكرة من أجل إلقاء مجموعة من المحاضرات. وفي 17 جوان كتب هذه الأسطر المشهورة: “أُحَيِّي نهايتي. فقد صرْتُ في هذا العام الذي أختم فيه السنة التاسعة والستينمن عمري أحسُّ بنوع من الارتياح الذي يزداد يوماً بعد يوم. أنا مثل الرجل الذي تحمّل وزراً ثقيلا ويشكر العناية الإلهية التي منحته القوة الكافية ومكّنته من تحمّل طول المسافة وطول المُدَّة، وهو مع ذلك ينتظر اللحظة التي يتحرر فيها ويضع هذا الثقل مِنْ عَلَى كتفيه ويستريح. لقد كانت حياتي ثقلاً كبيرا جداًّ. وأنا أقترب من السبعين صرتُ أرى قرب النهاية بارتياح“.

وبعد هذا بيوم واحد تلقى استدعاءً للمثول أمام محكمة الجنايات. فقد وُجِّهَتْ إلى زوجته تهمة (محاولة القتل) ضدَّ جارتها التي اعتدَتْ عليها قبل ذلك بشهر. وفي 27 ماي كان في وهران من أجل إلقاء محاضرة. وانتقل مجددا إلى باتنة لإلقاء محاضرات وتدشين (نادي الترقِّي). وعندما عاد إلى بيته في 14 جويلية سجل في دفاتره: “لم أنتبه إلى حالتي الصحية المتدهورة إلاَّ بعد عودتي إلى بيتي، وزوجتي هي صاحبة الفضل في تنبيهي، إذْ لم يرتح لها بال حتى زارني الطبيب وخفف من حدّة قلقها بعض الشيء”.

تلك كانت آخر الأسطر من آخر دفتر لبن نبي، وهو دفتر أزرق اللون وعليه الرقم 19. فقد توقف الكاتب عن الكتابة فجأة وبدون إشعار مسبق. ذلك أنه بلغ حداًّ بعيدا من الضعف والعجز. فبقي الجزء غير المكتوب من ذلك الدفتر فارغا إلى الأبد…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى