بين الفكر والسياسة

  مــالك بــن نبــي 7) شهادة من أجل مليون شهيد    

 بقلم نورالدين بوكروح

 ترجمة عبدالحميد بن حسان                                                                                            

كتب مالك بن نبي عشية الاستقلال في القاهرة التي كان مقيما فيها منذ 1956نصاًّ في غاية الجرأة، ينتقد فيه الحكومة المؤقتة وقيادة أركان جيش الحدود اللَّذيْن كانا يتصارعان على السلطة. والنصُّ مؤرَّخ في 11 فيفري 1962. وقد تأخَّر نشره إلى سنة 2000 نظراً لِلَهجته الشديدة، حيث قام الرائد لخضر بورقعة بنشر مضمونه كاملا في مُلحق من مذكراته(1). وهو مُوجَّه إلى المجلس الوطني للثورة الجزائرية CNRA المُزْمع عقده آنذاك في شهر ماي 1962 بطرابلس، ليبيا، لكنّ “الزعيم” الذي أودع بن نبي عنده النصّ، وهو بن بلّة، فضَّل إبقاءه عنده، مع الإشارة إلى أنه سلَّمَ نسخة منه للدكتورعمار طالبي، الذي كان آنذاك طالبا في مصر، وكلّفه بتسليمه للدكتور خالدي في الجزائر العاصمة من أجل نشره.

وكان يُنْتَظَر من اجتماع المجلس الوطني في العاصمة الليبية أن يُعِدَّ العُدَّة لإبدال الدولة الفرنسية بالدولة الجزائرية، وأن يُناقش النقطتين الأساسيتين المٌدْرَجتيْن في جدول الأعمال، وهما: إعداد مشروع برنامج، وتعيين مكتب سياسيّ. وقد تُوِّجَ الاجتماع بـ “ميثاق طرابلس” الذي ينصّ على تبنّي نظام الحزب الواحد مع الاختيار الاشتراكي، وتمّت المصادقة بالإجماع على الوثيقة. أمَّا بخصوص النقطة الثانية فقد اقترح بن بلة وخيدر تعويض الحكومة بمكتب سياسي يضمُّ، بالإضافة إليهما، كُلاًّ من: آيت أحمد، بوضياف، بيطاط، بن علة ومحمدي سعيد. وقد كتب سعد دحلب، وكان حاضرا في النقاش، ما يأتي: “كانت الشرارة التي أشعلت النار، إذ تصادمت الأهواء حول هذه النقطة وحدها لأنها كانت تعني السلطة. لقد أسقط بن بلة وخيدر القناع عن وجهيهما، فهما لا يقبلان بأحدٍ من الفريق القديم” (2).

وبعد عشرة أيام من المناقشات لم يتمكّن أعضاء المجلس الوطني من الوصول إلى اتّفاق حول اقتسام السلطة. ولم يقبل بوضياف وآيت أحمد الانضمام إلى بن بلة وخيدر اللذين كانا مدعومين من قيادة الأركان تحت قيادة العقيد هواري بومدين. امّا بن خدة، فقد غادر طرابلس والتحق بتونس. وفي 30 جوان قررت الحكومة المؤقتة حلَّ قيادة الأركان وتجريد أعضائها من رُتَبِهم. وجرى الاستفتاء في 01 جويلية عبر التراب الوطنيّ، وفي 03 جويلية دخلت قوات جيش الحدود إلى الجزائر. وفي 06 جويلية عبّر فرحات عباس عن معارضته حلّ قيادة الأركان. في 11 جويلية التحق بن بلة بالجزائر قادماً من مغنية. في 22 جويلية أعلن بن بلة عن تشكيل المكتب السياسي بقائمة تضم الأعضاء المقترحين آنفاً باستثناء آيت أحمد وبوضياف، وقد سانده في ذلك فرحات عباس والتحق به في تلمسان. أمّا الحكومة المؤقتة فقد انفجرت إذ أنَّ خمسة من أعضائها ينتمون إلى المكتب السياسي، وهم: بن بلة وبيطاط وبوضياف وخيدر ومحمدي سعيد.

وفي نصه المُعَنْوَن “شهادة من أجل مليون شهيد” يُعلن بن نبي عن نيته في إخبار الشعب الجزائري بما يعرفه عن الثورة وقادتها، إذ يقول: “إنني أشعر أكثر من غيري بمسؤوليتي عن الإدلاء بشهادتي لأنني وصلتُ إلى القاهرة سنة 1956 وفي نيتي أنْ أضع نفسي وقلمي في خدمة الثورة. لكن الأقدار شاءت أنْ تُحِلَّني مكانة الشاهد لأسباب سأكشف عنها عندما يُطالب الشعب الجزائري بمحاسبة كل أولئك الذين كانوا في القاهرة طيلة هذه الفترة. وبناءً على هذا فإنني أُؤًدّي واجبي المتمثل في الإدلاء بشهادتي وأنا واعٍ  بمسؤولياتي في أداء هذا الواجب. ويزداد إحساسي به ( أي الواجب) وأنا أرى الشعب الجزائري مُقْبِلاً على القيام بآخر وأخطر عمل ثوريّ له، وهو العمل الذي سيُفضي إلى أحد أمْرَيْن: فإمّا أَنْ يؤدي إلى تزكية كل نتائج الثورة، وإمّا إلى تعريضها للدمار…”

وقد بدأ بالتعبيرعن دهشته إزاء هؤلاء الرجال الذين كانوا مُقرَّبين من الإدارة الاستعمارية وصاروا يعملون في اذاعة “صوت العرب” أو المكلفين بتسيير أموال الثورة. وبن نبي يؤكد أن الشعب يجب أن تكون لديه إضاءات حول سلوكات ومهام كل واحد قبل إجراء الاستفتاء. يقول:”يجب أن يعرف الشعب الجزائريّ الحقيقة كي نتفادى تأسيس مستقبله السياسي والاجتماعي بعد الاستقلال على أسس الخديعة والتدليس وانعدام المسؤولية...” وهو يقترح على المجلس الوطنيّ أن يستدعي “مؤتمر استثنائي للشعب الجزائري”  للانعقاد في الجزائر العاصمة من أجل تشكيل لجان تُوكل لها مهمة التحقيق في جملة من المسائل قبل إجراء أية انتخابات في البلاد. ويذكر تلك المسائل فيما يأتي:

(1الظروف التي أحاطت بتشكيل قيادة منفصلة عن قيادة الثورة المتمركزة في الأوراس، وهي القيادة التي أُطلق عليها اسم “منطقة الجزائر المستقلة” (Zone autonome d’Alger) في أفريل 1955.

2) الظروف التي أحاطت بمقتل كلٍّ من: مصطفى بن بوالعيد، عباس لغرور، زيغود يوسف، العربي بن مهيدي، العقيد عميروش، العقيد محمد الباهي، عبد الحي، مصطفى لكحل… ومالك بن نبي يذهب إلى أنّ هذه الأحداث وقعت بفعل الخيانة، وهو يتَّهم القيادة التي نصّبتْ نفسها بنفسها سنة 1955 عندما كانت الحكومة الفرنسية تبحث عن (مُحاورين مقبولين (interlocuteurs valables) مِن خارج صفوف جيش التحرير لكي تتحاور معهم. وحتى اختطاف الطائرة واعتقال القادة الخمسة سنة 1956 كان بفعل الخيانة بالنسبة لمالك بن نبي.

3) موقف القادة المنبثق عن مؤتمر الصومام تُجاه مشروع خط موريس، إذْ لم يقوموا بأي شيء مِنْ شأنه ان يُعرقل هذا المشروع أو يؤخِّره، بل إن إنجاز المشروع رافقته حالة هدوء تامّ في الجبهة الداخلية. وابن نبي يذهب إلى أنَّ مؤتمر الصومام جاءت بعده مرحلة قلّت فيها المعارك، وتمّت فيها عملية تحويل مقصودة لوحدات من جيش التحرير من الداخل باتجاه الحدود الشرقية والغربية من أجل إتاحة فرصة الاستراحة للقوات الفرنسية، كمقدّمة لانطلاق المفاوضات.ويرى بن نبي أنّ تلك القوات حُوِّلت إلى قوات استعراضية تحت سلطة “الزعماء”.

4) الظروف التي أحاطت بالتحاق الفارين من الجيش الفرنسي بجيش التحرير، وأسباب تعيينهم لشغل وظائف حساسة في جيش التحرير.

5) مقتل علاّوة عميرة في مقر الحكومة المؤقتة بالقاهرة بعد أن ندّد بما قامت به من اتصالات سرِّيَّةٍ مع فرنسا(3).

6) معاملة بعض أعضاء الحكومة المؤقتة للطلبة الجزائريين بالخارج.

7) المطالبة بتوضيحات حول التسييرالمالي للحكومة المؤقتة وكيفية صرفها للأموال، مع عقد مقارنة بين الأموال التي صُرِفَتْ على جيش التحرير والتي صُرِفَتْ على تسيير الحكومة المؤقتة، بما في ذلك التعويضات الممنوحة لأعضائها(4).

8) كيفية تشكيل المجلس الوطني للثورة الجزائرية CNRA ومدى تمثيله للثورة.

9) مبادرة إقحام الجزائر في مفاوضات حول المغرب الكبير دون استشارة الشعب.

في الرسالة المرافقة لنص “شهادة من أجل مليون شهيد” الموجهة إلى بن بلة في 18 جوان 1962، طلب مالك بن نبي عقد اجتماع “شبيه بذلك الذي انعقد سنة 1936، أي اجتماع يضمُّ جبهة التحرير وجيش التحرير، العلماء، حزب البيان UDMA، الحزب الشيوعي الجزائري، وحتى الحركة الوطنية MNA التي أسسها مصالي الحاج. وكانت هذه الفكرة غير مقبولة إطلاقا لدى المتحكمين في زمام السلطة، والذين قد حسموا الموقف بخيار الحزب الواحد.

ويُسْتَشَفُّ من هذا الطلب أن بن نبي كان يفكر في نظام ديمقراطي مؤسس على التعددية السياسية في جزائر المستقبل. وفي خاتمة شهادته يؤكد أنه ليس بالإمكان إجراء انتخابات دون أن يعرف الشعب الحقيقة حول الثورة، يقول والحنق يُلجم لسانه: “إنّ أيام الحِداد والشقاء التي مرتْ على الشعب الجزائري أيام الثورة كانت أحلى الأيام عند “الزعماء” لأنهم كانوا يتنعمون مثل أمراء البترول العرب في قصور ألف ليلة وليلة“.

وهو يتألم لسكوت كل “العلماء المسلمين” والمثقفين الذين لم ينبسوا ولو بكلمة للتنديد بسلوكات زعماء الثورة أو إخبار الشعب عنها.

وواضحٌ أنّ التعبير بهذه الدرجة من الحرية كان يمكن ان يُعرِّض حياته للخطر إذا وضعنا بعين الاعتبار تقاليد الممارسة السياسية في تلك الفترة. وإذا كان عدد الذين اطّلعوا على هذه الرسالة محدودا إلى سنة 2000 ، فإنّ أهمّ ما في مضمونها قد عولج في كتاب “آفاق جزائرية” سنة 1964 ، وفي “مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي” سنة 1971. هكذا كان مالك بن نبي: لا يتنازل عن حرية التعبير لديه ولا يلتزم الصمت. والمسائل التي أثارها من الخطورة بحيث أنها تعني أن الثورة قد حُوِّل اتجاهها مباشرة بعد انطلاقها. ومالك بن نبي لم يُخْفِ أبداً اقتناعه بذلك.

ومهما يكن محتوى مؤلفات بن نبي المنشورة، فإنّ مشاعره الحقيقية وآراءه حول الأحداث والرجال نجدها في مؤلفاته غير المنشورة وفي مذكراته. ففي 18 ماي 1959 على الساعة الحادية عشرة ليلاً شرع في تحرير كتاب غير منشور تحت عنوان: “تاريخ الثورة الجزائرية بمقاربة نقدية“. وجاء في مقدمة الكتاب التي تضمنتها الصفحات الست الأولى: “كانت الثورة الجزائرية بمثابة مِحَكٍّ لاختبار شعب بأسره، وامتحان كل قِيَمِهِ الإنسانية وكلّ شرائحه الاجتماعية. وقد أثبتَ هذا الامتحان نوعية القيم الشعبية بالجزائر لكنه كشف كذلك عن العيوب غير المعقولة لدى ما يمكن تسميته بـ (النخبة) التي تجرّدتْ من القيم الأخلاقية والفكرية التي هي من الصفات الملازمة لأية نخبة… إنّ الثورة الجزائرية عند الشعب الجزائري هي بمثابة أمانة مُقَدَّسة بين أيٍدٍ آثمة وغير مؤهلة… والثورة الجزائرية إنجاز شعبٍ بدون نخبة، فالمؤرخ يجد في تاريخها كل الخِلال الشعبية، لكنه لن يجد أية فضيلة خاصة بالنخبة“. إنَّ تاريخ الجزائر في القرن العشرين مُختصَر في هذه الأسطر، بل إننا نجد فيها تفسيراً للمأساة التي عاشتها الجزائر في التسعينيات، وحالة الهوان الذي تعيشه اليوم، سنة 2016.

بعد اندلاع الثورة بنحو عامين اتّفق كلٌّ من كريم بلقاسم والعربي بن مهيدي وعبان رمضان على عقد مؤتمر من أجل وضع نظام للثورة، وتعيين قيادة، وتسطير برنامج. وبالفعل، فقد انعقد المؤتمر بتاريخ 20 أوت 1956 في منطقة القبائل ودام عشرين يوماً. ومن النقاط التي عولجت فيه: النظر في حصيلة الثورة، إعادة تنظيم جيش التحرير على نموذج الجيوش الكلاسيكية، تقسيم التراب الوطني إلى ستِّ ولايات، وضع الجزائر العاصمة في إطار خاص باعتبارها منطقة ذات استقلالية عن المناطق الأخرى، تبنّي وثيقة مرجعية سياسية ( قام بتحرير أهمّ بنودها عمر أوزقان، وهو مسؤول سابق في الحزب الشيوعي الجزائريّ)، وتعيين قيادة متكوّنة من هيئة تنفيذية تتكون من 5 أعضاء (لجنة التنسيق والتنفيذ CCE) وهيئة سياسية ـ تشريعية تتكوّن من 34 عضواً ( المجلس الوطني للثورة الجزائرية CNRA).

إنَّ البيان الصادر في الفاتح من نوفمبر 1954 قد حدّد للثورة هدفها المتمثل في  “إعادة بناء الدولة الجزائرية المستقلة، الديمقراطية والاجتماعية في إطار المبادىء الإسلامية”. وفي وثيقة مؤتمر الصومام أصبح الهدف هو “بناء دولة جزائرية في شكل جمهورية ديمقراطية واجتماعية، لا إعادة بناء مملكة أو دولة دينية تجاوزهما الزمن”. وبعد المؤتمر بشهرين تمّ اعتقال أعضاء الممثلية الخارجية الرئيسيين، وهم بن بلة، آيت أحمد، خيدر، وبوضياف. ومِنْ الستة التاريخيين الذين فجّروا الثورة، كان ثلاثة منهم قد استُشهِدوا، وهم ديدوش مراد، مصطفى بن بوالعيد، والعربي بن مهيدي. أما بوضياف وبيطاط فكانا في السجن. فلم يبق على قيد الحياة، وخارج السجن، إلاَّ كريم بلقاسم.

كان عبان رمضان ينعى على الممثلية الخارجية أنها قصّرت في تزويد المجاهدين في الداخل بالأسلحة، وأنّ أعضاءها لاذوا بحماية أنفسهم في أماكن آمنة بعد أن “أشعلوا الفتيل”. لكنه، هو نفسه ومعه مجموعة من أعضاء لجنة التنسيق والتنفيذ، سرعان ما غادروا الجبهة الداخلية ليلجؤوا إلى الخارج بعد اعتقال العربي بن مهيدي، وهذا خرق لقرارات مؤتمر الصومام الذي أكّد على أولوية الداخل على الخارج.

أمّا ياسف سعدي الذي ينكر أن يكون للجنة التنسيق والتنفيذ أي دور في معركة الجزائر، فقد اشتاط غيظا لمّا علم بعزمهم على مغادرة التراب الوطني، وهو يقول في هذا الشأن: “لقد اختاروا أن يلوذوا بالفرار وغادروا ساحة المعركة اغتناما لفرصة الإضراب العام أو اضطرارا بسبب ذلك. وهكذا فَقَدت لجنة التنسيق والتنفيذ البريق الذي جاءت به في مؤتمر الصومام، وصارت مُطأْطأةَ الرأس… وقد تمخضت عن هذه السابقة التي قامت بها لجنة التنسيق والتنفيذ نتيجتان أساسيتان، هما:

أولاً، ابتداءً من هذا التاريخ لم يعُدِ الآلاف من الجزائريين الذين يغادرون المعركة يكلفون أنفسهم حتى عناء تبرير موقفهم لدى جبهة التحرير المتواجدة في الداخل… وهكذا تمّ انتقاء أحسن العناصر من هؤلاء الفارّين من أجل تكوين ما يسمى بـ (جيش الحدود) في أماكن آمنة في الحدود التونسية والمغربية.

ثانياً، كان الخاسر الأكبر من بين رجالات الثورة بسبب هذا الفرار غير المعقول هو عبان رمضان الذي نزل من مرتبة رئيس حكومة ثورية بكامل الصلاحيات لقيادة الحرب نحو شاطىء الأمان، إلى مستوى مدير صحيفة” (5).

وبعد هذه الفترة بأربعين سنة اعترف أحد أعضاء لجنة التنسيق والتنفيذ، وهو بن خدّة، بأن أكبر خطإٍ ارتُكِب في الثورة هو تحويل قيادتها إلى الخارج إذ يقول: “لقد تشكّلتْ بيروقراطية سياسية وعسكرية مفصولة عن الواقع اليومي الذي تعيشه الثورة في الداخل، وهذا ما فتح الباب للانتهازية والوصولية والعشائرية. كل ذلك كان بسبب مغادرة لجنة التنسيق والتنفيذ لأرض الوطن سنة 1957، وهو القرار الذي كانت عواقبه وخيمة… هذا الجهاز الذي تمَّ نَحْتُهُ في الخارج هو نفسه الذي سيستولي على السلطة في 1962 ويستغلّ الثورة لمصالحه الخاصّة. وكانت قيادة الأركان المتمركزة في الخارج تفوق الحكومة المؤقتة في زيغها. أما جيش التحرير فقد انقسم إلى قسمين: جيش الحدود وجيش الداخل، وبينهما خط موريس”(6).

وعندما وصلت محاضر ومقررات مؤتمر الصومام إلى أعضاء ممثلية جبهة التحرير في القاهرة، وجدوا أنهم أُقْصُوا من قيادة الثورة. وكان ردّ فعلهم أنْ اتّهموا مؤتمر الصومام بأنه لا يحظى بالتمثيل وبأنه “أعاد النظر في الصبغة الإسلامية للمؤسسات السياسية التي ستٌنصَّب مُستقبلاً”، وبناءً على ذلك رفضوا تلك القرارات.

أما فيما يتعلّق بتشكيلة لجنة التنسيق والتنفيذ، فإنهم يرفضون تعيين بن خدّة ودحلب لأنهما من قدماء اللجنة المركزية. كما وُجِّهت أقسى الانتقادات لعبان رمضان صانع المؤتمر. فَهُمْ يرون أنه يريد أن يستولي على السلطة ويُبْعِدَ القادة التاريخيين والقادة الموجودين في الخارج. وهكذا جاء اجتماع المجلس الوطني للثورة الجزائرية في أوت 1957 ليُلْغِيَ مقررات مؤتمر الصومام، ويُعيِّن لجنة جديدة للتنسيق والتنفيذ تتكون من تسعة أعضاء، أمَّا عبان رمضان فقد هُمِّشَ وعُيِّنَ كمدير لجريدة “المجاهد”.

وفي 27 ديسمبر 1957 تمّ اغتيال عبان رمضان بعد استدراجه إلى فخ نُصِبَ له في تيطوان بالمغرب. وبعد هذا بمدة طويلة أرجع فرحات عباس الاغتيال إلى “حقد الأمّيين على الذين يعرفون القراءة والكتابة. فقد كانت الغيرة والحسد هما المرضان الذي عانت منهما انتفاضة الشعب الجزائري… وهذا هو شأن المغرب عبر حقب تاريخه، إذْ كان المجتمع دوما ضحية القضاء على النُّخَبِ ليعود مجددا إلى نقطة الانطلاق. وهذا هو السبب في جموده وعدم تقدّمه” (7). وكان عبان رمضان، حسب شهادة كريم بلقاسم، قد حوكِمَ غيابيا قبل قتله. أمّا التهمة الموجهة إليه فهي أنه كان يعمل على التفرقة وأنه تآمر مع رائد في جيش التحرير من أجل القيام بانقلاب ضدَّ لجنة التنسيق والتنفيذ(8).

كان عبان رمضان ماركسياًّ لائكياًّ في أفكاره، ولم يكن يُخْفِي ذلك. وكان صاحب طبع حاد، عنيفاً مُتسلِّطاَ ومُستهتِراً بغيره. إنها صفات ذكرها كل مَنْ كتب عنه(9). وكمثال ذلك الديبلوماسي خالفة معمري الذي يروي بالتفصيل تلك الصعوبات الجمّة التي ميَّزتْ علاقاته مع القادة بدءاً بعمر أوصديق، الرجل الذي أدخله إلى حزب الشعب الجزائريّ، ومرورا على كريم بلقاسم الذي عيّنه في قيادة منطقة الجزائر العاصمة (إذْ نَعَتَهُ بالحمار ـ أغيول ـ أمام المَلَإِ)، ووصولاً إلى أعضاء ممثلية الجبهة في الخارج (خاصة منهم بن بلة الذي اتهمه بالخيانة) وكذلك عقداء الثورة مثل بوصوف وبومدين وبن طوبال وعميروش (الذين حَدَثَ أنْ وصفهم بأنهم صعاليك).

كان يرى أنه الأكفأ لقيادة الثورة، وهذا ما دفع بالطامحين الآخرين إلى أخذ الحيطة والحذر تُجاهه. ولم يتردّد خالفة معمري عن الوقوف مَلِياًّ عند الزوايا المظلمة من حياته، وهي التي زادت من ثقل التهمة التي وُجِّهت إليه(10). وهذا سعد دحلب، وهو من المقرّبين عند عبان ويدين له بارتقائه في مدارج السياسة، يقول عنه: ” كان غالبا ما يضعنا أمام الأمر الواقع… وأكْرهُ ما يكرهه كريم بلقاسم والعربي بن مهيدي هو أن يروه وهو يتقمّص شخصية القائد”.

منذ بضع سنوات وفي كتابٍ حول عبان رمضان ورد اسم مالك بن نبي، ويتعلّق الأمر بمناوشة لا علاقة له بها، وحتى صورته التي أُدْرِجتْ بين الصور الواردة في الكتاب (مثل صورة بن بلة وعلي كافي) لا مبرر لوجودها. فإذا كان هذان الرجلان منافسين حقيقيين لعبان ومُعارضين له، فإنّ بن نبي لم يحدث له أن التقى به، ولم ينافسه في أي شأنٍ يخص تسيير ثورة التحرير، ولم يهتم به إلاَّ عَرَضاً في أطروحة حول المسارات الثورية في التاريخ. ينبغي تفادي تعظيم رجل على حساب الإساءة لرجل آخر، وأنا لا أريد أن أقع في الخطإ الذي أندد به. الأمر هنا يتعلق بوجهين كبيرين من وجوه جزائر القرن العشرين، أحدهما في مجال الفكر العالمي والآخر في العمل الثوريّ. وبغضِّ النظر عن هذا فإنّ بن نبي ليس بحاجة لأحد كي يصير عظيماً، فأعماله كافية لتعظيمه.

كنتُ على علم بآراء مالك بن نبي في الثورة الجزائرية وقادتها منذ بداية السبعينيات لأنه كان يتحدث عن ذلك أحيانا في الندوات التي كان يعقدها في بيته. كنتُ في العشرين من عمري آنذاك، وكنتُ شديد التأثر بما اطّلعتُ عليه، شأني في ذلك شأن أجيال ما بعد الثورة التي كانت متذمِّرةً ومتألمة مما تسمعه طيلة العام حول الثورة الجزائرية التي أصابها ما أصابها من وصمات تُهَمِ الخيانة من جميع الأطراف، والاغتيالات التي حدثت بدافع الاستيلاء على السلطة.

فَمَعَ أنَّ مؤلفات مالك بن نبي كثيرة جداًّ، لا نجد فيها غير فقرة واحدة من أربعة إلى خمسة أسطر تتضمن حديثاً عن عبان رمضان (ومعه جورج حبش)، وقد أوردها الكاتب في إطار التمثيل لفكرة حول المساريْن الثورييْن، الجزائري والفلسطيني. والفقرة واردة في كتابه “مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي” الذي صدر لأول مرة بالعربية في القاهرة سنة 1971. وقد صدر بالفرنسية لأول مرة سنة 1991 بمبادرة مِنِّي وبمقدمة من تأليفي. وهذه النسخة الفرنسية لا تتضمَّن الفقرة الخاصة بعبان رمضان وجورج حبش لأنني تحملت مسؤولية حذفها. لماذا ؟ لأنني كنت أُقدِّرُ أنَّ قادةً في مرتبة عبان وحبش لا يليق الحُكم عليهما بالصورة المقتضبة التي جاءت في الفقرة المذكورة، ولأنني ارتأيْتُ أنَّ هذا الحذف لن يُلْحق أيَّ ضرر بفكر مالك بن نبي.

إنّ ما يكون بن نبي قد قاله في مذكراته أو مؤلفاته غير المنشورة عن عبان رمضان أو العربي تبسي أو فرحات عباس أو مفدي زكرياء أو لامين دباغين وآخرين، لا يمثل شيئا أمام قيمة أعماله وأبعادها. وسواء أكان مُحِقاًّ أمْ مُخطئا، وسواء أكانت أحكامه على الرجال مؤسسة أو غير مؤسسة، مؤكّدة أو مفندة، فتلك مسألة أخرى. والتاريخ هو الذي سيحكم عليهم جميعاً عبر الشهادات وأبحاث المؤرخين والأرشيفات التي ستُفتح للباحثين طال الزمان أم قصُر.

فمجال الفكر شيءٌ، وصراع الكاتب مع محيطه الاجتماعي والسياسي شيء آخر. وقد كانت لبن نبي بالتأكيد مصادمات مع زعماء الحركة الوطنية، وبعد ذلك مع قادة الثورة، لكن تلك الخلافات لا تزيد في فكره وأعماله، ولا تنقص منها شيئا. وتلك الخلافات ليست هي العنصر الخالد في مالك بن نبي، وليست هي التي طارت بها شهرتُه في العالم. وشهرته ليست بفضل آرائه حول الثورة الجزائرية، والمئات من المؤلفات التي خُصِّصَتْ وستُخصص له ليست بالنظر إلى إسهامه في الثورة.

لقد تعرَّض العربي تبسي للسجن ومات شهيداً، كما كانت للبشير الإبراهيمي إقامة في زنزانات الاستعمار وفُرِضَتْ عليه الإقامة الجبرية وتعرَّض للنفي، وعبان رمضان لاذ بالفرار من الجزائر كي ينجو من العدو، لكنه قٌتِلَ خنْقاً بأيدي إخوانه. وفرحات عباس سُجِنَ مراراً في العهد الاستعماري، وبعد الاستقلال أُسْكِتَ صوتُه… كلّ هذه الوجوه قدّمت خدمات لوطنها حسب زاوية نظرها إلى الأمور، بالإمكانيات المُتاحة لها، وبالصفات التي تميَّزَتْ بها، وكذلك بالعيوب والنقائص التي كانت فيها. ومالك بن نبي لم يكن إلاَّ بشراً، وبالتالي فلا يمكن أن يسلم من كل العيوب، لكنَّ استقامته وعبقريته أكبر بكثير من عيوبه.

إنَّ مالك بن نبي لم يحمل السلاح ولم يطلق رصاصة واحدة في وجه العدوّ، ومثله في ذلك عبان رمضان والأغلبية الساحقة من الذين قادوا الثورة وقادوا البلاد منذ الاستقلال. كان سلاح بن نبي هو قلمه الذي حمله طيلة حياته تمجيداً للفكر الجزائريِّ الذي يُعدُّ مفكرنا أحسن ممثل له عبر العالم. تلك حقيقة ساطعة سواء أكُنّا نعرفها أو نجهلها، نُقِرُّ بها أو ننكرها. إنني أعني الفكر بالتحديد، وليس الأدب.

لقد تحقق الاستقلال بعد سبع سنوات من الحرب، لكن حربا أخرى اندلعت ثلاثين سنة بعد ذلك بين الجزائريين أنفسهم، ودامت مدة أطول من التي عاشتها ثورة التحرير. ويعني ذلك أنّ ما انبرى له مالك بن نبي لا يقلّ أهمّية عن العمل الثوريّ الهادف إلى تحرير البلاد. وإذا كان خوض معركة بالسلاح من أجل تحرير البلاد وإقامة “دولة إسلامية” أمرا يجد مَنْ يضطلع به بالعدد الكافي، فإنّ قرونا، بل ألْفيات من عمر الزمان قد تمُرُّ دون أن يُنْجِبَ شعبٌ ما مفكِّراً واحداً. وفي مذكرات مالك بن نبي نجد عبارةً يقول عنها إنها كانت منحوتةً في واجهة قصر نائب الملك في دلهي: “إنَّ الحرية لا تنزل من الأعلى إلى الشعب، بل هو الذي عليه أن يصعد إليها”. وقد كان الاعتقاد السائد في الجزائر هو العكس.

تلك هي الأفكار، وذلك هو الفكر، وتلك هي الأعمال التي كان يجب تعليمها للمواطنين ونشرها بينهم من أجل تربيتهم. كان يجب تزويدهم بتصوُّرات صحيحة، وتحسيسهم بالشروط المسبقة لقيام مشروع حضارة، وأخيرا تحصينهم ضدّ الشعوذة والظلم. لقد انشغلت الدولة الجزائرية عن هذا الفكر واحتقرته بحجة التفرّغ لما يُسمَّى بالبناء الوطني، وبسبب الانبهار بالأفكار التي تُنْعَتُ بالتقدمية ادِّعاءً. وكانت نتيجة ذلك أنّ الأفكار الخاطئة حطّمت ما أُنْجِزَ في إطار تحرير الوطن أو بنائه.

المراجع:

1) “شاهد على اغتيال الثورة ” منشورات دار الأمة، الجزائر 2000.

2) عن كتاب: “مهمة منجزة”« Mission accomplie » بقلم سعد دحلب. دار النشر، دحلب، الجزائر1990.

3) علَّاوة عميرة عضو ممثلية جبهة التحرير بلبنان، اسْتُدْعِي إلى مقر الحكومة المؤقتة بالقاهرة بسبب اتهامه بالإدلاء بتصريحات غير لائقة في حقِّ بعض أعضاء الحكومة المؤقتة، كانت له مُناوشة مع فرحات عباس الذي صَفَعَهُ. وقد وُجِد ميِّتا بعد ذلك بـ 48 ساعة أمام مقر الحكومة المؤقتة. ولمّا فتحَت الشرطة المصرية تحقيقا عثرت في محفظته على وثائق (وكانت موضوعة ـ حسب بن نبي ـ بين صفحات كتابه حول النزعة الأفروآسيوية) واستولت الشرطة على الوثائق وأخْفَتْها.

4) نشر بن خدّة الحسابات الخاصة بالمرحلة التي كان فيها رئيسا للحكومة المؤقتة ووزيرا للمالية في آنٍ واحد إذ يقول: “من تاريخ 24 سبتمبر 1961 إلى 30 جوان 1962 ، قامت الحكومة المؤقتة بدفع مبلغ قدره 12 مليار تقريبا لمختلف أجهزة جبهة التحرير. وقد تمّ توزيع هذا المبلغ على النحو الآتي:

ـ قيادة الأركان العامة: 45.81% .                                       ـ وزارة التسليح والاتصالات العامة MALG: 25%.

ـ  وزارة الداخلية: 16%.                                                                  ـ الولايات: 7.30%.

ـ وزارة الشؤون الخارجية: 1.95%.                                                   ـ وزارة الإعلام: 0.80%.

ـ رئاسة الحكومة المؤقتة: 0.20%.

وفيما يخصّ “خزينة جبهة التحرير” التي كثُر الحديث عنها، يقول بن خدة: “عندما أُسِّسَ المكتب السياسي ليحلَّ محلّ الحكومة المؤقتة في أوت 1962 تولّى الأمين العام ،أمين مالية جبهة التحرير، محمد خيدر، مسؤولية الجانب المالي في الجبهة، وذلك بناءً على أمرٍ أصْدرْتُه شخصيا لمختلف المؤسسات البنكية المكلفة بالعمليات المالية للحكومة المؤقتة. فكانت الأرصدة المودعة في البنوك السويسرية تحت تصرّف محمد خيدر، وهي تُقدَّر بحوالي ستة ملايير فرنك، من بينها 4.7 مليار بالعملة الصعبة.   المرجع: (Benyoucef Benkhedda : « L’Algérie à l’indépendance : la crise de 1962». Ed. Dahlab, Alger 1997)..تم اغتيال خيضر في 3 جانفي 1967 في مدريد.

 

5) عن كتاب:”معركة الجزائر” Cf. Yacef Saâdi : « La bataille d’Alger », T.3, Ed. Casbah, Alger 1997.

6) عن كتاب:”الجزائر في عهد الاستقلال” Benyoucef Benkhedda : « L’Algérie à l’indépendance : la crise de 1962 ».

7)عن كتاب:”الاستقلال المٌصادر ” F.Abbas : « L’indépendance confisquée », Ed. Flammarion, Paris 1984.

8) عن كتاب:”كريم بلقاسم،اسد الجبل” Amar Hamdani : « Krim Belkacem, le lion des djebels », Ed. Balland, Paris 1973.

9) وخاصةَ منهم: سعد دحلب، بن يوسف بن خدّة، فرحات عباس، بنيامين ستورا  B.Stora+ ز.داود، عمار حمداني وياسف سعدي.

10) عن كتاب: “عبان رمضان ،حياة من اجل الجزائر”« Abane Ramdane, une vie pour l’Algérie », Ed. K.Mameri, Alger 1996.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى