بين الفكر والسياسة

أين نحن مند الاستقلال؟ 2) الوطن-الأم وأبنائه

بقلم: نورالدين بوكروح

ترجمة: نورة بوزيدة

مبدئيا، المؤنث هو من يلد المذكر، لكن هناك على الأقل استثناءين لهذه القاعدة. الاستثناء الأول هو عندما أخرجت أمنا حواء من آدم حسب كل الديانات السماوية، والثاني خاص بكلمة “وطن” بالغة اللاتينية حيث أن كلمة ” patrie” وهي مؤنث مشتقة من كلمة « pater » . أما كلمة “أم” باللغة الفرنسية، فإنها أيضا مشتقة من كلمة لاتينية مؤنثة ونقول ” mère-patrie” إلا أنها  تحمل معنى الأمومة إلى أنها تعني “بلد الآباء” وليس “بلد الأمهات” . فهذه مفارقة لا نعرف لها سبب سوى تعسف الذكر تجاه الأنثى. مع أنه بالإنجليزية أيضا نقول “Motherland ” ومع أنه نعلم بوجود مجتمعات أموية وبأن غالبية البلدان تحمل أسماء مؤنثة. ولو قلنا “matriotisme” بدل  ” patriotisme” لكنا استعملناه بنفس السهولة، أليس كذلك؟

عندما كتب صولون ” Solon” قانونه الجنائي المشهور والذي سمي باسمه، سؤل لماذا لم يدرج ضمن الجرائم، جريمة “قتل الأب”، فأجاب بكل ثقة :”لأن لا أحد سيقترف هذه الجريمة” وأما قتل الأم، فلا أحد فكر في أن يسأل عن، ففي هذه الذهنية القديمة التي نعتبرها أقدم من التمييز بين الجنسين، توجد فكرة أساسية هي أن القضية ليست في كون الرجل مساويا للمرأة أو أسمى منها بل هو أقدم منها وأول من أتى إلى الوجود.

وفي الحالة التي تهمنا، أي الوطنية والوطن،  فإن الدفاع عن الوطن (الوطنية) مهمة تعود للرجل، ومفهوم الوطن مرتبط بالأم ويقال أن الارتباط بالوطن كمن هو مرتبط بأمه في البيت لأنها هي التي تلده وتسهرعلى تربيته والحفاظ على صحته، فلا يمكن أن نخون أمنا أو أن نقتلها. لكننا نعرف الكثير من الأمثلة عن ذلك كما ترك لنا التاريخ أمثلة نساء “مواطنات” هبن إلى الدفاع بالسلاح عن وطنهن-الأم مثل فاطمة نسومر أو جان دارك.

قبل الخامس من جويلية 1962، كان وطننا-الأم عبارة عن مجموعة من المقاطعات الفرنسية وكنا نحن الجزائريين من غير وطن لأننا لم نمتلك لا الجنسية الفرنسية ولا الجزائرية ، وبدلك تكن هي المرة الأولى التي كنا فيها يتامى محرومون من وطنن-الأم حيث أن الفرنسيين لم يكونوا أول من أخذ منا وطننا تحت “خشمنا” و”لحيتنا”، فالعثمانيون والرومان سبقوهم إلى ذلك ولمدة أطول حيث بقى كلاهما أربعة قرون. ويمكننا أن نسمي كلاهما استعمارا إذ ينطبق تعريف الاستعمار عليهما، ومن قاموا به مستعمرين ومن رضخوا له مستعمرين بفتح الميم.

لكن عندما انتفض أحد مواطنينا ضد هذا الواقع وأسدى رأيا بأنه قد نكون نحن من تسبب أولا في تلك السلسلة من الإحتلالات، سال عليه وابل من الشتم من قبل “وطنيين” كما لو كان هو من أهدى مفاتيح البلاد إلى الروم ثم الأتراك والفرنسيين. لقد ارتكب الجريمة : قتل الأم. ففي سنة 1949 كتب في كتابه “شروط النهضة” ما يلي : “لكي لا نكون مستعمرين بعد الآن، يجب أن نكف عن قابليتنا للاستعمار“. وانتقد وذم بسبب هذا القول “غير الوطني” أكثر مما كره المستعمر ذاته. مع أن الحقيقة كنا نعيشها بحذافرها : كنا مستعمرين و لم نكف عن كوننا قابلين للإستعمار إلا في الأول من نوفمبر لأن 22 شابا قرروا ذلك أخيرا.

إن الوطن-الأم، بصفته أرض الأجداد، لا تخضع لقوانين الطبيعة بل لقوانين التاريخ حيث أنه يولد ويكبر أو عكسا ينتكس وينكمش، لكنه لا يموت أبدا. قد يبقى الوطن تحت نير استعمار ما وعدم الاكتراث به ثم نحرره منه وننسف فيه روح الشباب والحياة من جديد، قد يزدهر أو يسقط في غيبوبة لمدة قرون، دون أن يموت، فيمكن إخضاع الوطن-الأم لرغبة أبنائه دون التفوه بآهة كما فعل بعض من جيل نوفمبر بالتعامل معه ككائن غير راشد وضع تحت كفالتهم لأنهم يعتبرون كونهم شاركوا في تحريره من الاستعمار يعطيهم ذلك الحق في فعل أي شيء تجاهه. يمكن أيضا أن نغير تسميته من تامزغة إلى نوميديا وإفريقيا وأيالة الجزائر، ثم الجزائر و”ألجيري”…

يمكن أن نحييه ونغنيه ثم نفقره ونحرمه، أن نجعله سخيا أو غير متسامح. وفي بعض الأحيان، يكفل أبناء وطن آخر ويحرم أبناؤه من خيراته كما حدث في أستراليا وأمريكا والمكسيك أين كان السكان الأولين سودا أو حمرا وهم اليوم في غالبهم بيضا وشقرا. ففي أمريكا، الرئيس الحالي أسود البشرة بينما لم يكن السكان الأصليين لم يكونوا كذلك أو بيضا. وفي فلسطين، اختلط الحابل بالنابل ولم نعد ندري إن كانت يهودية أو عربية، أما في الجزائر، فما زال الأقدام السوداء ينادون بأن هذه الأرض ملكهم لأنهم هم من خدموها وعمروها وبنوا مدنها الحديثة.

وفي القرآن، يورث الله الأرض لمن يعمل فيها صالحا وينبت فيها زرعا مفيدا للناس وهنا نلاحظ أن المعيار ليس الامتلاك والميراث بل الاستعمال والتسخير. وقد حملت السياسة الاشتراكية في الجزائر والثورة الزراعية نفس الفلسفة لمن يتذكر ذلك. ماذا نفعل بالأرض التي لا نستغلها ولا نخرج منها ثمرا أو زرعا أو معدنا؟ هل يجب أن تبقى أرضا بورا للجميع قد يصبح في أحد الأيام ذلك المبدأ القرآني صرحا لسياسة عالمية جديدة ويستعمل ضد أولئك الذين يملكون أراضي شاسعة، لكن دون استغلالها واستعمالها لخير البشر بينما الآن أصبحت الحاجة ماسة لكل شبر ولكل ثروة لأن الأمر اليوم مرتبط بمسألة وجود البشر أنفسهم، فالطاقات الطبيعية بدأت تنفذ بينما عدد البشر يقوى باستمرار وبسرعة.

وطننا-الأم الجزائر أرض غنية بفعل الطبيعة أو لنقل القدر وهي تطعمنا بدون حساب وسخاء. فهي غنية بمساحتها وأراضيها الخصبة وباطنها الممتلئ مياها ومعادن وبترول، تضاريسها مختلفة، ولديها واجهة بحرية طويلة ومناخها متنوع. إن بلدنا هبة من الصحراء كما يقال أن مصر هبة من النيل. ونحن الجزائريون عشنا من هذه الثروات والخيرات عبر التاريخ دون أن نشقى عليها دائما، ولم نستحق أن ننعم من وطننا كل هذه النعم لأننا في غالب الأوقات قبحنا بأعمالنا وبناياتنا جمال الطبيعة وأفرغنا جذعه من لبه وعصارته دون أن نقدم اي شيئا في المقابل. ومثل الكثير من الأمهات، أنجب وطننا أبناء أبرارا ومتنورين ومخلصين وآخرين ضالين وظالمين  وظلاميين. فمات الأبرار فداء للوطن من أجل تحريره، والآخرون قادوه إلى الهلاك والإفلاس، حتى أن بعضهم أخذوا السلاح ضده، في حين حسبها البعض الآخر مثل الأم التي حملتهم لصالح أم أخرى موجودة في قارة أخرى، أحبوها أكثر ومنحوها جهدهم ووهبوها ثمرة حياتهم. هناك حديث للرسول (ص) يقول أن ” الجنة تحت أقدام الأمهات”، لكننا نحن لم نستحق وطننا-الأم وجنينا من عقوقنا وبهتاننا “مأساة وطنية”، وعشنا الجحيم في الدنيا قبل الآخرة.

لقد منحنا وطننا-الأم الحياة والمأكل والتعليم والصحة. وما فعله لجيلنا، فإن الوطن السخي يود أن يفعله أيضا لأبنائه اللذين سيأتون بعدنا، وهم أبنائنا وأحفادنا، لكن، من أجل تحقيق ذلك، فإن وطننا يحتاج إلى مجهودنا وعبقريتنا، ولا أرانا مستعدين لتقديم هذه الخدمة إلى حد الآن، فإننا بالعكس نعمل على إضعافه. قد تسألونني كيف يمكن ذلك؟ ببساطة، عندما نتكل على الخارج في كل شيء وعندما نبدل مواردنا الطبيعية بخدمات وسلع مصنعة في الخارج، وعندما ندفع نخبتنا إلى الهروب وعندما نحطم معنويات شعبنا، وعندما تتحول السياسة من فن الحفاظ على مصالح الأمة إلى مراوغة للحفاظ على مصالح مجموعة ما، وعندما يتدهور النظام التربوي وعندما لا نفكر في المستقبل بل في الحاضر فقط. لقد تم مؤخرا “استلام” بعض التجهيزات والبنيات التحتية جملت محيطنا بعض الشيء وقلصت من اختناق نقل البضائع والأشخاص، وتزويدنا بالماء الشروب، لكن من أنجزها؟ أجانب. ومما دفعنا ثمنها؟ من ثروات الطبيعة، أي البترول.

يبدو وطننا-الأم وكأنه رضيع صغير في “قماطه” رغم أنه بلغ من السن آلاف السنين منذ عهد نوميديا إلى الاستقلال. وهو الزمن الذي قضت معظمه في محاربة من استعمروه أو تحاول وضع نظام داخلي يجمع شمل أبنائه. لقد استطاع حقا أن يرفع عدة تحديات مثل طرد الاستعمار المستوطن، لكنه لم ينجح في تحقيق التحولات الضرورية لضمان تنمية عادية، ولذا تبدو الجزائر إلى يومنا هذا وكأنها لم تخرج بعد من مرحلة المخاض، وتعيش على الدوام الأوجاع التي ترافقه وإعادة الانطلاق من الصفر بين الفينة و أخرى. وما زلنا إلى اليوم نعيش الامتحان وهذا أكبرهم ربما حيث يكافح الوطن-الأم ضد نزعة الموت التي استحوذت على الكثير من أبنائها، وكأنهم عزفوا عن إتمام العمل مع أنهم قد يقتربون من تحقيق مرادهم وعادوا أدراجهم لكي لا يواجهوا صعوبة المراحل التي تنتظرهم لإتمام الإنجاز (مثل الوحدة الوطنية) والنزاعات التي تنشب بينهم، وهذا حدث كثيرا في تاريخنا.

ومهما كانت تسميتهم عبر تاريخهم المرتبط بمسيرة المغرب عامة، فإن الجزائريين قد عبروا ألفيتين من الزمن دون أن يغيروا الكثير من ذهنيتهم والتي صقلت وجوههم وسلوكهم بصفة دائمة، ومنها ما اتفق عليه المؤرخين مثل تعلقهم بالحرية وتحسسهم الكبير من الظلم واللا مساواة وحسهم الديني العميق. لكن، إن كفاهم هذا الزاد المعنوي والأخلاقي للوصول أحياء إلى حد القرن العشرين، فإنه لم يسمح لهم بالاندماج مع بعضهم البعض ولم يسمح لهم بإرساء أنظمة اجتماعية خارج دائرة العائلة والقبيلة ولم يمكنهم من تأسيس جيش وطني وتطوير أنظمة إنتاج جماعية والعيش في ظل ثقافة سامية وعالية.

لم يستطع الجزائريون تحويل مظاهر الوحدة الخارجية – وحدة التراب والذهنية والدين واللغة – إلا نادرا وفي بعض المناسبات إلى عوامل وحدة حقيقة ومؤسسات سياسية وأنظمة اجتماعية وحراك جماعي دائم ومشترك لمدة طويلة. وكأننا أمام من يملك استعدادات طبيعية جميلة في حالة من التميع ولم يتمكن من جعلها حقيقة صلبة ملموسة، كالطاقة المبعثرة، تحوم في الأثير دون أن تجسد في طاقة فاعلة. ففي كل مرة يأتي استعمار، لا يجد أمامه وعيا وطنيا يهب كالرجل الواحد للدفاع عن الوطن-الأم، بل قبائل شجاعة وشخصيات سامية الأخلاق والتضحية. ولذلك فكانت لا محالة تلقى قدرها المحتوم وهو الفشل في التصدي للمستعمر. والسبب راجع لغياب الحس والتعبئة الجماعيين، وعدم وجود جيش وطني ولا هيآت اقتصادية واجتماعية قادرة ماليا وإداريا على مواجهة حالة الحرب المتواصل وما يتطلبه من نفقات  وتجنيد كل “الطاقات”.

وهذا ما كان يدفع دائما بأبناء هذا الوطن المسكين الى التحالف مع المستعمر الجديد للانتقام من المستعمر القديم. فرأيناهم يحاربون مع الوندال للتخلص من الرومان، ومع البيزنطيين لطرد الوندال، ثم الترحيب بالعرب ضد البيزنطيين وطلب مساعدة الأتراك ضد الاسبانيين. وهو مشهد تاريخي يوحي بالشفقة حيث أن دافع هؤلاء الجزائريين هو استرجاع حريتهم التي يحبونها كثيرا والتي تقلت من أيديهم في كل مرة، لكن دون أن يفهموا أسباب تدحرجهم في كل مرة يحسبون أنهم سيلمسون الغاية ودون أن يعوا أن حالتهم الاجتماعية هي الطاحونة التي ترحي طموحاتهم في كل مرة. وبما أنهم لم يتفطنوا لذلك، لم يحاربوها ولم يقضوا عليها مرة واحدة.

وكأشخاص، لقد تميز الجزائريون منذ القديم بزهدهم واكتفائهم بالقليل، وسخائهم وشجاعتهم وذكائهم، والكثير من الصفات الحميدة الأخرى. لكن ومع هذا لم يتمكنوا من لم شملهم تحت راية واحدة وتنظيم أنفسهم كمجتمع منسجم لأنهم يفتقدون إلى مزية ضرورية من أجل الوصول إلى تلك المرحلة وهي قبول الاتفاق وتقنين حركاتهم واعمالهم وتجاوز تقلبات الزمن والتاريخ. فصفات الجزائري المعنوية والتي تؤدي دورها على مستوى الأفراد، لا تصلح في مجال الاجتماع والسياسة، بل وتؤدي عكس الغرض. وفي الحقيقة لم يستعملها الجزائري ايجابيا إلا قليلا خلال التاريخ، وأكثر ما استعملت فيه في الالتحاق بثورات مثل تلك التي قادها يوغرطة وتاكفاريناس ومازيبا وكسيلة والكاهنة والشيخ المقراني والشيخ الحداد وبوعمامة  وآخرون، لكن لم يوظفوها عندما طلب منهم المشاركة في عملية بناء وحدة وطنية مثل تلك التي بادر بها ماسينيسا ويوبا الأول وابن رستم وبولوغين وياغموراسن وأبو حمو والأمير عبد القادر وآخرون.

لم تدم طويلا حركات الثائرين و كذا الدول التي حاول تأسيسها رجال الدولة، حيث زالت الأولى كما الثانية تحت ضربات الغريب المستعمر أو الانشقاق الداخلي أو الخيانة. فالأمثلة كثيرة خلال تاريخنا الطويل حيث حارب البدو الرحل البدو المستقرين و قاتل الماسيليون الماسيسليون، وبنو كتامة الرستميين والزناتيون الصنهاجيين والزيريون الحماديين والموحدون المرابطين، ثم في وقتنا العروش والقبائل فيما بينها والإندماجيون ضد الوطنيين والحركة ضد المجاهدين، واليوم الحداثيون ضد الإسلامويين والمعربون ضد الفرانكوفونيين…

لم نتوقف عن أخذ ضربات متتالية من المستعمرين الكثيرين ولم نخرج من حالة الفرقة بيننا وهام بعضنا على وجهه في الصحراء بينما تشبث بعضنا الآخر في سفوح الجبال هربا من المحتل. إذن لم تكن لنا فرصة عبر التاريخ لتثمين مزايانا الشخصية والطبيعية فينا وتقنين إمكاناتنا المعنوية وتفعيل وسائلنا واستعمال سخائنا الأزلي لكي نضع أسس “فن العيش كأمة وكوطن”.

ولكن ومع أننا همنا بالهروب إلا أن المحتلين استخدمونا في تحقيق أغراضهم وبناء ما أرادوه على أراضينا. فقد شاركنا الفينيقيين في بناء الموانئ والمراسي على طول شواطئنا والرومان لتشييد مدنهم في سهولنا والأتراك قلاعهم على أعالي جبالنا والفرنسيين في فلاحة أراضينا الخصبة. فكنا بالنسبة لكل هؤلاء، كل حسب نظرته وحاجته إلينا رحالتهم وبرابرتهم ومواليهم وأهاليهم.

لقد شاركنا ونحن مشتتين ومختلفين في تشييد حضارات الآخرين، وحتى بعيدا عن أراضينا. ففي الميدان الفكري ساهم مفكرون كبار في ترسيخ عظمة الحضارة الرومانية أو الكنيسة مثل Saint-Cyprien, Optat de Milev, Fronton de Cirta, Terentius le Maure, Porphyrien, Arnobe, Apulée de Madaure, Saint-Augustin,  لأنهم لم يجدوا حضارة في أرضهم يخدموها ويساهموا في بناء أحدى لبناتها، فلو كان الأمر كذلك، لأنجبوا عملا في سبيلها وفي سياقها.

نحن لم نفعل شيئا بأمازيغيتنا والقليل النادر بإسلامنا وحتى اليوم لم ينفع فينا التأثير الغربي لتغيير حالنا. وكأن كل الأجيال التي سبقتنا خافت من فتح باب التاريخ وأجلت دخولنا في “قفص” وطن منسجم ومستقل إلى ما بعد. وما نعيشه اليوم من اختلال بنيوي يعود سببه إلى كون الأجيال السابقة لم تقم بمهمة تصليح الاختلالات التي عاشتها هي الأخرى وتركتها على حالها.

بكل وضوح، ما نقص الجزائريين لكي ينجزوا ما سمح لشعوب أخرى بالوصول إلى مستوى قوات عسكرية واقتصادية وسياسية هو كونهم لم يغتنموا فرص التاريخ في الانتقال من النزعة الشخصية إلى النزعة الجماعية، ومن الترحال إلى الاستقرار، ومن القبيلة إلى الوطن ومن التفكير العرفي إلى التفكير فقط، ومن الراحة التي اكتسبوها من روح الاتكال إلى روح المسؤولية وصنع مصيرهم بأيديهم. لقد اكتفوا طوال قرون عديدة بالحكم الذاتي على مستوى “الدشرة” والقبيلة، وعاشوا “بالتويزة” و”الجماعة” وهو نظام مبني على الإرادة والعرق ولا تقنين فيه، ولا يتعدى نطاق تطبيقه القرية التي ينبع منها وبقي منغلقا على نفسه ولم يقبل أي تطور منذ قرون.

لم تملك الجزائر في أي وقت من الأوقات ما يشبه مشروع مجتمع يمتد على كل ترابها الوطني ويشمل كل سكانها ويستغل كل ثرواتها الاقتصادية والثقافية، ويستند إلى رؤية لما يجب أن تكون عليه الدولة والوعي الجماعي بأن الوطن كيان واحد وهوية واحدة. ويبدو لي الأمر كما أننا لم نحمل في خلايانا الأساسية المعلومات حول مفهوم المجموعة والموروث الجماعي المشترك. إن “الحمض النووي” للمجتمعات هو ماضيها وهو ما يحوي ذاكرة ما أنجزته خلال تاريخها وما قام به الأفراد مع بعضهم البعض ومجموع التجارب التي مروا عبرها جماعيا وعادات وتقاليد العيش والعمل سويا. ليست المجتمعات فقط ما عانته بصفة شاملة لكن مشتتة بل هي حصيلة كل ما أنجزه أبناؤها بالتوافق والوعي والحرية بأنه يدخل في نطاق مجتمع هو مجتمعهم هم.

إنها كل هذه الأشياء هي التي تمنح لمجموعة ما التجربة الجماعية والعمل بطريقة تميزها عن باقي المجموعات البشرية. إن المجتمع هو أن يتأثر الأفراد ببعضهم البعض وأن يقبلوا كلهم ببعض التنازلات المتبادلة والممارسات التي تترسخ شيئا فشيئا في ذاتهم ويذوب الخاص في الجماعي. وعندما تصبح تلك العادات في السلوك والتفكير والإبداع راسخة في اللاوعي الاجتماعي وتصبح آليات منسجمة ومؤسسات فاعلة، يتأكد دور المجموعة ويقلل من تأثير الشخصيات المنفردة والنخب التي تذهب كل واحدة منها في اتجاه معين لا ينم عن الوحدة الوطنية ولا عن وحدة الانتماء.

إن أسمى القيم وأرقاها، وأكبر المزايا وأكثرها سخاء لا تعد أن تكون عوائق وعيوب إذا لم تستعمل في سبيل أهداف جماعية وبناء الوطن، وتعمل عكس ما يتوقع منها.  وهو ما يفسر أن وطننا-الأم ولد أكثر الأبطال الذين يحرروه منه من الأبطال الذين يبنوه ويحضروه، وهذا ما يفسر أن شعبنا معروف أكثر ببطولاته الحربية بدل إنجازاته السلمية وبأننا نحب “التحديات” بدل المبادرة بأعمال تتطلب طول النفس والالتزام والعمل الجماعي.

عندما يعيش شعب طويلا دون ثقافة جامعة تنظمه وتقنن حركة الذرات الفردية فيه حول عمل منتظم ودون أن يخرج من القانون الجماعي الذي يتفق عليه الجميع، عندما نقطع القرون من دون نظام سياسي مستقر ودون أي قالب قانوني وعندما نعيش في أرضنا بصفتنا مشاهدين على إنجازات الغرباء فيها، كيف يمكن أن نتصور هذا الشعب يفكر حتى في ضرورة إرساء مجتمع متشابك المصالح ومتفاعل المشاعر والأفكار؟ وكيف له أن يشعر بالحاجة إلى مؤسسات يحترمها ويدافع عنها كما يدافع عن حياته لأنها حقا ضرورية لضمان حياة المجتمع؟ إن شعبنا لا يملك هذه الحاجة ولا يرى بدا منها للعيش لأنه استغنى عنها طوال “تاريخه” ولم تجد طريقا لها إلى ذهنه. إنه من المعجزة أنه لم يحدث لنا ما حدث للهنود الحمر وسكان أستراليا الأصليين أو الحضارات القديمة في أمريكا اللاتينية التي اندثرت بفعل وحشية المحتلين الأوربيين ولكن أيضا لتعنتها في الإبقاء على أنظمة قديمة بالية.

 

–      (« Le Soir d’Algérie » du 27 mai 2012)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى