بين الفكر والسياسة

أين نحن منذ الاستقلال؟ 4- الهروب إلى الأمام

بقلم : نورالدين بوكروح

ترجمة  : نورة بوزيدة 

“عندما يعم الجهل، لا يشعر الواحد منهم بالذنب حتى وهو يقترف أكبر الأخطاء، وفي زمن الأنوار، يرتعد الفرد خوفا من قصوره حتى وهو يقوم بفضائل الأعمال”. (مونتسكيو)

لا شك أن ثورة أول نوفمبر أكبر وأجمل عمل جماعي أقدم عليها الجزائريون مجموعين وفي كل التراب الوطني، بل هو العمل الذي جعل منهم شعبا واحدا، ولهذا فإنه الحدث التاريخي الذي يشكل أكبر مرجعياتهم. إنها الثورة التي بادرت بها مجموعة صغيرة من الرجال الذين يعرفون جيدا طبيعة شعبهم لأنهم جزء منه وحاملين روحه في كل جوارحهم. فهم كانوا يعرفون جيدا تعلقه الغريزي بالحرية وأنفته وتحسسه للظلم وعدم العدل وقوة إيمانه الذي يمكن أن يحرك الجبال. وهذا ما جعل شعلة نوفمبر تتحول سريعا إلى لهيب، وأصبحت الثورة المسلحة ظاهرة تحرر جماعية سياسية واقتصادية وثقافية. لكن عندما نعمق النظر فيما حدث، نفهم أن الثورة لم تكن معجزة ليلة واحدة بل كانت نتيجة تحضير نفسي حثيث دام عشرات السنين، قام به ثلاثة أشخاص وطنيين هم عبد الحميد ابن باديس وفرحات عباس ومصالي الحاج. فوصلت تلك الثورة العارمة بشعبنا إلى الاستقلال بعد تضحيات جسيمة.

ومن حسن الحظ أن الشعب الجزائري تحصل على استقلاله في ظروف مواتية حيث تم اكتشاف البترول (1956)، وحيث توصلت الشعوب إلى تنظيم مواردها ومداخيلها من الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية بطريقة عمومية وجماعية كما كانت موازين القوة  في العالم ترجح لصالح حق الشعوب المقهورة في تقرير مصائرها، وتأنيب الغرب على جرائمه الاستعمارية وتسببه في حربين عالميتين فتاكتين، في الوقت الذي أتى من الشرق صوت الخطاب التحرري والمنادي لمساواة الشعوب.

عندما وجد الجزائريون أنفسهم معية شعوب أخرى، يتحدثون نفس اللغة وحاملين نفس المطالب ونفس “الكفاح ضد الامبريالية”، اطمأنت أنفسهم و شعروا بأنهم ينتمون إلى عائلة واحدة وتيقنوا أن ذلك أحسن ما يمكن فعله باستقلالهم الجديد، وأن عبارة “الثورة” مهما كانت هي أحسن ما يليق بطبعهم المتحمس. فبدئوا يصرخون بأعلى صوتهم التي فاقت حتى أصوات الشعوب الأخرى. كان الجزائريون بالطبع جد فخورين بما أنجزوه وأكسبهم إعجاب العالم كله. لكن سريعا ما سقطوا في سحر الكلام وظنوا أنه من السهل أن يجنوا ثمارا جنتها الدول العريقة التي بذلت قرونا من الجهد من تطور وديمقراطية والهالة الدولية وحتى كأس العالم في كرة القدم.

ولأول مرة منذ وجودهم فوق وجه الأرض، واجه الجزائريون وضعية من نوع جديد حيث لم يكونوا أمام تحدي وقد رفعوا أجملهم (ثورة أول نوفمبر)، بل كانوا أمام ضرورة إحداث تحول في أنفسهم بأن يشيدوا دولة وطنية وأن يصبحوا مجتمعا وأن يعملوا مع بعضهم البعض وأن يخضعوا لقوانين جديدة. فكان الأمر جد مختلف من مواجهة عدو ما، وهو الأمر الذي تعودوا عليه ويعرفونه وقد ألفوا طوال تاريخهم الثورات والانشقاقات والانتفاضات. لكنهم لم يعرفوا شيئين هما التعلم كيف العمل والعيش مع بعض وكيف يمنعون أنفسهم من السقوط كل مرة في براثين استعمار جديد. وكانت هذه الإشكالية مطروحة على الجزائر يوم الخامس من جويلية 1962، إلا أن اللذين كانوا يحتشدون أمام أبواب السلطة للتقرير في مصير البلد الناعم الأظافر لم يكونوا محضرين فكريا ومعنويا لحل تلك الإشكالية وأخذ الوجهة اللائقة.

كانت أول تجربة لبناء الوطن (1962-1988) فاشلة لأنها، عكس ما حدث في الثورة التي حركت أعمق ما في لدن الجزائري، كانت مجرد استيراد نظام تسيير سياسي واقتصادي وإلصاقه على الأرض الجزائرية وروحها، مع أنه كان لا يناسبهما بل ويتناقض مع كل معطياتهما النفسية.

فكان من الواضح أن “مشروع المجتمع” ذاك كان آيلا للفشل لأنه كان مرتجلا أسرع الرجال في تطبيقه ليس رغبة منهم في الإسراع ببناء دولة والتحضير لذلك التحول الضروري بل بالاستحواذ قبل غيرهم من مناصب سياسية ومنازل بقيت من غير مالك، بل وأكثر من ذلك، هم لم يكونوا واعيين بالإشكالية على الإطلاق. فشل المشروع لأنه لم يستند على ساعد الجزائري في تنمية بلده بل بالعكس تم تخديره بإطراء في غير محله، وإنسان يسعى للاستفادة من مزايا لا يشقى من أجلها و”شهار” من غير جهد، لكن في المقابل منعه  من اكتساب قطعة أرض وبناء منزله  وزراعة حقل يملكه والمبادرة بنشاط اقتصادي حقيقي والتعبير عن رأيه مع أن الجزائري معروف عنه تعلقه بالحرية والطموح، لا يحب من يلوي ذراعه ولا يتحرك إلا إذا اقتنع بشيء، مهما كان.

لكن في حقيقة الأمر، لم يكن ذلك المشروع سعادة الإنسان الجزائري وازدهاره معنويا وماديا، بل كان همه الوحيد هو نجاح “الثورة الاشتراكية”. لم يكن يهدف إلى بناء مجتمع جزائري حقيقي بل اكتفى بحلم وخيال تحول مع الوقت إلى أكذوبة سموها “الاشتراكية الجزائرية الخاصة”. لم يكن الرجل الموصوف في الخطابات هو الإنسان الجزائري الذي يعيش عيشة ظنكى بل كان إنسانا مجردا، وصفا مثاليا وموضوع خطابات طويلة عريضة يلهم من يريد من أصحاب “البوليتيك”. أما الجزائري الحقيقي فكان يعيش الذل يوميا، محروما من أدنى الحريات مثل أن يسافر إلا الخارج وكان يومه مليئا بندرة المواد الغذائية و”الحقرة”. في الحقيقية، كان ممنوعا عليه أن يصير تلك الحقيقة التي يسمعها عن نفسه في الخطابات وكأن الأمر يتعلق بإنسان آخر.

وبمرور الوقت والخيبة، لم يعد يعرف ضرورة جهده في بناء الوطن ولا دوره ومكانه فيه، فتحول إلى إنسان خامل ينتظر ما يأتيه من “الدولة” لأنه استسلم لواقع مرير بعد أن فهم أنه لا يعتبر فاعلا اقتصاديا ولا مساهما ضروريا ولا ناخبا سيدا، وبأن كل حياة جماعية قد تساهم في بناء حسه المدني مرفوضة له وبأن كل اعتراض سياسي ممنوع كما منع عليه الاختلاف الثقافي.

وقامت السلطة بتفرقة المواطنين وتقسيمهم لكي تحترز من كل اتحاد قد يجمعهم ضدها، فأفشت العداوة بينهم و”الحسد”، وأشعلت فتيل العداوات الجهوية القديمة، مانعة في نفس الوقت تكوين الشعور بالانتماء إلى وطن واحد. لم تكن السلطة تود أن يصبح الجزائريون مجموعة أفراد وكيانات واعية بمكنونها ومسئولة عن نفسها وعن مصيرها الجماعي بل أرادت إبقائه في شكل “شعب”، وجمهور ساكت وخاضع لنزوات الرجال “المعجزة” و”الزعماء” الذين لا يخطئون والقياد الثوريين.

برهن نقولا برداييف في كتابه “منابع الشيوعية الروسية ومعناها” أن الشعبوية الروسية وجدت متكأ لها في العدمية التقليدية التي يحملها الشعب الروسي، بينما وجدت شعبويتنا نحن ركيزتها في ذهنياتنا القديمة المبنية على رفض الاختلافات الاجتماعية، والتي تؤدي مثلا إلى ثبول الفقر المعمم على أن “يترفه” البعض منا، ولو بجهده وعرقه. ووجدت طريقها غبر رفضنا لكل قانون أو معيار أو سلطة نخضع له كلنا، راغبا في الحرية المطلقة سواء لفعل الشر أو الخير، ومتعنتين في تحكيم العقل إذا لم نلبسه لباس العاطفة.

تتمثل عدميتنا نحن و”خشونتنا” في تيار خفي، يسري وكأنه نهر جوفي يحمل الكثير من المقالات الشعبية والعادات السلبية التي تسقي لاوعينا الجماعي منذ آلاف السنين بأفكار خاطئة أورثتنا سلوكات جماعية غير سوية  تسببت في تآكل مصلحتنا العامة. والنتيجة كانت حتما الخضوع لمختلف التأثيرات الخارجية وتشكل خليط الأفكار المتضاربة والمتصادمة التي تميزنا اليوم. ولم يقم أصحاب الاشتراكية الجزائرية الخاصة سوى استعمال هذه المادة الأولية وأضافوا لها عميهم واعوجاج نظرهم.

لم يكن ذلك المشروع لينجح لأنه كان منطلقا من مسلمة خاطئة تقضي بأن الدولة هي إله يغدق على شعبه بالخيرات أو ينهال عليهم بالعقاب كما يحلو له لا يشرح أسباب تلك وذاك، والمواطن بطن يأكل  في سكوت. ومثله مثل الإله أطلس في الأسطورة الإغريقية، أرادت الدولة أن تحمل على كتفيها كل الجزائر، أن تبني كل المساكن، أن تخلق كل مناصب الشغل، أن تنقل كل المسافرين، أن تعالج بالمجان كل الناس، أن تدعم أسعار المواد الاستهلاكية، أن تملأ كل مرة صناديق المؤسسات العمومية عندما تفرغ، كل هذا من غير أن تطلب من مواطنيها أن يعملوا وأن يدفعوا ضرائبهم واستغنت حتى من مداخيل العملة الصعبة للمهاجرين. لكان ذلك نموذجا خياليا، بل ضرب من الجنون لا يمكنه الصمود طويلا أمام ضرورة العودة إلى أرض الواقع ووضع أرجلنا في “الماء البارد”. لكن الدولة الجزائرية لم تفكر في الأمر أبدا وقد أصابها العمى وهي ترى البترول يتدفق من غير حساب، وتبذر أيضا من غير حساب. ونحن نعلم أن السلطة التي اختبأت وراء ستار الدولة لم تكن تسعى لتحقيق ما كانت تعلنه للشعب الساذج بل كان الكثير ممن ينتمون إليها يغتنمون فرصة تواجدهم في السلطة لملأ جيوبهم من الريع ويدفعون بالدولة للهروب إلى الأمام لكي يواصلوا في نهب خيراتها.

وتعنتت السلطة التي يطبعها اللامبالاة واللاوعي في المغالاة الديماغوجية والوعود التي تعلم يقينا أنها لن تفي بها في الواقع. فصار خطابها ضربا من الأكاذيب لكي يوقف تفاقم الحاجة التي كانت تخلقها بنفسها. كيف يمكن لأي دولة في العالم أن توفر حاجة شعب ينمو بسرعة فائقة لوحدها؟ ومع ذلك لم تكن السلطة مستعدة للاعتراف أمام الشعب الذي ينتظر منها كل شيء لأنها أرادت منه ذلك لاستعباده، بأنها لم تعد ذلك الأب الذي يجب أن يحضر كل شهر ما تعيش به العائلة الكثيرة لكنها ساكنة خاملة.

لقد وضعت الطبيعة والبشر قواعد معينة للجميع ربح لقمة العيش والنجاح وحتى الإثراء. لكن الشعبوية أهدرت قيم الجهد والاستحقاق والدراسة، وقضت على فرص الازدهار الشخصي بأن قتلت روح المبادرة الليبرالية والاستثمار لأنها لم تكن ترغب في أن تتكون داخل المجتمع الجزائري طبقات متوسطة مؤثرة، بل “قررت” أن يبقى الجزائريون مجرد “جماهير شعبية”.

فالدولة إذن هي التي استنفرت الشعب ضدها بأن أرادت أن يرى فيها الرب العالي القادر على كل شيء. إن معظم الجزائريين تربوا في ظل ديماغوجية تعلمهم أن مهمة الدولة الطبيعية هي أن تطعم وأن تسكن من كلف نفسه عناء المجيء إلى الدنيا. لذا، وبمجرد أن بدا للجميع أن الدولة لن يمكنها المواصلة في القيام بدور “الأب” وبواجباتها نحوهم أي عندما توقفت الدولة عن تحمل مسؤولية شعب غير منتج وبأنها لم تعد تملك المال والقوة ، أداروا لها بظهرهم وانهالوا عليها سبا وشتما وأرادوا قتلها في الخامس من أكتوبر 1988، وشحذوا السكاكين لذبحها لتهمة الرشوة والكفر.

والتفتت أجزاء كبيرة إلى وجهة أخرى سمعوا منها أصواتا جديدة تعدهم بدولة مثالية تطبق فيها العدالة الإلهية على الجميع وبسرعة وجد ذلك الحلم الجديد من يتبناه ويجسده ويستغل الحقد الشعبي على الدولة الجزائرية ووعدوها بدولة إسلامية. و في استحقاقات جوان 1990 وديسمبر 1991، فاز ذلك السراب الجديد الذي فهم الجميع أنه إنكار للدولة الجزائرية المعروفة بأغلبية الأصوات. فتهجمت الجماهير على “الزعماء” وهللت “للشيوخ”.

وهكذا تحول الكائن الكلوروفيلي الذي يؤمن بالسحر والعجائب والذي تقوده أحاسيسه بدل تحكيم عقله الذي لم يتعدى بعد مرحلة الطفولة إلى إنسان ديني يدفعه طمع من نوع جديد : الخداع في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

إن الإنسان مركب من مجموعة اندفاعات طبيعية يقلمها المجتمع ويكيفها لكي يمكنه البقاء والدوام. وبهذا الهدف توجه المجتمعات أفرادها نحو شتى أنواع التعبير السلمي عن أنفسهم مثل المنافسة الاقتصادية والتدافع الفكري والسباقات الرياضية والنشاط السياسي والحياة الجمعوية والإبداع الفني…، لكنها لا تقهر تلك الميول الطبيعية التي يحملها فطريا كل إنسان ولا تتجاهلها لأن لها الحق في الوجود والترعرع. إن أسباب الثورات الاجتماعية تعود دوما إلى أن رغبة المواطنين في حياة أفضل وللتقدم وجدت ما يقهرها وما يعطلها أمامها، وقد وضعتها في الغالب السياسات التي تنسى أنها هي التي تسخر لبناء الإنسان ولي الإنسان من هو يسخر من أجل أن تعيش هي. فالمآل الحتمي لها إن تعنتت هو الانفجار والثورة عليها.

فشلت سياسة التسيير القهري في الجزائر كما في جميع البلدان التي جربته، وهذا بالرغم من أن بعض ما أتت به معقول ومقبول. لكن مشكلة تلك السياسة أنها تركز القرار في دائرة ضيقة وتشل المبادرات والحريات وتنفي على طبيعة الإنسان ميولها فتحرمه من الحلم والأمل وتمنع الجميع من الاكتساب الشرعي والربح المستحق. فمن الطبيعي أيضا، وهذا ما لم بفهمه مسيرونا، أن ينتفض الإنسان الذي تفرض عليه كل تلك الظروف والمحرومات، وأن يدافع عن نفسه ولو بارتجال، وأن يتخذ مسالك محللة أو ممنوعة، وإن انسدت تلك المسالك، يكسر الحيطان ويدمر الحواجز وهي ما تسمى بالثورة. فمثلا، عندما نمنع الملكية الفردية، هذا لا يعني أننا منعنا الإنسان من غريزة الاكتساب التي لديه وهي ضرورية لبقائه وتوارثه، بل قمنا فقط بفرض اعوجاج في الأفكار ووضع علاقة غير سوية بين المواطن والدولة. إن الملكية العامة ليست مجموع الملكيات الفردية بل هي التخلي عن الملك العام وتبذيره من عير أن يشعر أحد لأنه معني بالأمر.

إننا نعيش في بلد أخذ فيه مفهوم “البايلك” صبغة سلبية في الأذهان، ولذا لم يكن ممكنا أن ينظر للملكية العامة إلا كإنكار للمواطن مرة أخرى لصالح مفهوم لا وجود له في الواقع، وكان الأمر أكثر ضررا في المجال الاقتصادي حيث أن الاقتصاد العام لم ينفع العمال بل أصحاب الريع. وعندما حانت الساعة لكي ننظر إلى الحقيقة، لم نجد وراء الخيال سوى الفقر والهدم والرشوة والإثراء الغير الشرعي والمزايا للبعض القليل، بينما جنت الأغلبية الضغينة والبطالة.

لقد تحدثنا في مناسبات أخرى عن النماذج الاجتماعية التي ولدها هذا النظام السياسي : “الحيطيست”، “الترابنديست” وبعدهما الإرهابي والحراقة. علينا أن نتفحص المثالين الأولين : ف”الحيطيست” صورة حية عن الكائن المتروك لحاله، الذي لا يربطه بالمجموعة أي شيء ولا يعنيه أمر حوله ولا موضوع. إنه ليس شبيه البطال الذي يظهر في بلدان تملك اقتصادات تعرف حالة تراجع، والذي يجري من وكالة تشغيل إلى أخرى ويبحث في إعلانات الجرائد عن فرص عمل جديدة. إن “الحيطيست” الجزائري إنسان يشعر أنه مقصي من كل شيء وكتفت يداه ورجلاه وهو مقتنع أن كل الأبواب مسدودة أمامه مهما فعل. وهو يمثل صورة من يتكأ على الحائط (ومن هنا أتت كلمة “حيطيست” بالعامية الجزائرية) أو يجلس على حافة الطريق ينظر إلى المارة ومعهم تمر حياته ووقته. إنه الإنسان الذي يولد في محيط يرفض المبادرة الفردية بل ويمقتها وحيث كل شيء يأتي من “فوق”، فهو محكوم عليه العطل والعطب بمجرد أن يعقم ذلك “الفوق”. لكن من كانوا “فوق” لم يفكروا في تحرير الناس من تلك العلاقة الوريدية القديمة، بل أرادوا التمادي فيما شرعوا فيه وأفهموا الشعب أن الماكنة حقا قد أصابها بعض العطب لكنها ستنطلق مجددا عن قريب. وإن كان الفراغ يولد المساوئ كلها، فإن حالة “الحيطيزم” يفعل أكثر من ذلك لأنه ليس فراغ الوقت واليدين فقط بل هو حالة فراغ الروح والذهن وهو نظرة وحقد للآخرين وسوء الظن بهم، ولذا فإن الحيطيست مستعد للدخول في أي مغامرة تقترح عليه لأنه مقتنع بأنه قد حرم من حقه وبأن الجميع استعمله “باطل” وبأنه تم التضحية به. فامتلأ غضبا  على الدولة التي لم توظفه ولم تسكنه، وهو لم يعد يبحث عن طريق للعودة إلى حضن المجتمع بل كيف يهرب بعيدا عنه أو عن وسيلة لينتقم منه.

أما “الترابنديست”، فإنه تحريف لصورة “العامل الاقتصادي” وهو رمز للاقتصاد الخفي والموازي والتهرب الضريبي. ولا يناسب نشاطه أي منطق بل يعبر فقط عن الميول العشوائي لمجتمع ليس بمجتمع ومعرض “للقفازة” و’الشطارة” و”التدبار”. ولد “الترابنديست” في وقت الندرة والاقتصاد المسير وهو حكم الخدعة والتهريب والتزييف، والإفلات من الجمارك والضرائب. لكن ويا للعجب، فإن الاقتصاد الجزائري ما زال قائما بفضله لأنه هو من يزود سوقه بكل شيء ويشغل آلاف الشباب لكنه يبقى غير صحي وغير سوي في المبدأ.

لقد استعمل حكامنا فكرة أن الاستقلال يفتح أبواب الرفاهية والثراء منذ البداية وسوقوها إلى حد الهراء في خطاباتهم الوطنية والديماغوجية، وأعادت تكريرها الدولة الشعبوية من أجل إرساء قوتها وتدخلها في أدنى حيثيات الحياة الوطنية والشخصية. لقد انطلقت الشعبوية من إلهام يدعي الإنسانية وانتهى بمآسي كبيرة من زحف ريفي والإقلاع عن الفلاحة والزراعة واحتقار المهن التقليدية وانفجار سكاني وتبذير لا سابق له…. بل وأكثر من ذلك، لقد حطمت الشعبوية عقل الجزائري بأن أوهمته بأنه يمكنه العيش من دون عمل وبأن الدراسة لا تنفع ولا تجدي وبأن “النضال” داخل الحزب الواحد يكفي لضمان العيش. لقد أجاب أحد الفلاسفة على السؤال: “ماذا يعني أن نعيش؟” قائلا : العيش معناه أن نتوجه نحو شيء ما، هو المشي نحو هدف معين. لكن الهدف ليس هو طريقي وليس هو حياتي بل هو ما أقتي حياتي من أجله”.

في سنة 1962، كان من الضروري أن تكون لمسيرة الجزائريين وجهة ولحياتهم مهنى غير المعنى الحيواني. كان يجب على من أرادوا قيادته أن يوجهوا أصابعهم نحو هدف معين ووضع إطار حياة جماعية جديد مبني على قيم متفق عليها ومعايير اجتماعية واقتصادية عقلانية وعادلة. لكت العكس هو ما حدث، فالإصبع لم يشهر سوى لفرض السكوت سمعا وطاعة لحكامهم ولم يوضع أمامهم مثل جماعي يسعون إلى تحقيقه و نزعت منهم حرية المبادرة ولم يعرض عليهم أي حلك جماعي بعد أن حققوا حلم الاستقلال.

وبمجرد أن انتهى الكفاح من أحل تحرير البلاد قال لهم حكامهم ك الآن توقفوا عن كل حركة، لا تفعلوا شيئا ولا تتفوهوا بشيء، سنقوم بكل شيء بدالكم لأننا نحن من يعلم أين سنقودكم  ونحن من بعرف كيف نحقق لكم سعادتكم. فسمع الشعب حكامهم الذين نصبوا أنفسهم بأنفسهم وانتظروا لمدة ثلاثين عاما، وفي أحد الأيام استفاقوا وفهموا أن انتظارهم الطويل كان من أجل لا شيء وبأنهم ذاقوا بدل الحلم كابوسا وتجرعوا بدل السعادة الحرمان المتواصل و المستقبل الغامض وغياب الأمن واضطروا إلى الهجرة إلى أي بقعة في الأرض تفتح أمامهم.

ودامت آمالهم ما دامت الوعود الواهية التي كان حكامهم يحضرونها بمناسبة أو بغير مناسبة وهم الذين استهلوا الاستقلال بوعد كبير وهو أن الاستقلال سيمدهم آليا كل شيء يحلمون به من مسكن وعمل وعدالة وحتى “القيمة” بين الشعوب الأخرى. فنزعت السلطة عن كاهلهم ثقل التفكير في مستقبلهم وحرج اختيار مصيرهم وأعفتهم من واجب المساهمة في وجهة البلاد وتحضير مستقبلهم. فكانت “توصيات” السلطة الوحيدة أن يبقى شعبا “خشين الراس” وأن يشعر بأنه فرعون رغم فقره (الزلط والتفرعين). فبقي الجزائريون يعيشون في حلقة مفرغة ذهنيا وثقافيا إلى أن أفرغوا من كل ما يكون الإنسان المعتدل والسوي والإيجابي، ولذا كان لقمة سائغة للمشعوذين اللذين اكتسبوه بسهولة عجيبة وجعلوه يتنكر للهوية الوطنية وللدولة الوطنية وأغرقوه في أحقاد مع إخوانه الجزائريين.

لم يكن الجزائريون شعبا تفرض عليه الأشياء عنوة أو يخدع بالتنميق، حيث لا يوجد شعب فوق الأرض يصعب حكمه بالعصا كما تعلم ذلك مختلف المستعمرين والدولة الشعبوية، إلا أنه شعب يتحمل إلى أقصى درجة ما يمكن تحمله من اعتداءات على كرامته وحرياته، لكنه بعد ذلك سحب الثقة من مسيريه واسترجع حريته في التقرير فيما يريد فعله، ولو قرر أن يدمر كل شيء بعد ذلك.

(Le Soir d’Algérie du 10 juin 2012)

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى