بين الفكر والسياسة

الأعمى و المشلول

بقلم: نورالدين بوكروح

في القرن الثامن عشر كتب الفرنسي كلاريس دي فلوريان ( Claris de Florian) أقصوصة شهيرة سماها “الأعمى و المشلول”، لا تنتظر النهاية لتعطينا عبرتها بل تظهر منذ الأسطر الأولى: “ليساعد بعضنا بعضا، سيصبح عبء مشاكلنا أخف“.

يقال أن أصل الحكاية من الصين و أنها من كونفوسيوس   (Confucius)شخصيا. و بما أننا نحن الجزائريون نعيش في وقتنا الحالي حالة الأعرج الذي يتساءل عما يجب فعله لينجو من مستقبل بائس يعدنا به الجفاف السريع الذي يطال مواردنا النفطية، فربما ستلهمنا قراءتها لإيجاد التصرف الذي يجب أن نكون عليه.

في مدينة أسيوية قديمة التقى اثنان من المساكين، أحدهما أعمى لا يجد من يقوده و يوجهه، و الآخر مشلول و ملقى في الشارع لا يقوى على  الحراك. في يوم ما سمع الأعمى أنين المعوق و قصده قائلا: “لديّ مصائبي و لديك مصائبُك، لنتوحد فتصبح مصائبنا أخف. فأنا أملك قدمين و أنت تملك عينين، سأحملك لتتحرك و عيناك سترياني الطريق، سأمشي لك و سترى لي، صداقتنا ستجعل حياتنا التعيسة أخف و أفضل…”

أعمي لي عين !

و على عكس الاتجاه الذي ترمي إليه عبرة هذه القصة و الثقافة الاجتماعية التي تعبر عنها في طيها، نجد بالمقابل في خلفية الذهنية الجزائرية حكاية من نوع آخر توضح جانبا من طريقة تعاملنا مع الآخرين. فتروي قصتنا بأن عينة صغيرة من عدة جنسيات أتيح لها يوما أن تطلب ما تشاء فيتحقق لها، بشرط واحد فقط هو أن يعطى لكل من طلب شيئا أن يتحقق له لكن أن يعطى لجاره ضعفه.

فطلب الأمريكي و الأوربي و الآسيوي و الإفريقي كل واحد شيئا، من علم أو بيت أو مال أو سيارة فخمة، ثم جاء دور الجزائري. فتفحص هذا الأخير جيدا شريط ماضيه مع جاره، ثم بعد أن فكر جيدا أجاب: “أعمي لي عين …”

محتوى الحكمة الآسيوية هذه غريب عن فلسفتنا الاجتماعية إن لم يكن بالقول فبالأفعال، نحن الذين نشتكي بسهولة من مصائبنا و لكن في نفس الوقت نبتهج بتلك التي تصيب الآخرين. نواسي نفسنا من محننا عندما نرى غيرنا في أشد مما أصابنا، و في بعض الأحيان حتى نكون نحن من يتسبب في محنهم. لا نُوَحّدُ قوانا بل نستعملها ضد بعضنا البعض، و لا يخطر على بالنا بأننا لو جمعنا بين القوى الهزيلة لكل واحد منا سيمكن أن يخرج من ذلك خير كبير لنا جميعا.

لا شك في أنه لو كانت الشخصيتان في حكاية دي فلوريان متسولين جزائريين يتقاسمان رصيفا أو عتبة مسجد لما خطر على بالهما أن يبحثا عن طريقة يتشاركان بها ليستفيد كل منهما و يتجاوز إعاقته، بل بالعكس لحارب أحدهما الآخر دون هوادة حتى يرحل من المكان.

“سلك راسك” جماعي

كلنا يدرك الضغط العصبي الذي يعيش فيه جزء كبير من الجزائريين بسبب المشاكل التي تطرحها الملكية المشتركة، الجوار، نظافة الأجزاء المشتركة، صيانة الأجهزة العمومية والمساحات الخضراء و حالة الطرق. و ذلك أينما تشكلت مجموعات سكنية جماعية بدئا من “العقارات الشاغرة” التي احتُلت في المدن غداة الاستقلال، إلى الأحياء الجديدة المغروسة في الخلاء، إلى التعاونيات العقارية الغير كاملة.

أما في الجانب السياسي فالحال ليس أفضل. كل حزب سياسي يصون مساحته الصغيرة ويلمع صورة “الزُّعَيّم” الصغير الذي يقوده بكل غرور، غير واع بتفاهته، بدل أن يعملوا على توحيد قواهم المبعثرة حول رؤية توافقية، و تطوير خطاب متناسق جامع، و بناء برنامج مشترك يتجاوز الانشقاقات الإيديولوجية، و تقديم قوائم انتخابية مشتركة و مرشح واحد للرئاسيات؛ و هو ما يمثل في الواقع الفرصة الوحيدة التي يمكنها في يوم ما أن تشكل بديلا “للنظام”.

يتظاهرون عوض هذا بالانضواء تحت لواء إستراتيجية جماعية ولكنهم في نفس الوقت يحتفظون بهامش من “الاستقلالية” ليمكن لأحد منهم في وقت ما، أن يرتكب الخيانة التي ستلقي بكل شيء على الأرض. رأينا ذلك في السابق مرارا و سنراه مجددا في المستقبل، رغم أن إستراتيجية توحيد القوى هذه تستحق كل التضحيات. إنها ضرورية مرة واحدة فقط، تلك التي ستسمح تحديدا بإسقاط “النظام” بالوسائل السلمية و الديمقراطية.

في غياب آليات نفسية معتادة منذ زمن طويل على عادات راسخة نهائيا للحياة المشتركة، لا يريد الجزائريون المشي في اتجاه واحد للوصول إلى بر الأمان. كل واحد منهم يجري في الاتجاه الذي تمليه عليه غريزته الفردية، في فوضى كبيرة سرعان ما تحولت إلى “سلّك راسك” جماعي و شامل.

ينصبون الفخاخ لبعضهم البعض، و يحتالون على بعضهم البعض في الصفقات، و يضعون أنفسهم في خطر الموت على الطرقات بالتجاوز المجنون و عدم احترام أي قانون، و يضحكون للفزع إو للحادث الذي يتسببون فيه للآخرين. لا يوجد بلد آخر في العالم نشهد فيه لقطات مضادة للحضارة مثلما نراه عندنا.

هذا لأن العلاقات بيننا لم تبنى على أفكار التعايش المشترك و البشاشة و القيم المدنية، بل على عادات ريفية و تقاليد بالية تجاوزها الزمن، تغذيها قيودٌ عائلية تتعارض مع الاحتياجات الاجتماعية المعاصرة، و المغلفة بروح الكتمان و الإخفاء الذي نحسبه احتشاما.

ألم يحدث لأي مناّ أن يأمره متسول أو حارس “باركينغ” بإعطائه المبلغ الذي يطالب به تحت طائلة الشتم أو الضرب إذا رفض؟ أو أن يتعرض لآخر ارتكب خطئا كان على وشك الاعتراف به، قبل أن ينقلب فجأة في هيئة عدوانية و يصيح: “ألم تر غيري؟ ألم تر الآخرين يفعلون نفس الشيء؟ أم أنه من السهل التعرض لي فقط يا أيها الحقار“.

ها هي الأدوار إذا انعكست، و ها قد تحول المذنب إلى ضحية بعد أن تغذي بحججه و انفعالاته الخاصة. لم يبق للآخر إلى الهروب و النفوذ بجلده لأن المارة سيعطونه الحق للمذنب الضحية و يلومونه بدل الأول… رجال الشرطة و الدرك و العدالة يعرفون أكثر من أي طبيب أو عالم اجتماع هذه التصرفات اللااجتماعية المضحكة المبكية، و ما تتسبب فيه و تكلفه.

فصيلة الخونة

نحن مجتمع ازدهرت و راجت فيه منذ القديم “فصيلة الخونة”. و رأينا آخر مثال عن هذه الحقيقة المرة خلال الثورة أين فاق عدد الجزائريين في الجيش الفرنسي (100.000) عددهم في جيش التحرير (30.000). من أين جاء هذا الميل الطبيعي إلى الخيانة؟ من أفضلية المصلحة الفردية على المصلحة العامة، من كراهية الآخر، من الأحقاد القديمة، ومن “الحسد” و “الحقرة” التي لا نحب أن نتعرض إليها و لكننا في نفس الوقت نفرضها عمدا أو دون قصد على الآخرين.

حياتنا الوطنية عبارة عن رقصة جماعية على لحن الخيانة: اتحاد المال القذر و السياسة، الشراكة المزيفة بين الديمقراطيين و الإسلاميين، تصفية الحسابات بين الأجنحة المتنافسة في “النظام”، الاتفاق على المطالبة الجماعية بالحقوق، التهرب الشامل من الواجبات، الأنانية العمياء، اللامبالاة العامة بالاحترام أو مصير الضعيف أو بالمصلحة العامة…

كثيرون نحن في السير في الطرق و الشوارع و الأسواق، أو في التدافع على الصلاة في المساجد، لكن نادرون في الحياة الاجتماعية أو الحزبية الحقيقية. نعتبر أننا نوجد في الدنيا لنأخذ دون أن نعطي شيئا بالمقابل. جماعة من “الجحوات” (جمع جحا) تجرى بأقدامها إلى  الهلاك.

حتى قبل الاستقلال كان للجزائريين مشكلة مع سلطتهم: فالثورة كانت في الجزائر و فيها قُتلَ مليون و نصف من الشهداء، لكن القرارات التي تسيرها كانت تتخذ في الخارج، مصر ثم تونس و المغرب، من طرف قادة لم يستشهد منهم إلا من اغتالَهُ رفاقُه. الشعب كان من واجبه أن يموت في الداخل، بينما القادة كان من حقهم أن يحافظوا على أرواحهم من أجل الاستحواذ على السلطة.

لا يوجد مثال آخر عن ثورة تحرير بقي الشعب فيها يحارب في بلده بينما كان قادته في بر الأمان خارجها. هذه القاعدة الجزائرية الخاصة استمرت بعد الاستقلال، و كان على الشعب المدين بالجميل أن يقدس أيضا المجاهدين المزيفين و أسطورة “الشخصيات التاريخية”.

ذلك أول خطأ بنيت عليه الجزائر المستقلة و المنبع الذي تولدت عنه باقي الأخطاء التي شيد فوقها “النظام”: تزوير تاريخ الثورة، منع كتابة التاريخ، إخفاء الدور الحقيقي للأشخاص، إخفاء الجرائم التي لم تهدف لإضعاف الاستعمار بل لإبعاد المنافسين عن طريق السلطة… النتيجة بعد نصف قرن هي أن السلطة توجد في ضفة و الشعب في أخرى. الرأس و الجسد لا يتعاونان، لا ينسجمان و لا يثقان في بعضهما. الثاني يتهرب من أوامر الرأس و الرأس يتصرف كما لو كان لا يحتاج إلى جسد ليحمله.

رأس أعمى على جسد معوق، و تركيبة لا يمكن أن تقود الجزائر إلّا إلى الهلاك ، فهما الآن تفاهما على مجرد هدنة مؤقتة تسمح لهما بتقاسم الريع في انتظار أن ينفذ. “راح البعير و ما خلى غير بعرو” كما قرأت مؤخرا في أحد التعليقات التي وجدتها على صفحتي في الفايسبوك. عبارة تترجم شعور ذلك الذي مضى و لم يترك ورائه إلا مساوئ ما فعل. مقولة ينسبها الشعب على حكامه الذين ينسيه آخرهم ما فعله سابقوه من الشر.

أفكار كونفوشيوس و فلسفة جحا

منذ حوالي نصف قرن كانت الصين بلدا مستعمرا كما كنا نحن. اليوم هي توشك أن تصبح القوة الاقتصادية الأولى في العالم. الصينيون يعيشون بيننا منذ عقدين من الزمن، و يمثلون بانضباط و صمت أمامنا فنَّ العيش الساري في بلدهم دون أن يتحتم علينا الذهاب إليه، لعلّنا نتعلم ما أوصانا به رسولنا الكريم. و كل يوم نرى أمام أعيننا مَنافعَ و محاسنَ هذا العلم، لكن دون أن نسعى لتعلمه أو توظيفه لصالحنا.

دون أن الحاجة إلى الكلام، يلقننا الصينيون شتى الدروس في العمل المنجز بسرعة و بإتقان، و في طريقة الاندماج مع المناخ و الناس في بلد أجنبي، و في طريقة تعلم العربية و الدارجة و الفرنسية و الأمازيغية في وقت قصير. لكننا لا نريد أن نتعلم هذه الدروس التي نعمى حتى عن رؤيتها لنصبح أحسن مما نحن عليه. نعم، نحن نعرف كيف ننتفع منها، لكن، لنطبقها لما فيه خير لنا جميعا، لا. بل بالعكس نكتفي بالضحك على خفة حركاتهم، و نعتقد أننا أفضل منهم لأنهم جاءوا للعمل عندنا، و نسخر منهم لأنهم يأكلون القطط و الكلاب.

المجتمع الصيني أنجب منذ خمسة و عشرين قرنا كونفوشيوس الذي تظل أفكاره سارية المفعول إلى اليوم، أمام أعيننا، على النحو الذي تدل عليه الحكاية المذكورة أعلاه. أما “اللامجتمع” الجزائري فتبنى في القرون الوسطى فلسفة “جحا” التي ترتكز على مصلحة الفرد دون اعتبار لمصير الجماعة. نتيجة فلسفة هذا الشخص الذي نجهل انتسابه الوطني هي أن يصبح كل فرد في المجتمع يشك بنفاق الآخر أو بأنه يريد جذب الغطاء لجهته وحده، أو بأنه يفضل مصالحه الشخصية على حساب الآخرين.

الطبيعة الجزائرية ليست خيّرة تماما و لا شريرة تماما. إنها تحمل مثل كافة البشرية قليلا من الاثنتين، و  تتفاعل مع العالم الخارجي بإظهار الوجه الأول أو الثاني بالتناوب، و ذلك إما حسب الثقافة المتفشية في المحيط أو باللاثقافة المسيطرة عليه. كونفوشيوس يرى أن اتحاد الأشياء المتضادة يخلق التناسق، أما جحا فيرى أن اتحاد المتشابهة منها تهدم الوحدة. أما المنطق فيقول أن محتالا واحدا في مجتمع شيء يمكن تحمله، لكن عندما يكون عدد المحتالين في مجتمع مساو لعدد أفراده فتلك هي الكارثة. “النظام” الجزائري يعرف جيدا هذه الذهنية التي يرتكز هو نفسه عليها. هذه اللاثقافة، و هذا الشك المتبادل بين الجميع، و الخوف المستمر من الخداع هي مجموعة الركائز التي يستند عليها. كلنا نعاني من ذلك بما في ذلك مهندسوه، مثلما رأينا في الأيام الماضية، لكن دون أن يمكن لأحد أن يتمكن من الخروج منه.

سوف يصل اليوم الذي تعجز فيه الأفكار التي يحملها الجزائريون و “ثوابتهم الوطنية” عن ضمان بقائهم و حياتهم في عالم اليوم. هذه الأفكار المضادة للمجتمع، البالية، الموروثة من حقب زمنية غابرة، المقصاة من التاريخ و التي تعارض ما فيه مصلحتهم و خيرهم. جعلتهم يمرون من الاستعمار الأجنبي إلى حكم ذاتي مستبد، و من الجهل العام قبل 1962، إلى شعبوية اشتراكية و شعوذة دينية، و تركتهم في ذيل ترتيب الأمم في العالم.

في مقال كتبته في 28 مارس 2011 جاءت هذه السطور: “عندما كنت صغيرا سمعت على لسان والدتي نبوءة سَمعَتها هي بدورها من والدتها في الأربعينيات، بأن فرنسا ستغادر الجزائر قبل نهاية القرن و أنها ستحتل من طرف “جنس اصفر”. كنت صغيرا لكن هذه الكلمات بقيت في ذاكرتي و لم أنسها أبدا. و في السنوات الأخيرة تساءلت في بعض الأحيان، أمام البروز الهائل للصين في العالم و تزايد عدد الصينيين في بلادنا، عما إذا كانت النبوءة تشير إلى الغزو الصيني الذي يتعرض إليه سوقا المنتجات و اليد العاملة على حد سواء، أم أنها تشير إلى شيء آخر يختبئ في غيب المستقبل“.

                                                                                                                              *         ترجمة بوكروح وليد 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى