بين الفكر والسياسة

الاسلام و اللائكية

بقلم:نور الدين بوكروح

ترجمة:فضيل بومالة

إن الإسلام اليوم في قفص الاتهام و محل كثير من الاستفهامات، في عالم ليس بعالمه ، عالم لم يُشكله و ليس له أيّ  تأثير محدد عليه، و حتى في عقر داره و على أراضيه، لم يعد صاحب الكلمة المُسلم بها ،كون ذلك العالم الذي ليس بعالمه قد حط رحاله بهما أيضا و استوطانهما، ولم يشغل فقط المساحات الجغرافية الواسعة و إنما تغلغل في التراكيب الذهنية  لعدد كبير من رجاله و نسائه، لقد حقنهم بحقن تحتوي قيّما جديدة و معايير أخرى في التمييز و الحكم ،و دليلا لقوانين فعالة و أساليب للعيش الرغيد، برامج تعليم مهمة و قنوات تلفزيونية جذابة، لقد غرس فيهم العالم الحديث في جلدة الغرب.

لقد عاد الإسلام لحلقات النقاش في فترة تعرف فيها الديانات مصيرا مشتركا في كل بقاع الأرض: و هو إبعادها عن تسيير شؤون البشر و اعتبار ذلك من صلاحيات قيصر و ليس من صلاحيات الله، وجعلها في المجال الخاص ما عدا سلطتها الشرعية و الحتمية،و أحلوا محلها قوانين و تنظيمات من صنع الإنسان قابلة للمراجعة و التكييف عند الحاجة، ذات بعد إنساني عالمي و إجباري و لا يمكن لأحد تجاهلها و إلاّ فسيُعاقب مباشرة، أما العقوبة في مختلف الديانات فيمكن ان تنتظر يوم الحساب في الآخرة.

و من هذا المنطلق، أصبحت الديانات اختيارية إما القانون البشري فقد أصبح اجباريا، ان الديانات تحظى بقداسة عقائدها و باحترام و صيانة شعائرها و بتشريف رجال الدين، و لكن لم يعد من الممكن أبدا أن تطمع في إدارة الشؤون العمومية، كما أنه لا يمكن متابعة أي كان بسبب عدم إيمانه أو بدعوى عدم تطبيقه للأوامر الإلهية أو ما تحمله من جوامع الكلم الفلسفية.

إن المجتمعات البشرية كلها التي تشكلت عبر العصور منذ الجماعات البدائية الأولى إلى الحضارات الأكثر تطورا قد أخذت تنظيمها ، قانونها الاجتماعي ، شرعية مؤسساتها و دلالات الأشياء و السلوكات فيها من نبع الإلهام الديني العام أو من تشريع أُوحي به  يتسم بالدقة و التفصيل، و قد استمر على تلك الشاكلة مدة ستة آلاف سنة.و لكن عصرنا هو العصر الذي شهد انتصار حضارة استفادت أيما إفادة من كل الحضارات التي سبقتها، قبل ان يغمرها الإحساس، إلى حد ما مؤسس، بأنها هي وحدها العالم و الإنسانية و التقدم المعنوي و المادي،وأنها إذا ما بسطت أجنحتها فستعمر كل الكوكب بشكل طبيعي.

اما الحضارة هذه، و حتى توجد لنفسها حيزا داخل الامبراطورية الرومانية حيث ولدت بمجيء المسيحية، هي التي نادت بادئ ذي بدء بمبدأ الفصل بين ما هو روحي و ما هو دنيوي، بمعنى ضرورة وجود و بقاء التمييز بين مملكة السموات و مملكة الأرض، فلكل من الله و قيصر حقوقه و يجب إلا تنتقص السيادة الإلهية من السيادة البشرية شيئا.

ففي البدايات الأولى للمسيحية، كانت كلمة ” لايكوس “« laikos »  (من اللاتينية لاووس  Laos و التي تعني الشعب) يقصد من وراءها عامة المسيحيين، مقابلة لـ ” كليريكوس “« clerikos » التي تعني المؤمن الذي يمارس الشعائر و يحتفل بالقداس باسم الكنيسة الكاثوليكية الرومانية (القس، الراهب، الأسقف…). و من هذه الكلمة ستشتق كلمتان آخريان في القرن السادس عشر و هما« clergé »  و« clerc »أي رجل الدين و الاكليرومسي . اما مصطلح اللائكية « laïcité » فلم يظهر في اللغة الفرنسية الا ابتداء من 1870، حينما بدأت المواجهات الكبرى في فرنسا حول مسألة تحرير التعليم الرسمي من أي ضغط او تأثير ديني في مجتمع تعايش فيه الكاثوليك و البروستانت و اليهود و المفكرين الأحرار و الملاحدة منذ قرون خلت، و بعد شتى أنواع الاضطرابات .

و عقب سقوط الامبراطورية الرومانية في القرن الخامس ،استغلت المسيحية الفرصة بعدما كانت قد انتشرت و تنظمت و نصرت الأباطرة و الملوك، حتى تؤكد وحدتها و سلطتها أمام انقسام الأصقاع القديمة تحت إمرة القانون الروماني و التي كانت تنوي إدماجها في سلطتها و إخضاعها لتوجيهها، و لكن و لأجل ذلك ، كانت كنيسة سان بيار هي نفسها التي تخرق قاعدة عدم الخلط بين الدنيوي و الروحي، و بلهفتها الكبيرة على السلطة و بتوليها إدارة الأملاك و الأجساد و النفوس المسيحية ، جعلت من نذر جهازها المسير للفقر و الطهارة أمرا عبثا.

و بطبيعة الحال، فقد كان الـ”كليريكوس” يتعسفون بسلطتهم المطلقة و يستعبدون الـ”لايكوس”،و أراد الباباوات أن يخضعوا الملوك لسيادتهم المطلقة، لكن الملوك لم يكونوا يقبلوا ذلك دون قيد أو شرط ،كما أن المواطنين لم يكونوا ليُطأطؤا رؤوسهم أبدا و يقبلوا فساد كبار رجال الدين أو جهل صغارهم.و من ثم تفجرت نزاعات شبه دائمة نتج عنها توالي هيمنة الكنيسة على الدولة و خضوع الكنيسة للدولة ،واستمر ذلك إلى غاية القرون الوسطى و ظهور المنظرين الأوائل للفصل بين المجتمع الديني و المجتمع المدني (مارسيل دي بادو Marsile de Padoue و غيوم دوكهام Guillaume d’Ockham).

استفاد إصلاح لوثر (Luther) من براهين هذين الأخيرين ،ومن ما حاج به القول أطروحة انه إذا كان لابد من السلطة الروحية فإنها لابد أن ترجع إلى جماعة المؤمنين و ليس الارستقراطية ايمانية نصبت نفسها بنفسها ،و أن ضمير كل فرد هو الوحيد الذي يتوسط بينه و بين الله .

(انظر مثل هذه التحاليل في الكتاب الرائع ل ج ب تروتباس اللائكية في قانون الكنيسة الكاثوليكية و الدولة الجمهورية la notion de laïcité dans le droit de l’Eglise catholique et de l’Etat républicain)-اضافة من المترجم.

و يبدو ان مارسيل دي بادو قد لعب دورا أساسيا في العملية التي ارجعت الكنيسة رويدا رويدا الى وضعها الأصلي، فاللائكية بعبارة أخرى تحقيق فصل فعلي و نهائي بين الدين و السياسة ، و من هذا المنطلق يعتبر أب الدول اللائكية الحديثة، دون ان نتحدث عما قدمه من أعمال جليلة للمصلح الالماني مارثن لوثر (M. Luther) الذي كان زعيم الوطنية  حتى يضعف قوة البابا. و يقول عنه برتراند دي جوفينال    (Bertrand de Jouvenel) في كتابه ” عن السلطة أتحدث ” :”لقد مثل المغامر مارسيل دي بادو (Marsile de Padoue) مرافعا لصالح الامبراطور الذي لم يتوج لويس دي بافيير (Louis de Bavière) ،و مدافعا عن السيادة الشعبية محل السيادة الإلهية. هذه الفكرة هي التي كانت شعلة تحرير السلطة من سيطرة الكنيسة، و حتى يتمكن من ذلك ،جادل بالشعب كقوة مناهضة لله و بالله كقوة مناهضة للشعب أي  مناورة مزدوجة و ضرورية لإقامة الحكم المطلق، كان لابد من ثورة دينية“.

و لكن الكنيسة ستصر طويلا على الشرود في متاهات المجد الدنيوي عكس ما كانت تمليه عليها رسالتها الأولى، و بذلك ارتكبت أخطاء فادحة تبرر الانقسامات التي لحقت بها و التي لا رأب لها ( و لم ينجح لا الفاتيكان الأول سنة 1870 الذي تدخل بعد ثلاثة قرون الفترة التي لم يجتمع فيها المجتمع الديني لفيينا، و لا الفاتيكان الثاني سنة 1963 في إقناع البروتستانت بعقيدة توحيد جميع الكنائس œcuménisme). و من جراء هذه الأخطاء، ستكون أوربا و لمدة قرون طويلة لقمة سائغة للحروب الدينية التي سقطت فيها مئات الآلاف من الأرواح. و حدث ان كان ثلاثة بابوات في آن واحد (في القرن الرابع عشر) و حبر واحد،و قد وضع نابليون و هو الفريد في بني جنسه، البابا السابع Pie VII في السجن سنة 1809.

إن الخلاصة النهائية و البعيدة لكل هذا هو استحالة التعايش في ظل نظام ديني و قوانين دينية موحدة بين الكاثوليك و البروتيستانت و اليهود و الملاحدة .ان مسلمي فرنسا ليسوا أصحاب نفوذ بعد، و إلا لكنا اليوم في الجزائر من أشد أنصار المتحمسين لللائكية.

و من البداهة ان اللائكية تفرض نفسها كحل امثل و عادل في مثل تلك الأوضاع.بمعنى اي تعليم و اي عقيدة يجب ان يدرسا في مدارس البلدان المتعددة الديانات ؟ اي الاحتفالات الدينية يجب ان تكون رسمية ؟ اي دين يجب اعتباره “دين الدولة” دون اقصاء أجزاء اخرى من الأمة ؟ اي قانون من قوانين الأحوال الشخصية يجب وضعه حيز التطبيق ؟ اي الأعراف يجب اعتمادها كقواعد للقانون؟

و من الأكيد أن التسوية لن تتم إلا بالارتكاز على قوة حيادية فوقية اي إقناع كل الإطراف بقبول القواعد التي تتجاوز اختلافاتهم و نزعاتهم نحو التسلط.وهكذا يؤدي الأمر مباشرة إلى حرية العقائد ، الحياد الديني للسلطة الحاكمة ،إلى الفصل بين الدولة و مختلف الكنائس الموجودة على أرضها …

و قد مرّ نبيّ الإسلام بحالة مماثلة ، حيث سمح بان يحتكم يهود المدينة إلى قوانينهم الخاصة بدل احتكامهم إلى الدين الجديد. و علاوة على ذلك، صاغ و وقع معهم في منزل أنس رضي الله عنه الدستور السياسي الأول في التاريخ (الصحيفة) ،و الذي يحدد في 53 مادة، الحقوق و الواجبات الخاصة بكل طرف. و يؤكد المؤرخ محمد حميد الله أن النسبة الكبيرة من تلك الأحكام، كانت تعالج مصالح اليهود خاصة.

أما في فرنسا، فقد انطلق النقاش حول اللائكية سنة 1568 بإصدار هنري الرابع (Henri IV ) لمرسوم نانت (l’Edit de Nantes )(حيث تم لأول مرة قبول مبدأ إمكانية عدم توافق المعتقد و الجنسية و أن الملك يمكن ان يكون على دين غير دين رعاياه) و انتهى سنة 1946 بإدخال مصطلح اللائكية في القانون الأساسي الفرنسي لأول مرة. و تنص المادة الأولى من دستور 27 أكتوبر 1946 المؤسسين للجمهورية الرابعة “على أن فرنسا جمهورية لا تتجزأ لائكية ديمقراطية و اجتماعية “.

و ردد دستور 04 أكتوبر 1958 المؤسس للجمهورية الخامسة الصيغة نفسها في مادته الثانية ،و واصل : ” و تضمن المساواة أمام القانون لكل المواطنين بدون تمييز من حيث الأصل و العرق أو الدين، إنها تحترم كل المعتقدات ” و لكن قبل ان تخلص إلى ذلك كم معارك دامية عرفت ؟ (انظر كتاب آن ماري و جان مودوي Anne-Marie ” فرنسا تناهض فرنسا : الفصل بين الكنيسة و الدولة “). ان قانون 01 جويلية 1901 الخاص بحرية تشكيل الجمعيات قد استغل من أجل اعادة النظر في قانون الجمعيات الدينية الخاصة بالتعليم قبل قانون 09 ديسمبر 1905 الذي أعلن حرية التفكير و الاعتقاد و الذي اعتبرته الكنيسة الكاثوليكية مدعاة للحرب.إن الميثاق الذي وقعه نابليون و البابا سنة 1801 و الذي نظم صلاحيات كل طرف في المسائل ” المختلطة ”  أُلغي سنة 1905.

و بالنظر إلى ما سبق ذكره، نتساءل عن جدوى الحديث عن مشكلة اللائكية في بلد مسلم كالجزائر حيث لا توجد لا سلطة كهنوتية و لا ديانات متضاربة ؟ لماذا ترفع الحجج التي دفعت بالأوربيين (و قد كانوا على حق) إلى اللائكية في وجه الاسلام ؟ ما الذي يقلق في الإسلام و يمكن أن يبرر ظهور المطالبة باللائكية ؟

ان رؤية الإسلام للعالم من الناحية العلمية لا تشوبها شائبة حتى في نظريات الانفجار الأعظم Big bang و التحولية transformisme أو الداروينية المحدثة néo-darwinisme،ان الإسلام لا يرتاع من اكتشاف أشكال أخرى للحياة في الكون أو ان يحتل الإنسان الفضاء. أما من الناحية الاقتصادية، فالإسلام مع حرية المبادرة و لا يعتبر ان الاغتناء عيب و فساد. أما سياسيا، فان القرآن و السنة لم يقترحا للبشر صيغا محددة في التنظيم الاجتماعي، بل بالعكس، فالسكوت عن ذلك هو ما كان سببا في النزاعات السياسية التي قسمت صفوف المسلمين إلى سنة و شيعة و خوارج.

و حينما نتأمل في طرائق التدخل الالهي، نكتشف إنها تحمل في داخلها اسمي معاني الديمقراطي لأنه عز و جل في أزليته وأبديته قبل بوجود معارض لعظيم سلطانه (ألم يرفض إبليس طاعته حينما أمره بالسجود لآدم كباقي الملائكة ؟) . و أكثر من ذلك ، حينما أعلن إبليس بعدما طرد من عرش الرحمان و جنته أنه سيكرس حياته ابد الدهر من أجل غواية و تضليل الجنس البشري و معارضة تدابير العناية الإلهية، فإن رب السموات و الأرض لم يقض عليه و لكنه فضل ان يهب الإنسان العقل و البصيرة حتى يكون حرا تمام الحرية في اختيار بين الخير و الشر.و بالإضافة إلى ذلك، فقد ضمن الله لآدم انه ستنزل على ذريته دوريا هداية منه و تذكيرا.إن هذا الحوار بين الله و إبليس حسب النص القرآني قد الهم غوته (Goethe)  ” فاتحة السموات ” كما اوضحناه في مقال سابق.

و ليس هناك من شيء يمنع البلدان الإسلامية في الظرف الدولي الحالي من ان تكون أنظمتها أنظمة جمهورية تمارس الديمقراطية البرلمانية و حرية الاعتقاد بالنسبة لغير المسلمين ،أو من الانضمام إلى الاتفاقيات الدولية حول السلم و حقوق الإنسان و تخويل ” سلطة الحل و العقد” ليس للشارع بل إلى مؤسسات شوربة شريفة تتشكل من رجال اكفاء، سواء في العلوم الشرعية أو في مختلف العلوم عموما.

على كل،المشكل المستعجل الآن هو معرفة ما هو الأنفع لأي بلد مسلم: ان يحاول ان يستخلص من الإسلام و من القيم الوضعية المعاصرة نموذجا اجتماعيا مقبولا أو يطرد الإسلام من دياره ؟

إن أنصار اللائكية في الجزائر يؤكدون انه بسبب احترامهم الكبير للإسلام أكثر من غيرهم يتمنون أن يغلق عليه في بروج محصنة خوفا عليه ، إن الإسلام الحقيقي في نظرهم هو الذي يجب ألا يعلم في المدارس و لا يذكر في الدستور و لا تسري روحه في القوانين و لا يرد في برامج العمل السياسي.ما اشد حبهم و هيامهم به حتى إنهم لا يريدون رؤيته مبتذلا من جراء المغالاة و الإفراط في استعماله.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى