أراء وتحاليل

الجزائر أقوى من أن تهزها فضائح “بَنما” وصحافة “فافا”

عبد القادر حبيبي

باتت قضية تسريب “وثائق بنما” حديث الخاص والعام في كلّ أنحاء العالم، كونها مسّت العديد من الرؤساء والشخصيات السياسية والمشاهير، وتركّز الحديث بالأخص على تورط كبار المسؤولين السياسيين في العديد من الدول، على اعتبار أن الحقل السياسي سريع الإستجابة للفضائح والتهويل، لكن بحسب رأيي أن غالبية من يتابع هذه الفضيحة لا يعرف على الإطلاق تفاصيلها القانونية والتقنية، بل وحتى الأهداف الإستراتيجية التي يتوخى تحقيقها الواقفون وراء تفجيرها.
“وثائق بنما” المسرّبة والتي فاق عددها 11.5 مليون وثيقة، ولتبسيط الأمور على القارئ، تخص الشركات الوهمية التي تمّ إنشاؤها من قبل رجالات أعمال وسياسيين ومشاهير وحتى أمراء الإرهاب وبارونات المخدّرات وغيرهم في بنما أو الملاذات الضريبية الأخرى، باعتبار بنما تُشكل ملاذا ضريبيا أو “جنّة ضريبية”، لأنها تُوفر سرية أكثر لأصحاب هذه الشركات، وهذا للتمكن من تبييض الأموال أو القيام باستثمارات بعيدا عن أعين مصالح الضرائب في بلدانهم، أو للإلتفاف على أجهزة الرقابة الدولية بالنسبة للدول التي تخضع لعقوبات دولية أو أممية، والحديث قد يطول في هذا المجال.
من منطلق أنني رجل قانون ومختص في قانون الأعمال، أشير إلى أن هذا النوع من الشركات ليس جديدا، ولا يمثل مُفاجأة بالنسبة لعالم المال والأعمال، فكل الدول، وأجهزة المخابرات الدولية تعرف تفاصيل نشاط الشركات الوهمية، والحسابات البنكية السّرية، فإلى زمن قريب كانت سويسرا تُعدّ أهم ملاذ بنكي في العالم، فمؤسساتها المالية كانت تُوفر السرية الكبيرة لمُودعي الأموال لديها، لكن بعد الضغوط الأمريكية بالأخص، والتي جاءت بعد هجمات سبتمبر 2001، أُجبرت البنوك السويسرية على رفع السرية عن الحسابات البنكية، الأمر الذي دفع بالعديد من زبائنها إلى البحث عن ملاذات أخرى توفر لهم السرية الكافية.
الإشكالية برأيي لا تطرح بخصوص رجال الأعمال العاديين، الذين بحكم نشاطهم يبحثون عن فرص الإستثمار التي تمكنهم من جني الأرباح، بالأخص في الدول التي توفر لهم إعفاءات ضريبية كبيرة، فهؤلاء وجدوا في بنَما المكان المثالي لإنشاء شركاتهم الوهمية، وفتح حساباتهم البنكية السرية، وهنا لا أستبعد أن العديد من رجال الأعمال الجزائريين قد لجأوا إلى إنشاء مثل هذه الشركات الوهمية، التي تسمح لهم بتدوير وتحويل الأموال بأريَحية تامة، لأن منطق المنافسة يستدعي في بعض الأحيان اللجوء إلى مثل هذه الأساليب المعمول بها في مجال إدارة الإستثمارات والأعمال في العالم ككل، ومن الناحية القانونية لا يمكن تجريم رجالات الأعمال الذين يلجأون إلى مثل هذه الأساليب، ما عدا إذا كان القانون الداخلي للدول ينص على تجريمها، أو أن رجل الأعمال المعني بالرقابة قد لجأ إلى التصريح الكاذب، أو عدم التصريح أصلا بنشاطاته، لكن برأيي أن الإشكالية تأخذ أبعادها القانونية، إذا كان صاحب الشركة أو الشركات الوهمية، يمارس السلطة في بلده، كأن يكون وزيرا أو مسؤولا ساميا في الدولة، ويستغل منصبه هذا لممارسة النفوذ، وتمكين شركاته الوهمية من الحصول على الصفقات، فهُنا نكون أمام حالة “تضارب المصالح” أي المصالح الشخصية لهذا المسؤول، ومصالح الدولة، وبما أن وزير الصناعة والمناجم الجزائري السيد عبد السلام بوشوارب قد تمّ ذكر إسمه في الوثائق المسرّبة، واستغلت صحيفة لوموند الفرنسية هذه الواقعة للإساءة إلى رئيس الجمهورية السيد عبد العزيز بوتفليقة، الذي أقرّت الصحيفة نفسها، في اعتذارها، أن إسمه غير وارد في هذه الوثائق، وأن إقحام صورته على صدر صفحتها الأولى كان مجرّد خطإ لا غير، فهنا نقول قبل تبيان أهداف هذه الصحيفة لاحقا، أنّه على الوزير بوشوارب أن يُبرّر بأن شركته الوهمية التي أنشأها، لم يكن لها أي نشاطات عندما كان يتولّى مناصب مسؤولية في الدولة منذ أن إنخرط في الحياة السياسية، وليس فقط منذ تاريخ تعيينه كوزير، وعليه أن يبرر في حال ما إذا كانت شركته تنشط وهو يمارس المسؤولية، أن شركته لم تستفد من أي صفقة أو تعاملات مُميّزة في القطاعات التي مارس فيها المسؤولية.
شخصيا ودون الخوض في تفاصيل قضية الوزير بوشوارب، لا أستبعد أن تكون المخابرات الأمريكية ومعها اللوبي الصهيوني المتحكم بقوة في المنظومة المالية العالمية، هما من فجّرا هذه القضية، وهما من موّلا الفريق الصحفي الذي أعدّ التحقيق حول قضية وثائق بنما، وأشير هنا إلى أن المعلومات المتوفرة تُشير إلى أن مؤسستي “ماك أرتور” و “سوروس” الأمريكيتين، هما من تكفّلتا بتمويل هذه العملية التي لم تشر لا من قريب أو بعيد إلى تورّط الأمريكيين في الفضيحة، بل إن التحقيق توجه مباشرة إلى النّيل من سمعة الرئيس الروسي بوتين وبعض البلدان الأوروبية والعربية، لغرض وحيد، وهو تحويل وجهة الأموال إلى الولايات المتحدة الأمريكية التي تعاني من ضائقة مالية كبيرة نتيجة تراكم ديونها التي فاقت 16 تريليون دولار، فبحسب المختصين، فإن تفجير ما أُصطلح عليه بفضيحة “وثائق بَنما” سيُمكن أمريكا من استقطاب ما بين 30 إلى 40 تريليون دولار، أي أنه سيُحوّلها إلى أهم ملاذ ضريبي ومركز لاستقطاب الأموال في العالم، وبشكل علني ومفضوح، فأمريكا هي من وجّهت رؤوس الأموال إلى بَنما، وهي من تعمل اليوم على إعادة تشكيل المنظومة المالية العالمية، لتصُب في خدمة مصالحها، ولو على حساب شركائها في أوروبا والخليج العربي، لأن الأمريكي لا يؤمن إلا بمصلحته، وعلى ذكر دول الخليج، فإنّني أتعجب من وصف ما قام به الخليجيون ب”الفضيحة”، لأن أفضل ملاذ ضريبي لهم هو بلدانهم، التي لا تفرض عليهم أية قوانين تحدّ من تحويلهم للأموال، فهم ليسوا بحاجة إلى تهريب ثرواتهم إلى بَنما لتبييضها، كما يفعل الآخرون، وبالتالي فبرأيي أن المستهدف الحقيقي من وراء هذه التسريبات، هي الدول التي ترفض السير في فلك أمريكا، كما أن تفجير هذه الفضيحة في شقها السياسي، قد يكون الغرض الأساسي منه التغطية على تحويلات الجماعات الإرهابية التي عاثت فسادا وتدميرا في العديد من الدول العربية كسوريا والعراق وليبيا…
وبالعودة إلى الجزائر، لا أملك إلا أن أتساءل عن سرّ تزامن تفجير هذه القضية وتصعيد الحملة المسمومة للإعلام الفرنسي “صحافة فافا” على الجزائر، مع الزيارة التي يقوم بها الوزير الأول الفرنسي مانويل فالس إلى الجزائر، بالإضافة إلى الحدث الذي طغى على الساحة السياسية في الجزائر والمُتمثّل في عودة وزير الطاقة الأسبق شكيب خليل، وما صاحبها من هرج إعلامي وسياسي، فبرأيي أن فرنسا قد أُصيبت بحالة هستيرية، كونها تعرف جيّدا أن تفجير فضيحة بَنما، وعودة شكيب خليل لا يخدم مصالحها في الجزائر مُطلقا، وإلا فبماذا نُفسّر وضع صحيفة “لوموند” الفرنسية صورة الرئيس بوتفليقة على صدر صفحتها الأولى، في موضوع متصل بوثائق بَنما، فهل يعني ذلك أن فرنسا تُريد الضغط على الرئيس لحماية بوشوارب؟ بعيدا عن الإتهامات الجزافية نقول إن الرئيس بوتفليقة وبحكم تمرّسه في السياسة الداخلية والخارجية، يعرف كيف يتعامل مع كل المُستجدّات، وفي حال إقتناعه أن الوزير بوشوارب قد أخطأ فلا أنتظر إنطلاقا من صلاحياته سوى أنه سيُقيله ويحاسبه، لكن في حال قناعته ببراءة بوشوارب ممّا لُفق له، فلا أعتقد أن ضغوطات الصحافة الفرنسية وزميلاتها الجزائرية ستُجبر الرئيس بوتفليقة على التضحية به لكسب ودّ ورضا الفرنسيين.

*محام وضابط سابق في الجيش الجزائري وخريج معهد الدراسات الدبلوماسية والاستراتيجية بباريس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى