بين الفكر والسياسة

الصراع الإيراني- السعودي: من سينصره الله؟

بقلم: نورالدين بوكروح

تبين جليا أن مقاربة الإدارة الأمريكية بمعية القوى الخمس الكبرى في تسيير الملف الإيراني النووي كانت أكثر ذكاء من تصور الحكومة الإسرائيلية والدوائر الجمهورية الأمريكية التي كانت تتوق لمهاجمة إيران بهدف وأد التهديد النووي المزعوم في مهده. فقد نجحت مجموعة الـ5+1 في إلزام إيران على التنازل نهائيا عن البعد العسكري في برنامجها النووي، وأن تنقل أطنانا من اليورانيوم المخصب إلى روسيا، وتقلص من عدد أجهزة الطرد المركزي، وتكيف مفاعل “أراك” للماء الثقيل للاستخدام المدني، وأن تقبل المراقبة المفاجئة لمنشئاتها. فقد أكدت الوكالة الدولية للطاقة الذرية، الأسبوع الفارط ، أن إيران التزمت بالتنفيذ الكامل لهذه الشروط، ما نتج عنه الإعلان عن رفع العقوبات الاقتصادية عنها تدريجيا على مدى عشر سنوات.

 من عدو إلى حليف

ماذا كسبت إيران بعد عشرية كاملة من المفاوضات والعقوبات ؟ لاشيء! لقد عادت أدراجها إلى نفس وضعية ما قبل هذا المسلسل الذي عاش معه العالم كابوسا حقيقيا، فضلا عن عشرات مليارات الدولارات التي أنفقتها في سعيها لتحقيق هدف محظور أصلا بمقتضى الاتفاقات الدولية، بل وخاصة بقانون الأقوى، ومئات مليارات أخرى ضاعت في العجز الناجم عن العقوبات. بعد فشلها في مسعاها، عادت إيران مجددا كفاعل اعتيادي في العلاقات الدولية وهي تحضّر لتسويق مورد رزقها في ظروف يميزها زيادة العرض على الطلب والذي قلص سعر برميل البترول إلى الثلث. بهذا، تتحول الثيوقراطية الشيعية بغرابة من عدو للغرب إلى واحد من أهم شركائه في الخليج.

كيف يُفسر هذا التغيير؟ وهل تمتلك إيران نفسها التفسير؟ و هل هي في مستوى الفصل بين رغباتها هي ورغبات الآخرين، الذين تعودوا على وضع استراتيجيات عقودا قبل أن يظهر تأثيرها بوضوح على العرب والمسلمين ،الأمر الذي شاهدناه مع اتفاقيات سايكس بيكو (مايو 1916) ووعد بلفور(نوفمبر 1917). لو اعتمدنا على ظاهر الأمور، نجد أن إيران تغير سياستها تجاه الغرب، إذ فتحت أسواقها للمبادلات التجارية على أمل الوصول لاحقا للتكنولوجيا والتجهيزات العسكرية لتحديث جيشها الذي تحتاجه عاجلا لتصفية حساباتها القديمة مع جيرانها العرب، حسابات تعود إلى حقبة الخلفاء الأربع.

لو استندنا للمقولة الفرنسية، “وعد محقق أفضل من وعدين مؤجلين”،للاحظنا أن إيران تنوي محاربة أعدائها القريبين عوض عدو بعيد مجهول. يبدو أنها تعتمد هذا المنطق، ولذا اختارت الإستراتيجية التي عايشنا علاماتها المسبقة خلال العقود الأخيرة في كل من الإمارات العربية المتحدة ، لبنان، العراق و سوريا.

الاستقلال الطاقوي الأمريكي

عندما وصل “باراك أوباما” للبيت الأبيض سنة 2008، كان من أهم أهدافه تحقيق حلم لم يحققه أي رئيس قبله : الاستقلال في مجال الطاقة. ما سيشهد به التاريخ  هو أن  أثناء عهدتيه، تحققت ثلاث مكاسب :وضع الولايات المتحدة الأمريكية في مرتبة أول منتج للطاقة في العالم و ذلك بفضل تطوير تكنولوجية استخراج بترول وغاز “الشيست” اللذين منحاها دور المنظم للعرض والطلب حسب شروطها هي،تصفية أسامة بن لادن،وإقناع إيران  للتخلي عن طموحاتها النووية.

المقصود من استقلال الطاقة الأمريكي هو تحرره من مموله التقليدي، أي المملكة السعودية التي أمضى معها الرئيس الأمريكي “روزفلت”، في فيفري 1945 على متن السفينة الحربية “كوينسي” في مياه قناة السويس، معاهدة من خمس نقاط على مدى ستين سنة منها: “طاقة بسعر معتدل” مقابل بند ينص على أن “استقرار شبه الجزيرة العربية هو من المصالح الحيوية للولايات المتحدة“. هذه المعاهدة التي صمدت أمام كل الهزات النفطية، عرفت أول شرخ سنة 2001 عندما تأكد أن أغلب الإرهابيين المتسببين في تفجيرات 11 سبتمبر كانوا سعوديين، فكانت سببا في زعزعة أواصر الثقة غير مصرح بها.

أصبحت مصالح الاستعلامات الأمريكية و كدا الغربية تشكك في الدور السعودي المزدوج تجاه الإرهاب قبل و بعد 11 سبتمبر، وفي علاقة بعض أعضاء الأسرة المالكة بالحركة السلفية الجهادية. اعتُبرت هذه الدولة المنبوذة أصلا جرّاء قوانينها تجاه المرأة والإعدام بالسيف في الأماكن العامة، حاضنة للأفكار الإرهابية و بالتالي تهديدا دوليا شبه معترف به. منذ ذاك، تفاقم مشكل الاستقلال الطاقوي، بالنسبة للأمريكيين كما لباقي الغرب، بمشكل أمني توجب إيجاد حل استعراضي سريع وسري له.

 

توزيع الأدوار الجديد

يرى الرأي العام الغربي أن الثيوقراطية الإيرانية هي وريثة حضارة عريقة جديرة بالاحترام، و هي أحسن هيئة وأفضل تعايشا من الثيوقراطية السعودية التي لم تعد تتماشى مع الأعراف الدولية. لم يعد يُنظر إليها كنظام إسلامي، بل كنظام بالي، تُسيّره مصالح أسرة ملكية بدون قاعدة اجتماعية، نظام عشائري عتيق وليس شعب عصري. وعلى عكس المجتمع الإيراني المتشدد لكن الناشط، الفعال و المشارك في نوع من الديمقراطية، تستند السعودية أساسا على البترودولار وفعاليَّة “رجل الدين” المتحيّز للسلالة الحاكمة و الدّاعي لأفكار عفا عنها الزمن. لم يعد بإمكانها تمثيل الإسلام السني في الإستراتيجية العالمية، الدور الذي قد تؤديه تركيا بشكل أفضل.

أحيانا في الدبلوماسية، لا يتم التوجه مباشرة للهدف، بل يفضل محركي اللعبة القيام بلفة طويلة و متأنية ووضعها على عاتق الأغبياء لتضيع معها الحقيقة. إدارة “أوباما” قامت بدراسة الخيار العسكري ضد إيران من جميع الزوايا ثم قررت التخلي عنه لأن التطورات الإستراتيجية المرجوة تحتاج أيرانا قوية ً، حيوية ًو قادرةً على أداء الدور المنتظر منها لترمي خمسين هدف بحجر واحد: تكون البطل الرئيسي في الحرب العالمية الإسلامية التي تقحم خمسين دولة ذات أغلبية أو أقلية مسلمة قوية في الفوضى. توزيع أدوار مُحكم للوصول إلى إعادة بناء الشرق الأوسط وباقي الدول الإسلامية، تكون البداية بين رأسي الحربة السنية والشيعية فقط ثم تسحب معها كل العالم الإسلامي إلى ملحمة تبتلعهما معا.

كان المسلمون في القرن الأخير المجندين غير الواعين للحروب المقررة دون علمهم من طرف القوى المسيطرة على النظام العالمي. أما في هذه الألفية الثالثة فهم المنفذون غير الواعون لتدميرهم الذاتي. لا يوجد نظيرهم في العالم يتقاتلون فيما بينهم ويفتخر كل منهم بدعم إلههم المشترك.

بمجرد ما أعدمت السلطات السعودية الإمام الشيعي السعودي نمر النمر بتهمة الإرهاب، أعلن المرشد الأعلى للثورة الإيرانية أية الله خامني أمام رجال دين، في كلمة يزيد من مصداقيتها كونه يعتبر معصوما: “مما لا شك فيه أن إراقة دم هذا الشهيد المظلوم من دون وجه حق سيجر عواقبه سريعا وأن الانتقام الإلهي سيطال الساسة السعوديين“.

 

الحرب القذرة

 “فتنة صفين الكبرى” التي قسمت الصف الإسلامي إلى سنة و شيعة، تبعث من جديد بعد 14 قرن. في المساجد الشيعية يلعن”خادم الحرمين الشريفين” من جديد، و في المساجد السنية “المرشد الأعلى الإيراني”،كلاهما يتهم الآخر بالكفر البواح. ونظرا لتواجد السنة والشيعة في كل مكان، فالأحقاد ستنتشر بين الشعوب، في الأوطان والأحياء و ستتسبب في ضغائن مستديمة.

قطعت كل من العربية السعودية، البحرين والسودان علاقاتها الدبلوماسية مع إيران. تم تفجير قنابل في مسجدين سنيين في العراق. ستتوالى قنابل أخرى، سيارات مفخخة وعمليات انتحارية تباعا في الأشهر القادمة وفي بلدان مختلفة، و تتسبب في مواجهات متكررة بين الشيعة والسنة كالتي تعودنا عليها في العراق، باكستان، أفغانستان، لبنان و سوريا. حتى تركيا لن تنجو. سيدخل العالم الإسلامي في دوامة تدمير ذاتي تحت نظر و تشجيع سري من الغرب و إسرائيل، دون أن ننسى روسيا. ستكون الفوضى، تدمير البنية التحتية و تعميق أحقاد حمقاء ستمتد طيلة الألفية المقبلة.

ستكون حرب القرون الوسطى دون رهانات، بدون أهداف و لا نتائج ايجابية للطرفين، حرب إبادة متبادلة يقودها رجال دين بأسلحة تدمير متطورة، سنتقاتل، سندمر بعضنا البعض بأسلحة غربية، إسرائيلية ،روسية أو صينية، و بقروض مقدمة من بنوك نفس الدول، ستكون حربا دينية عمياء، لا رحمة فيها، عرقية وعصبية، حرب أوغاد، عبًاد مزيفين، متعصبين، متخلفين اقتصاديا و ثقافيا، حرب لن يربحها احد لأن مموليها سيحرصون على أن لا ينقص أي المحاربين السلاح والذخيرة لسنوات طويلة أو للعقود اللازمة. دخلت كل من إيران والعراق الحرب مدة 8 سنوات ( من1980 الى1988) متسببة في مقتل مليون شخص من الطرفين دون أن يفوز أو يخسر أحدها بشكل قطعي.

يدّعي قادة السنة والشيعة على السواء نسبهم للرسول عبر فاطمة وعلي، يتوسل كلاهما إلى الله ليدمر الأخر، معتقدا بسذاجته أنه في صفّه لأن كلاهما تغذى من”العلم القديم” الذي يحوي نظرة للإله مبنية على معطيات تعود للأزمنة الأولى من ظهور الإسلام، تُسلم أن الله يقف خلف كل “كبيرة” و”صغيرة”. ما الذي سيحدث فعليا ؟ ماذا سيفعل الله ؟ بناءا على أي معيار سينصر هذا الفريق أو ذاك لأنه يستحيل أن يكونا محقين معا ،أكيد أن أحدهما محق والثاني مخطئ.الأكثر احتمالا هو أن يكون كلاهما مخطئ. لكن من سيفوز سيعتقد بشكل طبيعي أن الله نصره، محرجا بذلك الطرف الثاني.

هل من أمل في الإصلاح؟

في مارس 2006، كتبت لخاتمة كتابي” الإسلام بدون الإسلاموية ” هذه الأسطر (بداية الاقتباس):” يهيمن على الأخبار العالمية في بداية هذه السنة اضطرابا يزلزل العالم الإسلامي: المواجهة الدامية بين السنة و الشيعة في العراق، الصور المتلفزة لمسيرات الجماهير المسلمة في الشوارع المنددة بالكاريكاتير المسيء للنبي، التساؤلات التي أثارها فوز حماس في الانتخابات الفلسطينية، إعلان رسمي إيراني يهدد انه في حالة تعرض المنشئات النووية للعدوان سيحدث اضطرابا في السوق البترولية و قد تستعمل معه صواريخ بعيدة المدى،ضغوطات على سوريا،رفض حزب الله اللبناني التصريح بمعداته العسكرية،التخدير النفسي للحركات الإسلامية المتربصة في البلدان العربية و الإسلامية استعدادا للانتخابات التي ستمنحها نصرا حتميا…هل كل هذه الأحداث هي علامات واضحة ل”نهضة” أم أنها الهوة العميقة بين:” الرغبة اللامحدودة” و”والواقع المحدود جدّا” الذي تحدث عنه نيتشه؟ هل  ستعلن عن إسلام يتعايش مع العالم أم أن العلامات المسبقة تشير إلى مواجهات شاملة له مع الغرب؟ 

على المسلمين أن يدركوا أن ضعفهم فيهم ولن يتخلصوا منه إلا بإصلاح فكري و سياسي عميق و حقيقي.ما ينقصهم قبل كل شيء هو قرار قويٌ ليكونوا، عزم شديد ليصيروا شيئا ذا قيمة ،إرادة حضارية كتلك التي تشيد بذكاء اليابان الصين و الهند.هذه الإرادة التي لو استندت للشرعية السياسية ،التوافق الاجتماعي و الأساليب العقلانية، فهي قاعدة النجاح.بدل التخفي في كل مناسبة خلف الإله أو حشره في أخطائهم و سوء تقديرهم بناءا على تفكيرهم التقليدي الجامد،و بدل أن يفرغوا جام غضبهم و انفعالاتهم الكاذبة في بلاتوهات التلفزة أو أن يشحنوا الجماهير بأساليب معروفة من “البوليتيك”.على المسلمين عموما و العرب خصوصا الإسراع للبدء بإصلاحات تصنع منهم بالنهاية دولا محترمة من كل النواحي،و لا يجب أن ترتكز هذه الإصلاحات على الانتقال من ممارسات استبدادية منسوجة سريا في القصور إلى” فوضى الشوارع الصارخة ” (ص 526-527).

ترجمة : س.عايــدة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى