بين الفكر والسياسة

العالم العربي: استيقاظ طال انتظاره

بقلم: نور الدين بوكـــروح

ترجمة: عبد الحميد بن حسان  

” إن الحرية ليست هي التي تنزل إلى الشعب، بل الشعب هو الذي يجب عليه أن يصعد إليها “(حكمة).

 

إنّ الاستيقاظ الذي نقصده لا ينطبق على موجة الثورات التي انهالت على العالم العربي منذ 2011 أكثر مما ينطبق على كون تلك الثورات تسير في منطق التاريخ على ما يظهر. أقول “على ما يظهر” لأن الجزائري عندما يتحمس صار يخاف من الخيبة التي تلي ذلك التّحمّس: فقد كانت الجزائر تعتقد أنها سائرة نحو الأحسن سنة 1988، وإذا بها تجد نفسها وجها لوجه مع أسوإ الحالات.

لكنْ، يجب أنْ نتساءل في البدء عن حقيقة تلك الثورات. أهي مؤامرة خارجية أو ذات علاقة بحركة (القاعدة) كما يدّعي الحُكّام العرب الذين استهْدفتْهم؟ أهي نوبة مفاجئة دفعت بشعوب معروفة بهدوئها إلى إحداث بلبلة في بلدانها؟ لقد مرّ على تلك الثورات ما يكفي من الوقت كي نؤكّد أنّ هذه الانتفاضات الشبيهة بهزات زلزالية لا يُعقَلُ أنْ تكون بفعل مؤامرة محبوكة، وأنّ الدوافع الانتحارية لا يمكن أن تكون لها هذه القدرة على الانتشار من شعب إلى آخر. إنّ هذه العدوى لا يمكن أن تكون إلاّ بسبب نفاد الصّبر أمام تجاوزات الاستبداد، وإنّ انتشارها لم يكن إلاّ في محيط ثقافيّ واحد عزمتْ شعوبه على استرجاع سيادتها.

لقد جاء هذا الانفجار البركاني إيذانا بيقظة متأخرة لدى العرب في عالمٍ حدث فيه تغيير كبير خلال العشريات الأخيرة. فالتغييرات التي طرأتْ على كلٍّ من الجغرافيا السياسية والاقتصاد والتكنولوجيا والمناخ، وكذا الإعلام وعالم الأفكار، هذه التغييرات كانت عميقة جدا، لكنها لم تُحْدِث أيّ إخلال في استقرارها المتجذر عبر القرون. و الشاهد على ذلك أنّ السنوات التي تلتْ انهيار جدار برلين قد شهدتْ انتقال الدول التي كانت ترزح تحت نير أنظمة استبدادية إلى مرحلة الديمقراطية. وهي آخذةٌ منذ ذلك في الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي والثقافي كي تلحق بركب البلدان المتقدّمة.

أمّا البلدان العربية التي عانت فيها الشعوب من الاستبداد والظلم والفقر بقدر ما عانت تلك الشعوب الأوروبية، إنْ لمْ نقلْ أكثر، فإنّ جُلّ التفكير مُنْصبٌّ على الأمل في قيام دولة إسلامية وهمية، وهي ـ أي الشعوب العربية ـ يبدو أنها مُصِرّة على البقاء على هامش القيم العالمية، وهي عاقدة عزمها على السير في اتجاه مُعاكس لمسيرة التاريخ العالمي. وكان يُنْظَرُ إليها بنظرة اشمئزاز لخنوعها وبقائها بعيدا عن النماذج الدولية، حتى بادر الشعب التونسي بنسف هذه الصورة الخاطئة والمُخزية. وفجأةً سرتْ حُمّى الحُلم الديمقراطي من المحيط إلى الخليج.

كانت الثورة التونسية سببا في إثارة الشعب المصري، وكانت ثورة مصر سببا في تشجّع شعوب أخرى في شمال إفريقيا والشرق الأوسط. وهكذا امتلأتْ أعيننا في ظرف أسابيع قليلة بما لم تمتلىء به طيلة قرون، بمشاهد لم نكن أبداً نأمل أن نراها في حياتنا. وكانت الشعوب العربية متشككة في هذه الثورات في البداية، لكنها بعد أن تابعت الأحداث عبر قنوات التلفزيون الفضائية التي يعود لها فضل كبير في نجاح الثورات، بدأتْ تؤمن بإمكانية التغيير لمن أراد ذلك.

هبّتْ رياح الحرية من الاتجاه الذي لم يكن أحد يتوقعه. جاءت من قرية من قرى تونس النائية، ولم تكن بفعل حزب سياسي أو نقابة أو مجموعة من المثقفين، بل جاءت من إقدام شرطية على صفع تاجر جوّال بريء من كل نوايا سياسية. و بمقتضى نظرية الفراشة الشهيرة، والتي مفادها أن حركة جناحي فراشة في بقعة من العالم قد تتسبب في إعصار ينطلق من بقعة بعيدة عنها بعدا كبيرا. كذلك أدى ردّ فعل محمد البوعزيزي إلى إشعال فتيل العالم العربي وإحراق عدد من المستبدّين.

وممّا قرأتُه في الآونة الأخيرة مقولة للرئيس بورقيبة يقول فيها: ” بحفنة من الأفراد أنْشأتُ شعباً من المواطنين“. وبالفعل فإنّ ذلك الشعب الذي حظي بنظام تربوي جيد والذي صار هو أكثر الشعوب  العربية حداثةً، هو نفسه الذي نجح في أول ثورة ديمقراطية في العالم العربي وجرّ في إثْرِه كثيرا من تلك الشعوب. لقد حُلّت المشكلة في ظرف ثلاثة أسابيع. صحيح أن هناك أحداث نهب وتخريب، وهي أحداث لا يمكن تفاديها في خضمّ الغضب الجماهيري، لكنّ التظاهرات سرعان ما اتّخذت شكل ثورة سياسية حقيقية. فلم يعُد هناك كلام عن الخبز وغلاء المعيشة، بل كل الحديث صار يدور حول الكرامة والحرّية والديمقراطية ومحاسبة الديكتاتور.

وكانت الخريطة الفكرية في العالم العربي الإسلامي إلى ذلك الحين تتميّز بكونها عبارة عن كُتلٍ صغيرة من الضمير الحداثي وبإزائها بحار ومحيطات من الضمير الرّديم. ولهذا اختار ثلاثة مثقفين من لبنان هذا العنوان:” قرن كامل ذهب هباءً منثورا” لبحث قاموا به حول أسباب فشل النهضة العربية في شتى المجالات. وهو عنوان يُلخّص الوضع أيّما تلخيصٍ. غير أنّ تلك الملاحظة لا تزيد إلاّ من درجة المفاجأة التي حدثت بها أحداث بداية سنة 2011. فكيف يمكن تفسير تلك الأحداث؟ وكيف يمكن أن نفهم هذا النضج المفاجىء الذي انتاب شعوبا طال استسلامها وخضوعها؟

لقد انتقلت هذه الشعوب تباعاً، وبدون سابق إشعار، إلى طور التفكير، حسبما تدلّ عليه الشعارات والتصريحات التي قرأناها على اللافتات. كانت تلك الشعارات واحدة في كل مكان، مثل: ((الشعب يريد…)). لمْ يُركّز المتظاهرون مطالبهم حول” الأشياء “، مثل التشغيل أو رفع الأجور، أو برامج التنمية، كما كان يظن الرؤساء المخلوعون ( بن علي، مبارك والقذافي) إلى آخر لحظة، بل ركزوها على إنهاء النظام الذي كان يحكمهم. وبتعبير آخر كانت المطالب تدور حول “الأفكار” لم تطالب الجماهير بديمقراطية “عربية ” صرفة، ولا بديمقراطية ” مسؤولة “، بل بالنظام الديمقراطي الذي يمكن وصفه في فقرة موجزة: دستور يُكرّس الفصل بين السلطات، استقلالية العدالة، المساواة أمام القانون، حرية المعتقد وحرية التعبير، انتخابات حُرّة وآليات رقابة فعالة من أجل الحدّ من ظاهرة الفساد وردعها.

إنها ثورة العقل ! وهذا أمر لم يُتَحْ لنا أنْ نراه منذ نزول القرآن الكريم في البلدان الإسلامية، كما يسمح لنا بالقول إنّ الشعوب العربية قد ارتقتْ أخيرا إلى المرحلة السياسية وإلى مرحلة الأفكار من عمرها. و في هذا المستوى قد يكون من المفيد أن نَذْكُر حقيقة مهمّة: فهذه الشعوب التي ثارت في أوطانها ليست هي شعوب الأمس. إنّ أسماءها لم تتغيّرْ، ولكن ملمحها الجسدي والفكري قد تغيّر تغيّراً كبيراً. وكانت الطليعة التي أشعلت فتيل النار تنتمي إلى أجيال انبثقت من تلك الشعوب نفسها، لكنها نشأتْ بأفكار ساعدت على تشكيلها تكنولوجيات الإعلام والقنوات الفضائية.

إنّ الجميع متفق على الدور الذي لعبته شبكات التواصل الاجتماعي في التجنيد، وإنّ الشبكة العنكبوتية قد منحتْ لتلك الأجيال أساليب تبادل معلومات سمحت بتهيئة الأرضية لحركة منسّقة، وسمحت في آن واحد بتحويل تلك ” الحفنة من الأفراد ” إلى عناصر متواصلة ومُشكِّلة لمجتمع، وتحويل الشارع إلى رأيٍ عام، وتحويل السكان إلى شعوب. وكان توينبيToynbee قد قال منذ نصف قرن:”  إنّ المجتمع هو حاصل الروابط بين الأفراد، وتلك الروابط تنشأ عندما يتقاطع الأفراد في حقول نشاطهم، ويسمح ذلك التقاطع بجمع تلك الحقول المشتتة في مجال موحّد نطلق عليه اسم مجتمع. فالمجتمع هو الشبكة الكاملة المُكوِّنة للروابط بين الكائنات البشرية. وبناءً على ذلك فإنّ مُكوّنات المجتمع ليست هي الكائنات البشرية، بل هي الروابط الموجودة بينها .

لقد تمكّن الشعبان التونسي والمصري في ظرف أسابيع قليلة من القفز إلى حظيرة القرن الواحد والعشرين، والْتَحَقَا بالشعوب الراقية التي تؤمن بحقوق الإنسان، وخرجا من حظيرة الأغنام التي لا تثغو إلاّ لتحية زعيم، ولا تصيح إلاّ لتحتفل بانتصاراتها في كرة القدم، ولا تتذمّر إلاّ إذا بدرت من أحد الكتاب المغمورين أو الرسامين الكاريكاتوريين الفوضويين أعمال فيها ” مساس بالإسلام “. إنها فعلاً نهاية مرحلة، و نهاية عقلية، ونهاية نموذج اجتماعي.

إن الفكرة القائلة بأن السيادة للشعب استغرقت أربعة عشر قرنا كي ترى النور في عالمنا العربي الإسلامي، ويبدو أن جيلنا هو الذي حظي بأن يُعاصر هذا الفجر الجديد. وإذا نظرنا إلى تاريخنا وجدنا أنه باستثناء عمر بن عبد العزيز، الذي كان ينوي التنازل عن الحكم الوراثي غير الشرعي، لا يوجد أيّ حاكم آخر مارس النقد الذاتي أو تنازل عن العرش لغيره. وهو لا يغادر الكرسي إلاّ مقتولا أو فاراّ من مزاحمة ديكتاتور آخر. والعالم العربي لم يعرف نموذجا مثل نموذج نلسن منديلا Nelson Mandela الذي حظي باحترام العالم كلّه لبُعد نظره وتعفّفه. غير أننا في الجزائر يجب ألاّ ننسى تنازل الرئيس اليامين زروال عن السلطة قبل نهاية عهدته سنة 1999.

إنّ الشبيبة التي رأينا نشاطها في هذه الثورات في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا، كانت في مواجهة أنظمة حكم مؤسسة على أفكارٍ أَكَلَ الدهرُ عليها وشرب. فالصراع كان بين ثقافتين. ولا عجب في أنّ الرؤساء الثلاثة المخلوعين صرحوا بنفس الأشياء لأن ثقافتهم السياسية هي التي كانت تتكلم. فقد صرح بن علي ومبارك بأنهما منحا نصف قرن أو أكثر من عمرهما لبلديهما، بينما راح القذافي يصيح قائلاً إنّ ليبيا لم تكن شيئا مذكورا قبله وسوف تنقرض بعده. لم يكن يخطر ببال هؤلاء الرؤساء بأن مصدر سلطتهم هو الشعب، وأنّ الشعب هو صاحب العمل الذي يشتغلون فيه، وأنه قد وظّفهم لمدة طالت أكثر من اللزوم ودفع لهم الثمن باهظا، لكن النتائج في المقابل كانت هزيلة. كانت تلك الشعوب متذمّرة فعلاً، فقد راحت تحتج كمن سُلِب منه حقه الطبيعي أو اعتُدِي على ملكيته الشخصية.

إنّ فكرة أنّ الشعب هو مصدر السلطة لم يكن لها أي مكان في ثقافة أولئك الحكام. ومع أنهم كانوا يرون بأم أعينهم كيف تقوم الشعوب الأخرى باختيار حكامها عن طريق الانتخاب، ثمّ كيف تثور ضدهم وتخلعهم إذا لم يوظفوا السلطة أحسن توظيف، مع ذلك لم يكن يخطر ببالهم أن الشعوب العربية هي بدورها عبارة عن مواطنين أسياد في أوطانهم مثل الشعوب الأخرى. إن أولئك الحكام يعتبرون شعوبهم مثل الدمى التي تحرّكها أيدي خارجية، أو مثل المقيمين على أرضه، مثل المغتربين في أوروبا.

لم يكن أولئك الحكام إلاّ من المصابين بجنون العظمة، معظمهم في مستوى ثقافي ضعيف، وبعضهم من المصابين بأمراض عقلية، لكنهم جميعا من اللّصوص الذين حكموا حسب هواهم، واستصغروا شعوبهم من أجل إبقائها في مرحلة ” الأشياء “، وأوهموا الغرب بأنهم القائمون على شؤون السلام والأمن في الشرق الأوسط، وأنهم حماة الوطن ضد الإسلاموية، وحراس الحدود في وجه الهجرة الجماعية. لكن و للأسف ساعدتهم الأقدار إذ جعلت تحت تصرّف معظمهم موارد ضخمة من مداخيل المحروقات التي كانت تُغْنيهم عن عمل شعوبهم وعن مداخيل الجباية، بل وحتى عن انتخاب الشعب لهم.

إنّ الفضل في سقوط أنظمة ـ وسَتَتْبَعُها بالتأكيد أنظمة أخرى ـ يعود إلى أن الأجيال الجديدة قد انتبهت إلى أنها كانت مخدوعة بخطاب خرافي ووهمي يدعو إلى  ” مكافحة الاستعمار والأمبريالية والصهيونية”، وهو خطاب ” البعث العربي” و ” وحدة الوطن العربي ” و ” وحدة المغرب العربي “، والتنمية اعتمادا على ” نموذج مختلف ” عن النموذج الغربي، و ” مكافحة الإرهاب”… وواضح أن أولئك الحُكّام الديماغوجيين لم يحرروا فلسطين، ولا حققوا الوحدة العربية أو المغاربية، ولا قاموا بتنمية بلدانهم، ولا تغلّبوا على الإرهاب، كانوا على نقيض ذلك تماما.

إنّ التغيير الذي طال انتظارُه والذي كان يُتوقع أن يأتي من داخل السلطة، أو من الجيش، أو من الأحزاب السياسية أو من النخبة المثقفة، هذا التغيير لم يأتِ، ولذلك تمّ تبنّيه من طرف المواطنين أنفسهم، وفي ظروف غامضة وغير متوقعة، إذ يبقى أن كل تلك الثورات لم تكن منتظرة. فقد تمّ إسقاط الرؤساء الذين طالت مدّة حكمهم على رأس “جمهوريات”، بينما تعيش البلدان ذات الأنظمة الملكية كالبحرين، الأردن، المغرب و عمان، أجواء المطالبة بأنظمة حكم ملكية دستورية، وبعبارة أخرى تحويل السلطة من المَلِك إلى برلمان منتخب.

هكذا تخلّصت الشعوب العربية من عالم ” الأشياء “، وذلك باحتقارها للاستجابة المادية لثورتها، وتجاوزت مرحلة تقديس الأشخاص بتحطيم فكرة المهدي المنتظر والاستخفاف بالحلّ العسكري ورفض وصاية ” رجال الدين “. فمحمد البرادعي الذي عاد إلى القاهرة غداة المظاهرات الأولى، والذي كان يرى فيه البعض ذلك المهدي المنتظر، وهو بدوره جاء ليجعل مقامه الشخصي المحترم في خدمة ثورة الشباب الذين، من جهتهم، تجاهلوا هذا الرجل صاحب جائزة نوبل للسلام الذي أصيب بالحجارة يوم الاستفتاء حول دستور مصر الجديد.

ولم يفقد الشباب نَفَسَهُمْ حتى بعد سقوط المستبدّين، وراحوا يُلِحّون على تحقيق مطالبهم في كل من تونس ومصر متسببين في سقوط الحكومات الانتقالية تباعاً. كان يُتوقّع أن يعود المتظاهرون إلى بيوتهم بعد سقوط المستبدّين وهم يشعرون أنهم قد حققوا هدفهم، ويتفرّقوا فرحين ومرتاحين للنتيجة التي تحققت. لكن، يا لهول المفاجأة ! لقد بقوا مُجنّدين ويقظين لمراقبة التحقيق التام لأهداف مسيرتهم، أي: تغيير النظام، وليس مجرد تنحية الديكتاتور.

هكذا، فإنّ تلك الشعوب العربية التي كانت في عداد الموتى، وكانت تتعرض لسخرية الشعوب الأخرى، بل إنها هي نفسها كانت تهزأ من نفسها، أصبحت اليوم تعطي للعالم أروع الدروس في البطولة والتفاني والروح الوطنية والتضامن والتنظيم الذكي، بل وحتى إضفاء جو المرح على كل ذلك. ولم يكن وراء عودة الوعي هذه أية نخبة في الداخل، فقد صارت الشعوب نفسها هي النخبة، وراحت تبرهن على عبقريتها بشعارات وبيانات وإعلانات آنية ومشاهد متلفزة كان لها بالغ التأثير علينا.

إنني، شخصيا، أجد في هذه الثورات لأول مرة معنى لمفهوم ” الوحدة العربية “. لقد لمستُ تلك الوحدة في ذلك التشابه الجسمي والمعنوي بين تلك الشعوب المكافحة في سبيل افتكاك حريتها، كما لمستها في وحدة التفكير والكلام، وفي وحدة مرجعياتهم. الفرق الوحيد الذي يمكن أن نلحظه من بلد إلى آخر هو ما يتعلّق باللهجة المحلّيّة أو الزي والثياب. والمستبدّون أنفسهم هم الذين دفعونا إلى مَقْتِ مفهوم الوحدة لأنهم لم يكونوا يريدون أن يحققوا منها ما قد يحدّ من حق الموت والحياة على شعوبهم. سيصير هذا المفهوم ممكنا في المستقبل لأن الشعوب ستتمكن من بنائه من خلال المؤسسات التمثيلية التي سيتم إيجادها والتي ستشرع في بناء وحدة عربية على منوال تلك الوحدة القائمة بين بلدان أوروبا. وإنني أراهن على أن أولئك الجزائريين أو غيرهم من الذين كانوا يكرهون أن يُقال لهم إنهم عرب، قد أحسوا في أعماقهم بمناسبة هذه الثورات بنوع من الاعتزاز بما يحدث.

لكنّ المستبدّين لم يكونوا إلاّ بمثابة الأشجار التي تُخفي وراءها غابة. لقد أدت بهم نرجسيتهم غير المحدودة وأنانيتهم التي تجاوزت كلّ تصوّر إلى طمس كلّ أثر لقيمة شعوبهم وعظمتها، وأفحمونا بعشريات طوال من مشاهد يَنْدَى لها الجبين وتكشف عن نزقهم وجهلهم، إنها مشاهد رؤوسهم وشعورهم المصبوغة ومشاهد مسرحية لا حصر لها. عملوا على إذكاء نار الفتنة بيننا، فجعلوا من بعضنا عدواًّ للبعض الآخر، أو معارضا له، لأننا كنا نحتكم جميعا إلى معايير الديكتاتور ليُصدر كلٌّ منّا أحكامه السلبية على الآخر. وبعد السقوط الفظيع الذي وقع للأشجار الحاجبة للرؤية، امتدّ أمام أعيننا مشهد غابة جميلة فيها ملايين الأشجار والشُّجيرات التي تطفح عسلاً، غابة ساحرة، مشاهد عجيبة للشهامة ونماذج كثيرة للتضامن والأصالة.

لكن، ماذا ستجني الشعوب من الثورات التي حققتها؟ المؤكّد أنّ الشعوب التي لم يكن لها بترول قبل الثورة لن ترى بترولاً يخرج من باطن الأرض بعدها، وأنّ مَنْ كان يعيش في فقر مُدقعٍ لن يرى حاله تتحسن بين عشيةٍ وضحاها، أمّا البطالون فلن تتاح لهم فرص عمل في القريب العاجل، وأكثرُ مِنْ ذلك كله فإن الذين قاموا بالثورة لن يصلوا جميعا إلى سدّة الحكم… لكنهم ربحوا شيئا أهمّ من هذا كله: لقد أصبحوا يحسّون بالكرامة، وأصبحت الأواصر بينهم أقوى، وصاروا يعتزّون ببلدهم ودولتهم، كما أصبحوا يَحْظَوْن بالاحترام في العالم أحسن من ذي قبل. ستتاح لهم فرص التعبير عن آرائهم بواسطة الاقتراع، وهذا ما شاهدناه في القاهرة منذ مدة وجيزة، كما سيكون تمثيلهم من طرف نواب من اختيارهم، وستكون عندهم عدالة يثقون بها، كما سيحافظون على حقهم في التعبير عن تذمّرهم إذا ما لم يتحقق شيء من ذلك، سيتظاهرون دون أن يخشوا أن يُزجّ بهم في السجن أو أنّ يُقتلوا. وفيما عدا ذلك من الأمور لم يبق عليهم إلاّ أن يتّبعوا الطريق التي رسمتها بلدان مرّت على النظام الديكتاتوري وخرجت منه بوجه جديد، مثل: إسبانيا، كوريا الجنوبية، والبرازيل، وهذا للتمثيل لا للحصر.

في وقتٍ مضى كان الشعب الجزائري يحظى بصورة ممتازة في محافل البلدان العربية، وذلك بفضل الثورة التحريرية التي خاضها ونال بها إعجاب العالم. كان يُطلق على شعبنا لقب ” شعب المليون “، مليون شهيد وليس مليون برميل من البترول بطبيعة الحال. وبعد ذلك بدأ نجمه بالأفول. إنّ تونس التي انطلقت منها ثورة استعادة كرامة الإنسان العربي والتي ستكون لها تداعيات على العلاقات الدولية في السنوات المقبلة، هذا البلد الصغير تُقدّر صادراته خارج المحروقات بعشر مرات ما تصدّره الجزائر خارج المحروقات. وكانت تونس سبّاقة إلى حمل السلاح قبلنا في وجه الاستعمار الفرنسي. لكن هناك مجالاً هزمنا فيه التونسيين، وميداناً تفوقنا فيه عليهم، إنها ” الرئاسة مدى الحياة “.

وبالفعل، فقد كان زعيم الحركة الوطنية الجزائرية مصالي الحاج، يُطالب بتزكية شاملة من حزبه منذ اثنتي عشرة سنة قبل الاستقلال. وكان يطالب كذلك بأن يكون له ” حق الفيتو “. ومن نتائج ذلك دخول الحركة الوطنية في أزمة كانت سببا في تأخير تفجير ثورة التحرير بأربع سنوات، كما دفعت بمناضلي حزب مصالي إلى الدخول في حرب ضد إخوانهم، وهي الحرب التي لم تتوقف إلاّ بتحقيق الاستقلال. هذا في الوقت الذي كان فيه التونسيون قد بادروا بحمل السلاح في وجه المستعمر، ونالوا استقلالهم ست سنوات قبلنا. ولم تخطر ببال الرئيس بورقيبة فكرة الرئاسة مدى الحياة إلاّ حوالى سنة 1975. لكن الفرق بينه وبين مصالي، أنه، أي بورقيبة، ترك وراءه شعبا من المواطنين، بينما لم يترك مصالي وراءه إلاّ زرافات من أشباه الزعماء.

 

نشر في جريدة ” لوسوار دالجيري” بتاريخ: 23 مارس 2011.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى