بين الفكر والسياسة

العهدة الرابعة:حال الإنسان هي حال دستوره

بقلم نور الدين بوكروح
ترجمة عبد الحميد بن حسان

أحياناً يمكن أنْ يُقضى على دولة دون قتل أيٍّ من رجالها “. جان جاك روسو

 

مِن سُنن الكون أنّ الأفراد ينتظمون في جماعات كي يتمكنوا من مواجهة الأخطار الآتية من الطبيعة أو من جماعات بشرية أخرى. وإذا ما بلغوا درجة معيّنة من التطوّر راحوا يتبنّون هنا وهناك أنظمة حياة جماعية تُوزّع بموجبها الأدوار من أجل الاستجابة لحاجتهم إلى الأمن والتعاون في مواجهة المجاعة أو الوباء. وهذه القواعد التي سارت عليها حياتهم أُطْلِقتْ عليها عدّة مُصطلحات مثل: السَّنَن، أو لائحة القوانين، أو الميثاق أو الدّستور. ثُمّ طُوِّرت تلك القواعد على مرّ العصور بعد حدوث القطيعة في الروابط الاجتماعية أو بسبب أحداث خارجية مثل الحروب، أو بفضل مبادرات كبار القادة.

 

وهذه القوانين الشفهية أو المكتوبة، سواء منها التوقيفية أو الوضعية، كانت من وراء تأسيس المدن والإمبراطوريات والحضارات والدُّول التي تصفها كتب التاريخ والتي نشاهدها اليوم بمختلف الأشكال والخصوصيات في عالمنا الحاضر. أمّا الدساتير أو القوانين الأساسية التي تتفرّع عنها كل القوانين الأخرى، فقد ظهرتْ منذ العصور القديمة في كلّ المناطق التي سادت فيها الثروة والتي بلغ فيها العلم درجة من الرّقيّ تقتضي أساليب تسيير تتيح مشاركة أكبر عدد ممكن من أجل إعطاء قرارات السلطة مزيداً من الشرعية، ومن أجل تطوير ظروف المعيشة للجميع، وفرض المساواة في الحقوق والواجبات، وإيجاد حلول للصراعات بأساليب مُتفق عليها مسبقاً.

 

كان ذلك الدّستور الذي فرضه بن بلّة سنة 1963 على المجلس الوطني التّأسيسيّ هو أول دستور عرفه الجزائريون منذ وُجِدوا على سطح المعمورة، وذلك بعد أن تمّ انتخاب المجلس لعهدة مداها عام واحد في سبتمبر 1962، كي يتكفّل بإعداد دستور ديمقراطيّ. فبينما كانت لجان المجلس مُنكبّة على دراسة مشروعين لصياغة الدّستور جاء بن بلّة الذي كان رئيساً لمجلس الحكومة لينزع المهمّة من تلك اللجان.

 

وقبل نهاية عهدة المجلس بشهر واحدٍ أُرسِل إليه مشروع دستور تمّ تحريره من طرف المكتب السياسي لجبهة التحرير، وطُلِب منه أن يُصادق على المشروع، وهذا ما دفع برئيسه فرحات عباس إلى تقديم استقالته بتاريخ 12 أوت 1963. وكانت تلك المرّة الثالثة التي يلجأ فيها جناح بن بلّة إلى استعمال العنف في اتّخاذ القرارات، وقد سبقتها حادثة مغادرة أشغال اجتماع المجلس الوطني للثورة الجزائرية ( CNRA ) المنعقد في طرابلس (ليبيا) شهر جوان 1962، ثُمّ تلا ذلك ما جرى من أخذ السلطة بالعنف بعد بضعة أشهر.

 

وإذا كان “الأسلوب هو الرجل” في فن الأدب، ففي السياسة يمكن القول إنّ الدّساتير الجزائرية هي نتاج الرجل الذي أوعز بإعدادها. وبالفعل، فبإمكاننا القول إنّ الجانب النفسيّ حاضر بقوة في الدّساتير الجزائريّة مثلما أنّ كلّ أثرٍ كتابيّ يتميّز بأسلوبٍ خاص، ومثلما أنّ لكلّ هندسة معمارية طابعاً خاصاًّ، ولكلّ مُخرجٍ سينماتوغرافيٍّ طريقة تُميِّزه ويُمكن التعرّف عليه من خلالها ولو لم تكن تحمل اسمه. وهكذا يبدو أنّ كلّ دستور جزائريّ يحمل بين طيّاته وخياراته تلك النوازع النفسية التي عٌرف بها الشخص الذي أشرف على إعداده. فباستثناء دستور 1963، كلّ الدساتير التي تلته موسومة بالسمة الذاتية لصاحبه.

 

ويُمكن اعتبار دستور سنة 1963 هو الدّستور الوحيد الذي لمْ يُهيمِنْ على إعداده شخصٌ واحدٌ لأنّ البلاد كانت حديثة عهدٍ بخروجها من الثورة، ولمْ يُتَحْ لأيٍّ من شخصيات تلك الفترة أنْ يفرض نفسه بالقدر الذي يكفيه لكي يدّعي أنه “أوّل النظراء ” في زمانه. فلم تكن التوازنات قارّة على حالٍ، ولم تكن الطموحات صريحة، أما صراعات الأمزجة فكان يسودها الغموض.

 

وبعيداً عن الأشخاص الذين تولّوا بأنفسهم تحرير هذا الدّستور يمكن اعتباره بمثابة حلّ وسط مؤقّتٍ لحلّ مسألة اقتسام السُّلطة بين وجوه الثورة المجتمعين داخل المجلس الوطنيّ التأسيسيّ والجناح الذي استولى على المكتب السياسيّ لجبهة التحرير. وكان بن بلّة، مثله مثل معظم رفقائه الذين تخرّجوا من مدرسة مصالي الحاج، يحلم بسلطة مطلقة وهو بعيد كلّ البعد في مستواه الثقافي عن تولي مثل هذه الوظيفة، ولم يكن يحمل أيّة نظرة إلى مستقبل الجزائر، كما لم يكن يأبه إطلاقاً بمسألة الشرعية.

 

كان بن بلّة بحاجة إلى مساندة قائد الأركان في جيش الحدود، وكان هذا الأخير بحاجة إليه كذلك. تلك كانت أجواء التآمر التي أحاطت بنشأة الدولة الجزائرية الحديثة وتوجهها نحو مستقبلها، وهي لذلك فاقدة لتوازنها إلى يومنا هذا. وقد تظاهر بن بلّة بقبول تقاسم السلطة مع المجلس الوطنيّ التأسيسيّ، لكنه في الواقع سيُسارع بالدوس فوق الدستور كُلّما كان حجر عثرة في طريقه. ولو أنه احترمه وعمل بآلياته واستغلّ ما ينطوي عليه من موارد الشرعية لما تعرّض لانقلاب 19 جوان 1965.

 

وإذا ما نظرنا إلى هذا الدستور ـ وهو أقصر دستور جزائري بـ 78 مادة ـ نظرة مراجعة لوجدناه مُركّباً عجيباً يتكوّن من جوهر أساسه استبداد الحزب الواحد، ومن جوهر آخر أساسه الديمقراطية في إطار النظام البرلمانيّ، وهو بهذا يحقّق ـ ولو على الورق ـ توازناً غير متوقّعٍ بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية. بل يمكن لنا التأكيد على أن هذا الدستور كان مؤسِّساً لنظام “وهميٍّ” يميل إلى كونه برلمانياًّ أكثر من كونه رئاسياًّ، لأنّ رئيس الجمهورية، الذي هو رئيس الحكومة ورئيس الحزب في آنٍ واحد، مسؤول أمام المجلس الوطني الذي يفرض على الرئيس أن يأخذ أربعة أخماس حكومته من أعضاء المجلس (المادة 47)، وأن يؤدّي اليمين الدستورية أمام المجلس الذي يقتسم معه كل مبادرة تخص سَنّ القوانين (المادة 36) وكذا مراجعة الدستور (المادة 71)، وأنّ رئيس المجلس بإمكانه أن يُصدِر قوانين إذا لم يقُم رئيس الجمهورية بذلك في أجل أقصاه عشرة أيام بعد إرسالها له (المادة51).

 

فهل هناك دستور جزائريّ آخر منح للهيئة التشريعية هذا القدر من السّلطات؟ بل إنّ دستور 1963 أعطى السلطة التشريعية حتى سلطة خلع رئيس الجمهورية في حالة غياب الانسجام والتفاهم. فقد جاء في المادتين 55 و56: ” يقوم المجلس الوطني بالطعن في مسؤولية رئيس الجمهورية عن طريق إصدار لائحة مقاطعة يجب أن تُوقّع من طرف ثلث النواب المُشكّلين للمجلس” ، ” إن التصويت على لائحة مُقاطعة بالأغلبية المطلقة من نواب المجلس الوطنيّ تستتبع استقالة رئيس الجمهورية وحلّ المجلس الوطنيّ آلياًّ”. ولا يمكن لرئيس الجمهورية أن يحلّ المجلس الوطنيّ، بينما يستطيع المجلس أن يخلع رئيس الجمهورية وينحلّ آلياًّ في آنٍ واحد رغم أنه مجلس مُنتخب بالتصويت العام والمباشر. وفي هذه الحالة، فإنّ المرحلة الانتقالية تكون تحت رئاسة… رئيس المجلس الوطنيّ.

 

وفي كلّ حقب التاريخ الإنساني نجد أنّ الدساتير التي صاغتها الأمم الخاضعة لقانون أساسي مكتوب قد واجهت مشكلة استقرار محتواها وكذا استمرارها. وما يُبرّر هذا الهاجس هو ما قد يتعرّض له عملٌ قام به شخص أو مجلس من إلغاءٍ على يد رجلٍ آخر أو مجلسٍ آخر، وما قد يتعرّض له تعديلٌ من التعديلات من إلغاء، وهذا بناءً على ألاّ أحد له الحقّ في التشريع للأبد، وأنّ كلّ سلطة تأسيسية ليست أكبر من سلطة تأسيسية أخرى.

 

قام هواري بومدين بانقلاب ضدّ أحمد بن بلّة في 19 جوان 1965 وزجّ به في السّجن بدون محاكمة وفرض عليه حظرا كُلّياًّ إلى أنْ تمّ إطلاق سراحه على يد الرّئيس الشاذلي بن جديد سنة 1980. فهل نتصوّر أنّ بومدين يقبل بالدستور؟ ويقبل بأن يكون مسؤولاً إزاء هذه الوثيقة؟ هل سيقبل بأن يُعيّن وزراءه من المجلس الذي قد يُنهي مهامّه بتصويت نصف نوابه+1؟ إنّ هذا الرّجل الذي أشار الطبيب فرانز فانون Frantz Fanon قبل الاستقلال إلى أنه “مصاب بمرض حب السلطة”، هذا الرجل كان يرغب في الحصول على سلطة كاملة لا يُنافسه فيها أحدٌ.

 

ولهذا فإنّ بومدين لم يتردّدْ لحظة في تعليق الدّستور لكي يحكم ويُشرّع بأمرياتٍ حتى سنة 1976، وهي السنة التي نظّم فيها التصويت على الميثاق الوطني على نهج مواثيق الاستبداد الماركسي اللينيني، ثمّ أصدر الدستور الذي كان بمثابة برنامج مُسطّر، والذي يعتبر أطول نصّ دستوريّ جزائريّ ( 199 مادّة ) وأبعد دستور جزائري عن الديموقرطية. ولم يتمتّع بومدين بذلك زمناً طويلاً لأنه مات سنة 1978.

 

لنتصوّر لو أنّ بومدين لم يتربع على السلطة بنفسه وقام بدلاً من ذلك باقتراح رجلٍ من طراز فرحات عبّاس من أجل إخراج البلاد من درب المغامرة الذي زُجّ بها فيه خلال عهد بن بلّة: ألم يكن مصيرنا سيتّخذ مجرى آخر؟ إلاّ أنّ بومدين لم يكن يحبّ، ولم يكن يتصوّر إلاّ جزائر خاضعة لإرادته المُطْلقة.

وقد سبق أنْ حذّر عدة أبطال ثوريين ممّن استُشهدوا في ساحة المعركة أو ممن أُعدِموا بأيدي “إخوانهم”، من مغبّة الوقوع بين براثن الحُكم المتسلّط الموروث عن النهج المصاليّ الذي نجده مُجسّداً بشكل خاص عند بن بلّة وبومدين، وهو النهج الذي ندّدت به النصوص االتأسيسية للثورة مثل وثيقة مؤتمر الصومام (1956) التي تقول: ” إنّ نفسية مصالي هي أشبه شيء باعتقاد الديك ،الذي تذكره الخرافة، بأنه لا يكتفي بملاحظة بزوغ الفجر، بل إنه هو الذي يأتي بالشمس من المشرق… فالشمس طالعة دون أن يكون للديك أي فضل في ذلك، كما أنّ الثورة الجزائرية منتصرة دون أن يكون لمصالي أي فضل”.

 

ومثل ذلك نجده في ملحق ميثاق الجزائر الصادر في 1964، حيث يقول بن بلّة: ” يجب أن نُحارب التيار الذي يؤكّد أتباعه أن بناء الدولة شرط مسبق للقيام بالثورة. فمثل هذا النهج خاطىء. ولو انتهجناه لأفضينا إلى تسليم السلطة لأولئك الذين يمتلكون اليوم ثقافة وخبرة سياسية، أي للأطراف ذات العلاقة بالبورجوازية… ففي هذا البلد يجب ألاّ يكون الرجال الذين يشغلون المواقع الأولى موظفين أو وسطاء من أي صنف، بل يكونون من الفلاحين والعُمّال. وكلّ الآخرين يجب أن يبقوا في خدمتهم لأنهم يعيشون من ثمرة كدّهم…”

 

ولقد احتلّ بن بلّة الموقع الأول في الحكم دون أن يكون فلاحاً أو عاملاً، ومثله في ذلك كلّ الذين جاؤوا بعده، ولم يعش من كدّهم ولا كان في خدمتهم. لم يكن كلّ ذلك إلاّ كلاماً ديماغوجياًّ جعل فرحات عباس يقول في كتاب ( L’indépendance confisquée): ” كان بن بلّة وبومدين عبارة عن آفتين سُلِّطتا على الجزائر بعد آفة المنظمة المسلحة السرية OAS… لماذا اختارا نموذج المجتمع الشيوعيّ؟… لأنّ كليهما كان مُصاباً بمرض حب السلطة الشخصيّة، وكانا يريدان أن يُحافظا على هذه السلطة تحت ظلّ النظامٍ الشيوعيٍّ الذي يكفل لهما ذلك بامتياز.

 

فمثل كاسترو أو بريجنيف يتمتع بسلطة لا يتمتع بها أي ملك من ملوك العصور الغابرة، ولا أحد ينافسه فيها. فجاذبية السلطة المطلقة هي التي فرضت على حُكامنا أن يختاروا هذا النظام. وبعد أن نصبوا أنفسهم على العرش حرصوا على إحاطة أنفسهم بحاشية من أشخاصٍ مُستعدّين لخدمة أنفسهم لا لخدمة غيرهم”.

 

وقد اسْتَشْرَتْ هذه الحالة النفسية في بلادنا وهيمنتْ على الذهنية العميقة لدى كلّ منْ يتربّع على قسط من السلطة. وهي لا زالت مُسيطرة إلى يومنا، بين أعيننا، ولا يبدو أنها في آخر مشوارها لأننا رأينا من ألوان التسلّط ما لم يسبق له مثيل. ولم يسبق أن اتُّخِذت عقلية العرش والنزعة الجهوية والعشائرية، والجهل الفظيع والرشوة كأدوات تحكّمٍ واضحة وضوح الشمس كما حدث في الآونة الأخيرة. وإنّ بعض أولئك الذين نصّبوا أنفسهم في مواقع “الآباء المؤسّسين” لم يكونوا في الحقيقة إلاّ “آباءً مُخرّبين”، ومجانين تركوا وراءهم تلاميذ يشبهونهم، والجزائر ستُعاني من ويلاتهم لزمن ليس بالقصير.

 

وجاء دستور 1976 ليُسجّل تراجعاً كبيراً قياساً بدستور سنة 1963. صحيح أنّ البلاد بقيت تحت نظام الحزب الواحد، لكن جميع السلطات أصبحتْ بين يدي رئيس الجمهورية. أمّا الحزب الواحد الذي هو المرجعية النظرية لخيارات البلاد من الناحية السياسية، وهو الذي يُوزّع مواقع المسؤولية من أعلى هرم السلطة إلى أدناها، فلمْ تَعُدْ له أية صلاحيات، ولم يعُدْ له مِنْ حضور غير الحضور الفولكلوري في الحياة الوطنية.

 

وعلى أية حالٍ فلمْ تَعُدْ هناك سلطة تشريعية وسلطة قضائية، بل هناك “وظيفة” لكلٍّ منهما. وقد تمّ رفع سنّ المترشح للرئاسيات من 35 إلى 40 سنة، وتمّ تمديد العهدة الرئاسية من 5 إلى 6 سنوات، كما أصبح بإمكان الرئيس أن يُعيّن نائب رئيس ووزيراً أول وأنْ يُفوِّض لهما جزءاً من سلطاته، لكنه لم يفعل شيئا من ذلك في الواقع، فأعضاء الحكومة مسؤولون أمامه، وبإمكانه أن يحلّ المجلس الوطنيّ الشعبيّ، وهو يحظى بحقّ المبادرة بمراجعة الدستور. وفي هذا الدستور ذكر لحالة وفاة الرئيس أو استقالته، لكن لا شيء عن حالة مرضه، بينما ذكر الدستور السابق كلّ ذلك. والذي حدث هو أنّ بومدين مات مريضا سنة 1978 في الـ 46 من عمره.

 

إنّ الدساتير تحيا وتموت على أيدي الرجال المتحكمين في السلطة أو المُعارضين لهم، وهي تُراجعُ من أجل تكييفها مع حاجات المجتمع أو الاستجابة لرغبات الحاكم المستبدّ. والحكم على استقرار الدستور أو البلد لا يكون إلاّ بالنظر إلى ما سبق. ففرنسا عرفت ستة عشر دستوراً خلال قرنين من الزمان بينما لم تعرف الولايات المُتّحدة إلاّ دستوراً واحداً ( تمّ تعديله 27 مرّة بين 1791 و 1992، والتعديلات العشرة الأولى منها تُشكّلُ ما يُسمّى بـ الإعلان عن حقوق المواطنين Bill of rights ).).

 

مراجعة الدستور في جويلية 1979: جاء الشاذلي بن جديد كخليفة لبومدين في فيفري 1979، وشرع في تطبيق هذا الدستور بشكل أحسن ممّا فعله واضع الدستور نفسه. ونظرا إلى أن الشاذلي لم يكن من المُتعطّشين إلى السلطة فقد راح يسعى إلى اقتسام السلطة مع الحزب الواحد انطلاقا من روح الدستور واستناداً إلى نصوصه. وهكذا جعل الحزب الواحد فوق كل مؤسسات الدولة، بل إنه قام بإبعاد كل الوزارت من المقرّ الحالي للحكومة، وكذا رئيس الحكومة والمصالح التابعة له، كلّ ذلك من أجل تحويل المكان إلى مقرّ لجبهة التحرير وقيادته. وصار لزاماً على كل من يمارس السلطة، وعلى كل مسؤول، وعلى كل “إطار” من إطارات الدولة، أنْ يكون عضواً في المكتب السياسيّ أو اللجنة المركزية لجبهة التحرير.

 

وفي سنة 1979 شرع في مراجعة دستورية ليجعل من العهدة الرّئاسية خمس سنوات وليُدخِلَ إمكانية أن يُعيّن رئيس الجمهورية، لا نائبا واحداً، بل عدّة نواب له (لكنه لم يعمل بذلك في الواقع)، ويجعل تعيين وزير أول ضرورة وليس إمكانية، والوزير الأول “يساعد الرئيس في تنسيق النشاط الحكوميّ وفي تنفيذ القرارات المُتّخَذَة في مجلس الوزراء”، وليُدْرج حالة العجز عن ممارسة الرئيس لمهامه بسبب المرض. واستكمالاً لهذا التدبير بنفس النظرة فإنّ اللجنة المركزية في حالة مرض الرئيس”تجتمع بقوة القانون، وبعد التّأكّد بكلّ الوسائل الخاصة من وجود العجز فعلاً، وتقترح على أغلبية أعضائها (الثلثان) المصادقة على تكليف رئيس المجلس الشعبي الوطنيّ بتسيير المرحلة الانتقالية”. أمّا المجلس الدستوريّ فلمْ يكُنْ موجوداً، ولن يظهر إلاّ بعد عشر سنوات. ثُمّ أتتْ مراجعة الدستور للمرة الثانية سنة 1980 لتُعطي صلاحيات أكثر لمجلس المحاسبة.

 

المراجعة عن طريق الاستفتاء في نوفمبر 1988: كان على الشاذلي بن جديد أن يُواجه أكثر الأحداث دموية منذ الاستقلال شهرين فقط قبل نهاية عهدته الرئاسية الثانية في ديسمبر 1988. كانت الضحايا تُعدّ بالمئات، لكنه تمكّن من تهدئة الغضب الشعبي ملتزماً بالقيام بإصلاحات هامّة من خلال مراجعة دستورية عن طريق الاستفتاء، وذلك ما قام به في 3 نوفمبر 1988.

 

وجاءت الديباجة الجديدة لتُعطي للرئيس مقام رمز الوحدة الوطنية (و ليس الحزب و الدولة)، لقد توجه مباشرة إلى الأمة (بدلاً من المجلس الشعبي الوطنيّ)، وأُحْدِث منصب رئيس الحكومة، ومما جاء حول ذلك: ” يُسطّرُ برنامج الحكومة ويُنسّق ويُنفّذ من طرف رئيس الحكومة، الذي هو مسؤول أمام المجلس الشعبي الوطني.”( المادة 113).

 

ولكي يُشكّل حكومته، يقوم رئيس الحكومة بمشاورات مُوسّعة ويُقدِّمُ أعضاء الحكومة الذين اختارهم لرئيس الجمهورية الذي يقوم بتعيينهم. ويُقدِّم رئيس الحكومة برنامجه للمجلس الشعبي الوطنيّ من أجل المُصادقة عليه، ويفتح المجلس الوطني لهذا الغرض نقاشاً عاماًّ، وبإمكان رئيس الحكومة أنْ يُكيِّف برنامجه على ضوء هذا النِّقاش، وفي حالة عدم المصادقة على البرنامج يُقدّم استقالة حكومته لرئيس الجمهورية الذي يعيّن رئيس حكومة آخر بنفس الكيفيات، وإذا لم يحظ البرنامج بالمصادقة ثانيةً، يُحلّ المجلس بقوّة القانون، وتُنظّمُ انتخابات تشريعية جديدة خلال الأشهر الثلاثة الموالية (المادة 114)، والمبادرة بإصدار القوانين من اختصاص رئيس الحكومة وأعضاء المجلس الشعبي الوطني شراكةً. (المادة 148).

 

ومع ذلك فإنّ هذه المراجعة لم تُحقق الطلاق مع الاشتراكية كخيار (لا رجعة فيه)، كما انّها لم تقض على الحزب الواحد. وينتابنا شعور ونحن نقرأ هذه الصيغة الجديدة بأنّ الشاذلي كان يُريد أنْ يحمي نفسه ويتخلّص من رئيس الحكومة في حالة حدوث زلزال اجتماعي جديد. كما أننا نلمح فيها نوعا من التّردّد بين النظام البرلمانيّ الصريح والنظام الرّئاسيّ الذي لا يُرادُ التصريح به، إذ يبدو أنّ الرّئيس كان يريد أن يضع لنفسه “صمّام أمان” في وقت لم يعُدْ يفصله عن الرئاسيات إلاّ شهرٌ واحد. وهكذا استدعى العقيد قاصدي مرباح، المدير الأسبق للمخابرات، لتولي منصب رئيس الحكومة، ثُمّ نشب بينهما خلاف سببه اختلاف الأمزجة.

 

وعندما أعيد انتخاب الشاذلي بنسبة مرتفعة استرجع الثقة بنفسه وقام بإنهاء مهامّ قاصدي مرباح وعوّضه بأحد مُقرّبيه، وهو مولود حمروش الذي كان بدوره عسكرياًّ، والذي سيُلْحِق به من الضرر أكثر مما فعله قاصدي مرباح، وذلك عندما راح يتعنّت في اقتراحه قانون انتخابات في صالح جبهة التحرير. وتتسارع الأحداث ليظهر التحالف بين الأحزاب المعارضة (7+1) ويندلع إضراب الفيس العنيف الذي أفضى إلى إقالة الشاذلي والإعلان عن حالة الحصار بتاريخ 4 جوان 1991.

 

دستور سنة 1989: يتكوّن من 167 مادّة، وقد جاء ليُكرّس الإصلاحات التي أقرّتها المراجعة الدستورية سنة 1988. وجاء تمهيده قصيراً جداًّ، كما ظهرت فيه مفاهيم “السلطات” التنفيذية والتشريعية والقضائية، ونصّ على السماح بإنشاء “جمعيات ذات طابع سياسيٍّ” وجمعيات للمجتمع المدني، والاعتراف بالحق النقابيّ والحق في الإضراب، كما نصّ على إنشاء المجلس الدستوريّ الذي أخذ مكان اللجنة المركزية لجبهة التحرير فيما يخصّ صلاحية ملاحظة عجز الرّئيس… لكن المراجعة الدستورية تبقى من صلاحيات رئيس الجمهورية.

 

وكانت الأزمة القانونية التي حلّت بمؤسسات الدولة الجزائرية في جانفي 1992 بسبب إيقاف المسار الانتخابي التشريعيّ في ديسمبر 1991، وما تبعه من استقالة الشاذلي بن جديد في وقت كان فيه قد حلّ المجلس الشعبي الوطني. وهكذا أدّت حالة الشغور في الوظيفة الرئاسية والتشريعية معاً بالمجلس الأعلى للأمن، الذي هو مؤسسة استشارية، إلى تحمّل كلّ السلطات قبل أن يُسنِدها إلى المجلس الأعلى للدولة الذي تمّ إنشاؤه على عجلٍ والذي ترأّسه أحد زعماء الثورة محمد بوضياف. وسيتمّ اغتياله في ظروفٍ غامضة ستة أشهرٍ بعد ذلك.

 

أمّا دستور 1996 فكان بمثابة تنقيح لدستور 1989، لكنه سيأتي خاصةً بتغييرات في ممارسة السلطة التشريعية التي ستصير بغرفتين، وذلك بإحداث غرفة ثانية سُمِّيتْ بـ “مجلس الأمّة”. وقد تضمّن هذا الدّستور 182 مادّة.

 

وجاءت عبارة “الأحزاب السياسية” بدلاً من عبارة “الجمعيات ذات الطابع السياسي”، كما حُدّد عدد العهدات الرئاسية باثنتين لأول مرة في تاريخ الجزائر، أمّا إصدار القوانين فشراكة بين الرئيس ونواب البرلمان كما كانت في دستور 1963، وبقيت المراجعة الدستورية من اختصاص رئيس الجمهورية، ويمكن أن يُحاكَمَ الرئيس بسبب الخيانة.

 

وكان الهدف من هذه التجديدات هو سدّ الطّريق أمام احتمال فوز التيار المتطرف في الانتخابات، وهو الفوز الذي يُعرّض النظام الجمهوريّ للخطر، لكنها أيضا تُمثّلُ تقدّماً في النهج الديمقراطيّ على عدة مستويات.

 

إنّ الرّجل الذي كان وراء هذه التجديدات، وهو الرئيس اليامين زروال، معروف بكونه سليماً من أي مرض من أمراض حبّ السلطة، وسيُثبتُ ذلك مرّةً أخرى باستقالته من مهامّه قبل نهاية عهدته الأولى. ومن بين كلّ الرّؤساء الجزائريين يُعتبر زروال والشاذلي الأقلّ تعطّشاً إلى السلطة التي غادراها بمحض إرادتهما. وهما الوحيدان اللذان كانا يؤمنان إلى حدٍّ ما بالديمقراطية وحاولا أن يُوجّها بلادنا إلى هذا الاتجاه. لكنّ التطوّر الإيجابي الذي تحقق في عهديْهما سرعان ما أُلغي بوصول أحد أولئك الذين كانوا في المواقع الأولى من السلطة بين 1962 و 1980، وهو مُركّب نفسيّ يجمع بين بن بلّة وبومدين. لقد حطّم هذا الوافد الجديد الرقم القياسي في طول مدة بقائه في السلطة، وأحال المؤسسات إلى حالة من الوجود الشكليّ المحض كما كانت الحال في عهد بن بلّة وبومدين، والأخطر من ذلك أنه ارتكب سابقات لم يرتكبها أيٌّ منهما.

 

وجاءت المُراجعة الدستورية التي قام بها بوتفليقة سنة 2002 لتمسّ بالمادة الخامسة من الدستور وتُقر ِّر أنّ العلَمَ والنشيد الوطنييْن من الثوابت التي لا يجوز تغييرها أو تعديلُها. لكن المراجعة التي جاءت في 15 نوفمبر 2008 سجّلت أكبر تراجع في تاريخ المراجعات الدستورية الجزائريّة لأنّها كانت عبارة عن عودة إلى الوضعية التي سادت قبل أحداث أكتوبر 1988. والواقع أنّ بوتفليقة عبّر عن عدم رضاه على دستور 1996 منذ وصوله إلى الحكم سنة 1999، لكننا لم نفهم سبب ذلك إلاّ عشر سنوات بعد ذلك عندما قضى على دور رئيس الحكومة الذي استبدله بوزير أول بدون صلاحيات غير تلك المتعلّقة بالتنسيق بين الوزارات، وألغى تحديد عدد العهدات الرئاسية بعهدتيْن. وهو اليوم في عهدته الرابعة رغم الخطر المُحدق بالبلاد من جراّء تدهور حالته الصّحّيّة.

 

وهكذا كانت الدّساتير الجزائريّة دوماً عُرضة لتجاوزات رؤساء لم تكن تهمّهم غير الحسابات المتعلّقة بسلطتهم وبمصالحهم الشخصيّة. فكان من نصيب دستور 1963 أنّ بن بلّة لم يلتزم بموادّه، ثُمّ جاء الانقلاب الذي قام به بومدين، ومرضه الذي لم ينصّ عليه الدستور، ثُمّ كانت المراجعات المُرتجلة التي كان الهدف منها البقاء في السلطة تحت ستار من الستارات (الشاذلي). وجاءت استقالة الشاذلي في وقت كان المجلس الشعبي الوطنيّ قد حُلّ.

 

ونحن اليوم نرى مرض الرئيس بوتفليقة و”مؤسسات” لا تريد أن تُطبّق عليه ما ينصّ عليه الدّستور بهذا الخصوص… هذا في انتظار اكتشاف ثغرات أخرى ثنايا الدستور، أو “حالات” لم يُفكّر فيها المختصّون في القانون الدستوريّ. والواقع أن تلك الثغرات ليست إلاّ حُفراً من فعل انقلابات قام بها سياسيون مُتعنِّتون مثل تلك الحفر التي تُخلّفها النيازك عند سقوطها على سطح الأرض. أمّا تلك الحالات التي أفلتت من انتباه حقوقيينا فما هي إلاّ ثقوب من فعل هوى رجلٍ مريض مثل تلك الثقوب السوداء التي تُخلِّفها النجوم في الفضاء عند انفجارها.

 

وبعد هذا كلّه كيف لنا أن نصبو إلى فهم المسار الفوضوي الذي سارت فيه الدساتير الجزائرية في تطورها لو طرحنا دراستها على بساط البحث العلمي في إطار القانون الدستوريّ بدلاً من تفسيرها اعتماداً على الحالات النفسية لرؤساء سلّطَهُمُ القدر على الجزائر وكأنها إبليس الذي تحدى الله قبل خلق هذا الكون، أو كأنها هي التي أكلت التفاحة بدلاً من آدم وحواء في الجنة، أو هي التي قتلت هابيل بدلاً من قابيل بدافع الغيرة.

 

وبما أن هذا كله ليس حقيقة، فلنبحث عن “خطايانا” في مواضع أخرى. وهذه المواضع الأخرى ليست بعيدة، فهي في داخلنا، في جمجمتنا وما احتوته من أفكار فاسدة حول أنفسنا وحول الأشياء وحول العالم، وهي مُعشّشة في أذهاننا منذ عدة ألفيات. إنها في بنيتنا العقلية وفي سلوكنا وعاداتنا وتقاليدنا. وسنبقى مثل القطيع الذي يقوده رعاة جهلة أو مجانين وفق ما تقتضيه الصّدف، وهذا حتى يأتي يوم تتخلى بلادنا عن بداوتها، وعن كونها مرعى للئام، وعن كونها أرضا للغاز الصخري والخشينيزم.

 

لوسوار دلجيري 18 ماي 2014

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى