أراء وتحاليل

الفساد… المفهوم، النشأة و التطور. (02)

أ.د يوسف قـاسمي*

بينا في الحلقة الأولى أن موضوع “الفساد” سيرورة و حقيقة قديم جديد ارتبط وجود بالإنسان منذ ظهوره فوق الأرض من لدن أدم عليه  السلام و صراع ولديه وقتل أحدهما الأخر… ليتحول إلى ظاهرة مجتمعية- عالمية، ثم تطور كإشكالية معقدة متشابكة الدوافع   و الأسباب، شديدة المفعول والتأثير؛ ليس فقط في واقع السلوكيات والممارسة اليومية لبني البشر، بل تعداه إلى طرائق التفكير والتفاعل، منهجيات العمل و برامج التطوير الاجتماعي – الاقتصادي و السياسي؛ حيث أصبح عنصرا هيكليـا ثابتا في منظومة حياتنا المعاصرة. فما مفهوم الفساد و دلالته ؟ أصل نشأته و تطوره ؟

“الفساد” في تعريفه البسيط هو الانحراف عن الطبيعة والأصل؛ أي مخالفة طبيعة الأشياء و الابتعاد عن مصدرها الأول و جوهرها القائم؛ الذي يمثل الهوية الحقيقية للأشياء و ما شابه. فالإنسان – مثلا- يولد على الفطرة أو الطبيعة الأولى للخلق، من حيث: الجنس ذكرا أو أنثى، الصورة الأولى لخلق و هيئة الإنسان منذ سيدنا آدم أبو البشر، هذا فضلا عن الوظيفة والأدوار الحياتية من: سمو و تكريم ذاتي، و السيادة على باقي المخلوقات وخلافة الله في الأرض وحمل الأمانة.. عبر نشر التوحيد و إشاعة أنوار الإيمان ومسالك الهداية، والتعهد بالقيام بالأفعال الخيرة القويمة.. و غيرها.

ففي هذا الحال فإن أي تغيير في جنس الخلق الإنساني، أو في طبيعته البشرية ( فطرته)، أو في أدواره الحياتية المرسومة والمقررة.. يمثل ويجسد الفساد بروحه وشكله؛ ينتج عنه حتما وحكما تشوهات خلقية وخلقية، انحرافات وظيفية وتكوينية، فساد اجتماعيحياتي. نفس الحال ينطبق على أصل الأشياء و المخلوقات الاخري.. وباقي الصنائع البشرية من: تشريعات و قوانين، أنظمة و معاملات، و أنماط الحياة الاخري المترتبة عنها.

فماذا عن أصل الفساد؟ كيف تطور ليتحول إلى ظاهرة مجتمعية مرضيه تنخر كيانه العام ؟

الحقيقة أن هناك مجموعة عوامل و محددات تتسبب في ظهور و نشأة ظاهرة الفساد، يمكن إجمالها على النحو التالي:

أفساد الوجدان و التنشئة: إن العناية بالجانب النفسي للنشء في بدايات نموه الروحي   و تكوينه التربوي، و تشبعه القيمي.. وفق منهج تربوي ينسجم مع طبيعته، كما يراعي دوافعه الفطرية و الحاجات البيولوجية للطفولة، فضلا عن الارتواء العاطفي و التفاعل الأسري والاجتماعي الحميمي.. كلها عوامل تمكن وتساعد على إعداد طفولة سليمة سوية متوازنة نفسيا وتربويا واجتماعيا. تتعهد تلك المهمة بالأساس منظومة التربية الأسرية و التكوين العائلي، ثم مؤسسات الحضانة ورعاية الطفولة فالمدرسة؛ بتسلم الأبناء وإعدادهم على برامج ومناهج تعليمية لا تتناقض ومبادئ الأسرة وقيمها التي تلقوها و تغذوا من معينها… و انتهاء بتوفر البيئة النظيفة والمحيط الاجتماعي الايجابي المكمل لتكوين الفرد.  وعند غياب أحد هذه العوامل و تقاعس طرف ما من هذه الأطراف عن أداء الدور المنوط  به؛ يؤدي ذلك حتما إلى اختلال في بنية التنشئة والتكوين ينتج عنه خرق و إفساد للنسيج التربوي- الاجتماعي الذي يحضن الطفل و يتعهده بالرعاية والإعداد.

نعتقد بأن حدوث ذلك الاختلال والخرق هو المنطلق الأول لظهور الفساد و بداية نموه وانتشاره – كالخلية السرطانية– بصورة متلازمة مع النمو البيولوجي والنفسي للطفل، وتطوره في مسارات تنشئته و مراحل حياته المتقدمة.

بفساد الضمير و مناهج التكوين القاعدي: إن جوهر التربية والتكوين للأبناء يرتبط بالجوانب النفسية والوجدانية أساسا، فإذا ما حدث خلل و عور في هذا الجانب ترتب عنه فساد لاحق على مستوى الذهن و طريقة التفكير و منهجيات العمل و التفاعل السلوكي الحياتي عامة. و عليه نؤكد على وجوب تلقين الأطفال أسس الاعتقاد الصحيح و الإيمان وفق بيداغوجية تكوين تراعي خلفيتهم الدينية و التاريخية و انتمائهم الحضاري، كما تنسجم مع تقاليدهم وأعرافهم الاجتماعية الايجابية المتوارثة.. هذا فضلا عن تغذية الحس الوطني و شعور الانتماء للجماعة، و التعلق بالأبعاد الإنسانية المشتركة.. كل ذلك مطلوب لأجل إحداث الانسجام و التكامل التام بين روافد التربية والتكوين لدى المتلقي من جهة، والتعهد بحمايته من كل التناقضات المذهبية و الصراعات الإيديولوجية والتحيز الإثني.. وغيره. من عوامل الانفصام في الشخصية، و أسباب الانحراف الفكري والسلوكي الذي ينتج عنه فردا غريبا شاذا مضرا لنفسه معاديا لمنظومة التكوين التربوي و الاجتماعي التي يعيش فيها و يتفاعل من خلالها مع الآخرين.

جفساد الفكر والعمل والمعاملات: نعتقد بأن التنشئة النفسية-ا لتربوية و الاجتماعية السليمة المتناغمة مع نمو و روح الطفل و توجهاته السلوكية، تمكننا من الحصول على عضو ايجابي في المجتمع؛ يعزز عضده و يقوي مناعته. فأصالة و صفاء معدن العضو في قوته الروحية والمعنوية، سلوكه القويم و روح المبادرة و طاقاته الحيوية الخلاقة.. كلها عناصر تؤهله للاندماج العضوي الطبيعي في بنية المجتمع و منظومته الحياتية بتفاعل ايجابي ومسؤولية كاملة. أما ” فساد ” الوجدان و التربية، فساد الضمير ومناهج التكوين والتعليم… حتما سينتج عنهما فساد في الفكر و العمل و كل المعاملات..؟   فضعف الرعاية النفسية و الإعداد الروحي للأسرة، والتدليس في برامج التكوين التربوي الأولي، مع الغش والتزوير في محتويات و توجهات منظومة التعليم القاعدي و العالي     – خاصة بما لا ينسجم و مقومات الشخصية الدينية و التاريخية لأمة الانتماء والهوية الحضارية، و لا يراعي منطق العصر و تغيراته المتسارعة– كلها منطلقات و مولدات لبداية الفساد الأكبر و الأخطر الذي يمس منطلقات التفكير، الرؤية و المنهجيات، ويطال مشروعيات المطامح و الآمال المستقبلية للأجيال المتعاقبة. ينتج عن كل ذلك في واقـع الحال و السلوك و الأعمال.. ” فساد عام منظم و مهيكل” يشمل الفرد و المجتمع، ويطال الوعي والضمير، ويشوه بل ينخر الثقافة، العلاقات الاجتماعية، ويدمر النشاط الاقتصادي ويقضي على المال و الاستثمار بفعل النهب و السرقة، و التحويلات غير المشروعة.

يتجلى ذلك في أنماط التسيير الإداري البيروقراطي، التلاعب في الممارسة السياسية و تفشي العادات السلبية في اغتصاب الشرعية و الحكم، التضييق على الحقوق الفردية و الجماعية وفقدانها، وقيام دورات العنف والعنف المضاد المدمر… ناهيك عن انتشار وتعميم “الفساد الأخلاقي و السلوكي الأعظم” الذي لا يحد منه وخز ضمير، و لا تقارعه شريعة، أو يردعه قانون.. فيصير معه و في خضم لوثته وعفنه الحليم حيران – كما جاء في الأثر الشريف-

  ذلكم بعض من أصل الفساد، نشأته و تطوره و تجلياته.. في الحلقة القادمة – إن شاء الله- سنقارب ونجلي أنواع الفساد، و آثاره..

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى