بين الفكر والسياسة

بناء جزائر جديــدة: الرّجُــل المـــريـــض

بقلم نور الدين بوكروح
ترجمة عبد الحميد بن حسان

إنّ قيصر روسيا، نيكولا الأول (Nicolas 1er)، هو مُبْدِعُ عبارة ” رجُل أوروبا المريض “، والتي قَصَد بها الإمبراطورية العثمانية التي كان نَجمُها آخِذاً في الأُفُول، إنْ على المستوى الاقتصادي أو العسكري أو الديبلوماسيّ، وذلك منذ قرن من الزمان.
وكان الخليفة السلطان عبد المجيد الأول آنذاك يتمتع بصحة جيّدة، ممّا ساعده على بذل ما بوسعه لتنفيذ برنامج إصلاحات تحت عنوان (تنظيمات)، مُحاولة منه لاسترجاع بعض القوة واللمعان لأمبراطوريته. والحاصل أنه إنْ كان السلطان يرفل في صحة جيدة، فإنّ وطنه هو الذي كان مُعتلاًّ.
وسيُعادُ بعد قرن استعمال هذه العبارة في بريطانيا التي أنهكتها الحرب العالمية الثانية بضياع إمبراطوريتها الاستعمارية وبتراجع اقتصادها، واستمرّ الوضع كذلك حتى جاءت رئيسة الوزراء الشهيرة مارجريت تاتشر. بدأت « المرأة الحديدية » بتسجيل انتصارها في حرب المالوين، ثُمّ عملتْ على إعادة بناء الاقتصاد لكي تسترجع بلادها قوتها.
كما سيُعاد تسليط هذا الحكم على يد بوريس يلتسين الذي ترك مكانه لرجل مجهول، هو فلاديمير بوتين، والذي سيفرض نفسه كرجل قويّ في الكرملين بسرعة، لكنه مع ذلك سيتمكن من كبح جماح حبه للسلطة إعلاءً لشأن دستور بلاده واحتراماً لمواطنيه.
يتبيّن من هذا أنّ عبارة “الرجل المريض” استُعملتْ للدلالة على الإمبراطوريات عند مرورها على مراحل صعبة من تاريخها مثل بريطانيا وروسيا، أو عند وصولها إلى مرحلة الأفول والاضمحلال مثل الإمبراطورية العثمانية. وقد تحطّمتْ هذه الإمبراطورية بسبب النزعة المحافِظة المتعنّتة التي كان يتشبث بها “علماء” كان لهم نفوذ واسع في تسيير الشأن العام، مثلما هي الحال في العربية السعودية منذ تأسيس النظام الملكي، والذين كانوا يقفون بكل قواهم في وجه أية محاولة لتحديث القوانين والإدارة، ويُعارضون تبنّي أفكار أو تقنيات جديدة، ويرفضون أي تغيير في أسلوب الحكم. وهذه النزعة المحافظة هي نفسها التي وضعتْ حداًّ للانطلاقة العظيمة التي أنجزتها مصر في كل الميادين بفضل الخديوي محمد علي في بداية القرن التاسع عشر.
و ماذا يمكن أن نقول عن أنفسنا ونحن لسنا إمبراطورية، ولا بحوزتنا مستعمرات، بل كنا من بين تلك المستعمرات، ونحتل المراتب الأخيرة عالميا في مختلف المجالات، ولم نعرف إلاّ الانحطاط طيلة تاريخنا الطويل، ويقودنا اليوم شيخ ضرير؟
الحقيقة أن العبارة التي ابتدعها نيكولا الأول لا تنطبق علينا، بل تنطبق على الأمم التي كانت عظيمة وقوية حتى بلغت أعلى مراتب السّموّ، ثمّ هوتْ من بذخها مثل الرجل الذي تنهار قواه بسبب انهيار حالته الصّحية.
تُرى، ماذا يمكن أن يكون رأي الشخصيات العالمية مثل رئيس تركيا ورئيس روسيا أو ملكة بريطانيا، فينا نحن الجزائريين وفي بوتفليقة الذي سيؤدّي اليوم يمينه الدستورية ؟ هل سيُقِرّون بأنّ “شعباً عظيماً” وضع على رأسه “رجلاً مريضا”، أم أنّ “الرجل المريض” هو الذي أرغم “شعباً عظيما” على الانبطاح أمامه ؟ أعترف بأني لا أستطيع الإجابة عن هذا السؤال، وأُحيل ذلك إلى حصافة القُرّاء، لأنّني في الحقيقة مشغول بسؤال آخر أهمّ، وهو: ” إلى أين نحن ماضون هكذا؟ “.
لقد مات المرحوم محمد بوضياف مندهشا لسببين. فلقد اندهش عند سماعه قبل مقتله بثواني معدودة لدوي القنبلة التي فجّرها أحد أعضاء حرسه الذي وُلِد بعد الاستقلال، والذي سيغتاله من وراء ظهره، وهو، أي بوضياف، مُفجّر ثورة التحرير. واندهش سنة 1964 عندما رأى المجرى الجديد الذي اتّخذته ثورة نوفمبر، وعبّر عن تلك الدهشة في عنوان كتابه: ” إلى أين تمضي الجزائر؟” (Où va l’Algérie ?).
في يوم من الأيام، قلتُ للمرحوم :” سيادة الرئيس، إنّ بإزائكم جيلا جديدا هو جيل أكتوبر 1988، وليس جيل نوفمبر. وأنتم لستم مسؤولين عن الأزمة الجزائرية، فابقوا في منأى عن الذين تسببوا في إيجادها مهما كانت انتماءاتهم “، وكان ذلك بمناسبة استقباله لعدة وجوه من المعارضة، ومنهم: بن بلة،AÎt Ahmed, مهري، قاصدي مرباح، سليمان عميرات ، في فيفري 1992، ومِنْ تلك الوجوه مَن انتقل إلى رحمة الله قبل أن يفهم شيئا عن وجهة الجزائر المستقبلية، مثله هو تماماً. عندما سمع مني الرئيس ذلك أصيب بغضب شديد.
إنّ مثل هذا التساؤل لا تُنتظر عنه إجابة لأنّ هناك فرقاً بين البلد والشخص، فهذا الأخير باستطاعته أن يرُدّ عن أيّ استفسار حول تحرّكاته أوحول نواياه تُجاه تاريخ أمّته. وكلّ بلد يتكوّن من عشرات الملايين من الرجال والنساء الذين قد تفترق بهم السّبُل بفعل إغراءات وهمية أو بفعل الرّضوخ المَقيت أو بفعل الاضطرار إلى اتّباع خطّ مُعيّنٍ.
عندما تساءل بوضياف قائلاً: ” إلى أين تمضي الجزائر؟”، وعندما تساءلْتُ أنا: ” إلى أين نحن ماضون؟ ” فالمشكل المطروح ليس مجرد التوجّه المُتّبع، بل إن هناك مشكلا آخر يختفي وراء ذلك، وهو مشكل هويتنا وإرادتنا الجماعية، ومشكل المضمون الإيديولوجي الذي ينطوي عليه الضمير (نحن).
ذلك أنّ البلد لا يتحرّك بنفسه كما تتحرّك الآلة المُدجّجة بالأنظمة الآلية، وأهل البلد هم الذين يُحددون وجهته، وذلك بواسطة ممثليهم في مختلف المؤسسات ومواقع المسؤولية. والمسألة المطروحة هنا هي التوجّه الحضاري الذي نريد أنْ نسلكه.
فهل نحن نسعى إلى تحقيق مجتمع حديث أم مجتمع تقليدي، هل نرغب في إيجاد مجتمع مواطنين أم نأمل في خلق مجتمع عُبّادٍ ناسكين، هل آمالنا معقودة بتأسيس بلد ديمقراطي أم أننا راضون بأن نكون كالقطيع الذي يقوده رجال أوحِيَتْ لهم السلطة من السماء حتى ولو كانوا في فراش الاحتضار؟
لم يَسِرْ بلدنا منذ الاستقلال في خطٍّ مُتواصلٍ، ولم يكن حِراكُه مستمرا ومنتظما ومُتجها إلى الأمام بدون انقطاع. فمِن 62 إلى 79 كان الاختيار الاشتراكي هو النهج المُتبع حتى ثبت أنه لم يكن إلاّ مأزقاً. وبقيت الأوضاع في حالة دوران من 79 إلى 88 حيث كانت العثرة والسقوط في حمام دماء خلال شهر أكتوبر من هذه السنة.
وجاءت محاولة القفز إلى الوراء (وتحديداً إلى عهد دولة المدينة المنورة) بين 89 و92، لتدخل في مرحلة المخاض العسير، وراحت الجزائر تتخبط بين كابوس الإرهاب ومغبّة الوقوع تحت وصاية هيئة الأمم المتحدة بعد المجازر الفظيعة التي أرعبت العالم بأسره. وجاءت مرحلة استرجاع التوازن الظرفي بفضل عائدات المحروقات بين 2000 و 2014. وهي الآن تريد الرجوع إلى بدائية نظام الدّوّار بعد دخولها في العهدة الرابعة.
وبالنظر إلى السياسات الاقتصادية التي انتُهِجتْ خلال مختلف هذه المراحل أطْلقْتُ في مقالات سابقة اسم “الدولة المُسيِّرة” (Etat gérant) على المرحلة الممتدة من 62 إلى 89، واسم “الدولة الهامدة” (Etat garant) على ما بين 90 و 99، واسم “الدولة الهائمة”(Etat errant) على ما بين 99 و 2014. وأنا مُقتنع بأن المرحلة القادمة هي مرحلة “الدولة العاجزة”(Etat impotent).
كانت نظرة السلطات إلى مستقبل البلاد غداة الاستقلال واضحة، وهي تتلخّص في: بناء دولة عصرية، وإقامة اقتصاد متطور، وتكوين المواطنين بدون استثناء، والتعريب التدريجي، والمساواة بين الرجل والمرأة… أمّا من الناحية العملية فكانت تُتّخذ بعض الإجراءات السائرة في هذا النهج، لكن إجراءات أخرى كانت تُتّخذ وهي سائرة في الاتّجاه المُعاكس لتُفْضي إلى إبعاد الإجراءات الأولى عن أهدافها.
وهكذا تمّ مسخ مفهوم الدولة العصرية ليصير عبارةً عن “نظام” لا يزال مستمراًّ إلى يومنا، كما تمّت ترجمة مفهوم الاقتصاد الموجّه إلى عملية نسفٍ لقيمة العمل والفلاحة والصناعة التقليدية، مع الارتباط الكُلِّيِّ بالمحروقات والاستيراد، وصار هذا المفهوم مصدرا للفساد. أمّا التعليم العام فلمْ يَعُدْ إلاّ أماكن لتجميع وحراسة الأطفال والمراهقين، والتعريب تحوّل إلى حقد على اللغة الفرنسية ومُستعمليها. و أخيرا فإنّ المساواة بين الرجل والمرأة بقيت رهينة قانون الأسرة.
وقد أدّتْ هذه الخيارات الغامضة إلى تقسيم المجتمع إلى شطرين، هما: المُفرنسون والمُعرّبون، وكلّ طرف راح يروّج لأسلوب تفكيره في محيطه. ونحن نشهد اليوم ضمور مجال المفرنسين واتساع مجال المُعرّبين، غير أنّ الغالب في الساحة هو ذلك الهجين الجامع بين اللغتين والذي يتميّز بإسفاف فظيع في المستوى باللغتين معاً. فالطريقة التي تستعمِل بها الأجيالُ الصاعدة اللغةَ العربية فريدةٌ من نوعها، إذ إنّ نبرتها بعيدة عن العربية كلّ البعد. بل إنّ طريقة نطق الكلمات غريبة لأنها عبارة عن تقعير و تقعيب، كما يقول الجاحظ.
وبالإضافة إلى عجز السلطات عن تحديد خيارات منسجمة وتنفيذ إصلاحات صعبة (لكنها ضرورية)، فإنّ هناك خللاً كبيرا في التوجه الإيديولوجي بفعل الانفتاح السياسي الذي حدث سنة 1989، إذ تحوّلت بلادنا في رمشة عين إلى أفغانستان أخرى. وإذا أمكن القول إنّ الإسلاموية لم تعُدْ تُمثّل بديلاً سياسياًّ، فإنها من الناحية الثقافية لا زالت تغزو مزيداً من الطبقات الاجتماعية. فعقلية الدَّوّار لا تقف حجر عثرة في طريقها، بل إنها على العكس، تُمثل تربة خصبة لها. إنّ السلفية تعيث في الأرض فساداً، حيث قامت بإحياء الشعوذة البالية، و العقلية القدرية، والسّحر، وهي تقف كعائق في طريق تجديد العقليات. لم تَعُدْ هناك أية حاجة للانتقال إلى أفغانستان وباكستان أو العربية السعودية لمن أراد أنْ يعيش مثل شعوب هذه البلدان، فأسلوب حياتها وتفكيرها موجود في عقر دارنا.
لنتأمّل تلك المَشاهد المُتلفزة التي تأخذها أحيانا قناة ENTV من الأرشيف وتبثها، سواء أكانت سكاتشات ومسرحيات تعود إلى الأربعينيات والخمسينيات، أو أفلاماً يعود تاريخها إلى ما بين الستينيات والثمانينيات، أو أفلاما وثائقية وتقارير صحفية وحصصاً تلفزيونية تعود إلى تلك الفترة. في كلّ تلك المشاهد نرى رجالا ونساءً غير رجال ونساء اليوم، ونرى أساليب أخرى للكلام، وطرازاً آخر من اللباس. كانت المدن الكبرى تعُجّ بالأنشطة الثقافية المختلفة، وكانت تُنظّم بها سلسلات من المحاضرات العامة، وفيها قاعات السينما ومراكز ثقافية أجنبية نشطة يرتادها كثير من الجزائريين من أجل التسلية والتثقّف، أو المشاركة في مناقشة المشاكل والأفكار التي كانت تُحرِّك العالم آنذاك.
كلّ ذلك ذهب في مهبّ الريح، ولا يمضي يوم إلاّ ازددنا بُعداً عن المعايير المكتسبة طيلة القرن العشرين، والتي لا علاقة لها حتى بالاستعمار نفسه. إنها معايير التطوّر التي كانت تفِدُ علينا من الغرب والشرق على السّواء. وكان لكلٍّ من التنظيم، و الجماليات، والفنون، والسلوك الحضاري مكان في حياتنا. أمّا العلاقات التي كانت تربط بعضنا بالبعض الآخر فكانت طيّبةً وأخوية ويطبعها الاحترام والتضامن والتسامح. كانت الحياة فرحاً دائماً، والمستقبل كان مبتسماً لأنّنا كُنّا مُقتنعين بصحّة النهج الذي اخترناه، وبأن حُكّامَنا كانوا على بيّنة من الطريق التي ساروا بنا فيها.
وبالإضافة إلى التقهقر الذي سُجّل على الصعيد الاجتماعي والثقافيّ، فإنّ البلاد ترزح تحت وطأة الصدمة المعنوية الناجمة عن العهدة الرابعة التي لن تزيدنا إلاّ غرقاً في عالم المعتوهين لأنّ السلطة صارت بين أيدي قوى الفساد المعنوي والمالي. واليوم الذي سينتهي فيه بوتفليقة آتٍ لا محالة، لكنه لن يأتي حتى تصل البلاد والعباد إلى درجة من الذّل والصَّغار لم تصل إليها خلال عهود سابقيه وعُهداته الثلاثة مُجتمعةً. والمريض ليس هو وحده، بل المريض هو : هو + نحن. هو مريض البدن، ونحن مرضى الرؤوس.
عندما يتعرّض بلد عربيّ إسلاميّ لهزّة بسبب تغيير عنيف في النظام، مثلما حدث في العراق سابقاً أو في ليبيا مؤخراً، وتضمحلّ السلطة، فإنّ الذي سيحدث ليس قفزة إلى الأمام، بل هي العودة إلى الخلف، أي إلى الصراعات والمذابح الدينية، وإلى الميليشيات المسلّحة، وإلى سلطة أرباب الحرب، إلى الحياة القَبَليّة وإلى النعرات القديمة. وقد أمكن تغيير النظام في كلّ من العراق وليبيا بفضل التدخّل العسكري الأجنبيّ الذي لولاه لبقي المستبدّون في أماكنهم إلى اليوم. والشاهد على ذلك ما يحدث في سوريا.
بعد احتلال العراق من قِبل الأمريكان والإنجليز سنة 2003 وَقَفَ المفكر الفلسطيني الأمريكي إدوارد سعيد معارضاً لهذا التدخّل السّافر، فَرَدّ عليه أحد رجال الثقافة العراقيين، وهو خالد قشتايني، بمقال نُشِر في نفس السنة في مجلة ” الشرق الأوسط “، يقول فيه: ” إنّ كل الاستبيانات تدلّ على أنّ أغلبية العراقيين راضية على هذه الحرب، وعلى الاحتلال والإدارة الأجنبية، وهي تودّ لو استمرّ هذا الوضع… والسبب في ذلك أننا تحررنا من الوصاية الغربية لنعود إلى أصولنا المُتردّية… لقد وقفتُ على حقيقة مُرّة، وهي أننا عاجزون عن مسايرة التطور بمفردنا، لكي نلحق بالأمم السائرة في طريق التطور، ولو قياسا بما كانت عليه الأوضاع خلال الأربعينيات. إننا سنفشل في ذلك بدون الاستعانة بطرف أجنبي قادر على حملنا، بل قيادتنا وتوجيهنا إلى هذه السبيل. فلولا هذا الطرف الأجنبي لَعَجَزَ العراقيون عن التخلص من نظام صدام حسين “.
والسّؤال الذي يجب أن يُطرح هو: لماذا لم نشهد في تونس ومصر تلك المآسي التي شهدناها في العراق وليبيا؟ والجواب هو أنّ تونس ومصر يمثلان دولتين مُتجذِّرتين في الضمير الشعبي. فقد وَجَدَ التونسيون في مجتمعهم المدني قوة المُوَاطَنَة الكافية لإجبار الإسلاموية المنتصرة في الانتخابات على الاندماج مع الحياة الدستورية الحديثة، بينما اضطُرّ المصريون للاستعانة بالجيش من أجل التخلّص من الإسلاميين رغم خطر الحرب الأهلية المُحدق، والسبب في ذلك أنهم ـ أي المصريين ـ لا يُمثلون مجتمعا مُزوّداً بقوة المواطنة الكافية لمضايقة الإسلاموية: فالقوى الديمقراطية كانت مُشتّتة وضعيفة، تماما مثلما كانت عليه الحال في الجزائر سنة 1991، ولا تزال.
وهذا ما دفع مصر للعودة إلى نقطة البداية، أي إلى سنة 1952. فمثلما كان جمال عبد الناصر على رأس الضباط الأحرار الانقلابيين جاء السيسي ليقود الانقلاب الجديد بعد أنْ طلب تفويضاً شعبيا لتصفية الإخوة المسلمين، وهو التفويض الذي مُنِح له فوراً. ولا زال مسلسل الأحداث جاريا في مصر، غير أنّ السيسي ليس كمال أتاتورك، وهو لا يرقى إلى مستوى هذا الزعيم التركي من حيث بُعد النظر، ويُتَوقّع أن يقف عند حدود المعالجة السطحية للوضع.
إنّ العقلية القبلية، وعقلية سلطة أرباب الحرب واللاّتسامح تُجاه الديانات الأخرى، وكلّ أنماط التفكير السلبية الأخرى قد تمّ حذفها منذ زمن بعيد من العقلية التونسية، وعُوِّضتْ بمجتمع متجانس وملتحم بفضل الأفكار التقدّميّة، مُجتمع يؤمن أغلب أفراده بثقافة المُواطنة. وهكذا وجد التونسيّون العروة التي تشبّثوا بها عندما مرّت عليهم زوبعة الثورة: إنه إرث عهد بورقيبة والدستور الذي تركه والذي لعب دور المُنقذ من الغرق.
أمّا الليبيون فكان حظهم تعيساً. لقد قام القذافي بنسف النظام الملكي المتوارث في العائلة السنوسية وعوّضه بنظام ملكي حُثالي يتميّز بالجهل ونزعة الصيد الوحشية، ويتكوّن من أسرته وبعض الأفراد من عشيرته، وأطلق عليه اسم “الجماهيرية العظمى”، وهذا ما نجد له مقابلاً عندنا في عبارة “شعب عظيم”. وعندما أراد الليبيون أن يعودوا إلى جذورهم ليستلهموها لم يجدوا إلاّ التنظيم القبلي القديم، ولم يجدوا إلاّ التقطيع الذي تركه مونت جومري (Montgomery)وصادقتْ عليه هيئة الأمم المتحدة سنة 1949.
وماذا عنّا نحن؟ ماذا يمكن أنْ نجد في كفّ حاضرنا لو نظرنا حولنا؟ وماذا يمكن أن نرضع من ثدي ماضينا ومرجعيتنا لو ألمّتْ بنا أحداث جسام كالتي ألمّت بالتونسيين والمصريين واللّيبيين؟ ماذا لو عشنا كابوساً مُرْعباً، وقد مرّتْ علينا بعض مَشاهده التي لا زالت تقُضّ مضاجعنا؟ إنّنا لن نجد أيّ شيء على الإطلاق !
لقد بالغ جيل نوفمبر في تشويه قيم و مبادىء الثورة بما ارتكبه من تجاوزات، وبما قدّمه من أمثلة مُشينة، وبإفراطه في الأنانية وحبّه الذي تجاوز حدّ المعقول للتسلّط. لم تبق من قيم الثورة إلاّ كلمات مُفرغة من أي معنى. أمّا السلطة فلمْ تورِثْ تقاليد حكم تحثّ على المثالية، ورّثتْ تقاليد تُكرّس الهدم وتدعو إلى الانتفاض بشكلٍ ينحو ناحية الظلم الهدام. و الوضع تتزايد خطورته في السنوات الأخيرة التي أصبحت فيها الأسماء المرتبطة بالفساد معروفة والمبالغ الضخمة التي نهبتها حديث العام والخاصّ، والجميع يتساءل لماذا استفاد هؤلاء الأشخاص من الترقية إلى أعلى المراتب بدلاً أنْ يُتابَعوا ويُحاسَبوا؟.فضلا عن ذلك، هم يحتقرون الأمة علنا في التلفزيون لثقتهم بأنهم لن يعاقبوا، و هذا ما لم يُعرف أبدا قبل بوتفليقة.
وإلى جانب هذا كُلّه لم يعرف الجزائريون دستوراً حظي بمكانة في لا وعيهم، ولا أحد يؤمن بسلطة الشعب التأسيسيّة. فلو أنه تمّ انتخاب مجلس تأسيسيّ من أجل إعداد دستور فإن الخلاف سيبلغ حدّ استحالة رفع الجلسة الأولى إلى الأبد. والشاهد على ذلك مؤتمر طرابلس الذي لم يُعلِنْ إلى يومنا عن رفع جلسته. ومنذ الانفتاح ” الديمقراطي” الذي ظهر سنة 1989 انجذب الجزائريون إلى فكرتين لا ثالث لهما: النزعة الأمازيغية و الإسلاموية اللتين لا زالتا تُهيمنان على الخارطة الإيديولوجية والسياسية في بلادنا. وما عدا ذلك لا يعدو أنْ يكون تدجينا (فيما يخصّ الأحزاب الإدارية)، أو أغاني صبيانية ورقصات باحثة عن الشهرة والنجومية (بالنسبة للبقية).
ولو أننا قفزنا قفزة عالية لنتجاوز فترة الاستقلال والثورة، فماذا عسانا نجد؟ إنه قرن وربع قرن من الاستعمار، سبقته ثلاثة قرون من الإيالة التركية، وقبلها كانت البلاد عبارة عن ممالك جهوية سريعة الزوال، ممالك تيوقراطية أينعتْ ردحا من الزمن في تيارت و بجاية وتلمسان أو الجزائر. ويمكن اعتبار الميزابيين ـ لولا العنف الغريب الذي أساء إلى حسن الجوار بينهم وبين (العرب) ـ هم الطرف الوحيد الذي يمكن أن يخرج سالماً من المحنة لأنّ مجتمعهم مُزوّد بمؤسسات عرفية تؤدي دورها في حفظ التوازنات الاجتماعية والاقتصادية. لكن، هل بإمكانهم أن يعيشوا في عزلة تامّة؟
أمّا باقي الجزائريين فلا يحفظون في أذهانهم أو ذاكرتهم شيئا عن تلك الممالك والأسر الحاكمة. وهُمْ أكثر تجاهلاً للمرحلة النوميدية التي لا يعرفون عنها غير بعض الشذرات المتداولة في كتب التاريخ. أمّا ما يحفظونه و يعضّون عليه بالنّواجذ ويعيشون حاضرهم على إيقاعه، فهو مُتّصل بحياة الدّوّار و( لبْلاد) و الدشرة والعرش والقبيلة، كما لا ينسون أبدا آخر ما نشب من صراع بين القبائل حول مصادر الماء أو حول الأراضي، وهم يُكِنّون في أنفسهم أحقادا لأتفه الأسباب، حتى ولو كانت بعض رؤوس من ماشية سُرقتْ من طرف أحد أقارب (القايد) قبل الثورة. ولا شكّ أنّهُمْ سيجدون في ذلك كثيرا من جمال الفطرة وسحرها، لكنّهم سيجدون كذلك جراثيم الفُرقة ومُناوشات جوار السّوء، والغيرة والحسد الموروثيْن عن الأجداد، والثّارات دفاعاً عن الشرف.
ولو حدث أن انهارت دولتنا، كما حصل ذلك بين 1992 و 1995 إذ لم يكن هناك رئيس ولا برلمان ولا مجالس محلّية منتخبة، فسيبقى الجيش، لكنه لن يَسْلَمَ بدوره من آثار هذا الانهيار ولن يكون قادراً على حمل الوطن على عاتقه إلى الأبد. وماذا باستطاعة الجيش أنْ يفعل في بلدٍ ذي اقتصادٍ مُتوقّفٍ أو منعدم؟ ولولا الجيش لاتّجه بلدنا إلى نظام الخلافة، ممّا سيفسح المجال لظهور أرباب الحرب الذين سيُسارع كلّ واحد منهم بالإعلان عن استحواذه على أراضي يسيطر عليها، أو الإعلان عن استقلاله بإمارته. غير أن هذا الجيش لا يملك الحلّ الدائم لمشكلة السلطة، إنه لا يملك حيلة إزاء مشكلة ذات طابع اجتماعي ثقافي كما نرى ذلك في اليمن، حيث لا وجود لمفهوم الدولة في الذهنيات العامة. والحلّ المناسب والدّائم يتمثل في الانسجام الاجتماعي والوحدة المعنوية، وفي تكيّف المجتمع مع الروح الجمهورية والثقافة الديمقراطية، وفي حركيته الاقتصادية.
لقد تمكّن ” الرجل المريض ” التركي من استرجاع صحّته بدءاً من سنة 1923 بفضل جيشه، وبفضل شجاعة قائدها كمال أتاتورك الذي سرعان ما أدرك أنه لا يمكن لبلده أن ينجو من الاحتلال الأجنبي ومن الانقسام وهو يرزح تحت ثقل نظام الخلافة. ولهذا بادر بإلغاء هذا النظام عن طريق القوة وأسّس جمهوريّةً سائرة في اتّجاه الحداثة. لكنْ، ويا للمفارقة ! ها هي ذي حكومة إسلامية ترثُ تركة أتاتورك والأنظمة العسكرية التي جاءت بعده، تركة يطبعها الفقر والضعف، وتُحوّل ذلك إلى قوة وازدهار في ظرف خمس عشرة سنة فقط. لكنّ هذا النّظام لم ينجح في مهمته إلاّ لأنه احترم الطابع الجمهوري و اللاّئكي الذي تتميّز به تركيا، لم يُحاول أنّ يُعيدَ إحياء نظام الخلافة، وبقي وفياًّ لـ ” مقاييس التوافق ” التي فرضها عليه الاتحاد الأوروبي مُقابل الوعد بالسماح لتركيا بالاندماج ضمن المجموعة الأوروبية، وهو الوعد الذي طال انتظاره في نظر الأتراك.
إلى أين تمضي الجزائر؟ إلى أين نحن سائرون؟ نحن سائرون إلى مصيرنا بكل بساطة، وهو المصير الذي من السهل معرفته مسبقاً، خلافاً لِما يعتقده البعض. سيكون مصيرنا تعيسا ومأساويا بكلّ تأكيد، هذا إذا استسلمنا للتدجين المفروض علينا من فوق وللشعوذة التي تنخرنا في الأعماق.
لكنه يمكن أن يكون كمصيرأي بلدٍ عادي يتمتع بثروات طبيعية ممتازة وبسُكان تحدوهم روح النشاط والعمل، سُكان لو استفادوا من تربية جيدة ومن فرص العمل والمبادرة الاقتصادية، لأصبحوا قادرين على تحويل الثروات الطبيعية إلى ديناميكية اجتماعية يستفيد منها الجميع.
إنّ بلدنا كان دوماً ينقصه شيء واحد، وهو النظرة الشاملة و خطاب الحقيقة، وروح القدوة على مستوى القيادة، ونظرة استشرافية تنطلق من أقرب مدى وتصل إلى أبعد مدى.

 

(لوسوار دالجيري 27 أفريل2014)

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى