أراء وتحاليلبين الفكر والسياسة

بناء جـزائر جديــدة: “أعمال شيطانية”

بقلم: نور الدين بوكروح
ترجمة: بوكروح وليـــد

– ” فعلُ الخير لن يكون أبدا غايتنا، فعلُ الشّر سَيَكونُ دائما مُتعَتَنا الوحيدة، مُعاكسين بذلك إرادةَ الله. و أَينَما حاولَت إرادَتُهُ أَن تَصنعَ خَيرًا من الشّر الذي نَرتَكبُه، وَجَبَ عَلينا أَن نَسعى لنُفسدَ هَكَذَا غاية، وأَن نَجدَ في ذاك الخير وَسَائلَ لارتكاب الشّر.. ذلك أَنَّ المُلكَ يَستَحقُّ الطُّموح، حتى في الجحيم. السيادة في جهنم أفضل من العبودية في الفردوس” إبليس (جون ميلتون – الفردوس الضائع / الكتاب الأول. 1667)
– “آوّاه ! هاذو خدايم الشيطان !…” (الشعب الجزائري).

عندما َنفقدُ القدرة على أن نرى بوضوح في ما يُصيبُنا، و يَتَمَلَّكُنا الذُّهول لفشلنا في مواكبة تَعَقُّد الأوضاع المحيطة بنا، حتى نَهُزَّ الأكتاف من الحَيرَة ونَشتعلَ غيظا من العَجز. حينئذ ينتابنا تدريجيا شعور غريب بالسُّخف و العَبث، فيَدفَعُنا إلى طريق لم نَكُن نَتَوقَّعُ أن نَسير عَلَيه هو طريق عالم الخوارق و الطرائف. و رغم التَّرَدُّد الذي ينتابنا من ذلك، نَجدُ أنفسنا نَتَمنّى من هذه المحطة الأخيرة قَبلَ الجُنون، أن تُفَسّرَ و تُوَضّحَ لنا ما تَعَسَّرَ فَهمُه مُنذُ مُدَّة ليست بالقصيرة.

عَالَمُ الخوارق هو عالم الظواهر غير العادية، و غَيرُ العادي هُوَ عندما لا تَسيرُ الأشياء على نحوها الطبيعي، كما تسير عليه في باقي العالم، و حين لا تمضي على الصراط المستقيم الذي يُوصل إلى ما هو مَعقول و مألوف. و لَمَّا تأخذ مَجرىً مُختلفا عن المعايير و القواعد المتداولة و المتوارثة، فَتَتَّبعَ رغما عن إرادتنا طُرُقا مُلتَوية تؤدي إلى أَوضاع غير معقولة و خطيرة. عبارة “رغما عن إرادتنا” تعني أيضا رَغمَ أَنف قوانين الطبيعة و المنطق، و رغما عن قواعد الطب و الأخلاق و التاريخ، و تعني كذلك رَغمَ أَنف الصَّالح العام و ما تقتضيه مصلحة البلد و الأجيال القادمة.

لقد حَاصَرَتنا و استَعمَرَتنا مُختَلَفُ الظّواهر الخارقة فأخلطت أوراقنا و جعلتنا نشُكُّ في حواسنا، حتى انتهى الأمر بأن غَرَسَت في أنفسنا اليقين أَنَّنا في الواقع لا نواجه إشكالية ذات طابع سياسي، بل تَركيبةً غَريبةً عَن مجال العقل، تَستَحضرُ مؤامرة جهنمية تَحيكُ خُيوطَهَا في الظّلام قوىً تُقَدّسُ الشَّرَ و تَتَلَذَّذُ بارتكابه ضد بلدنا المسكين و أَهله. مُؤامَرَةٌ يُقالُ أنَّ خيوطها تمتد إلى القوى الأجنبية التي ساندت العهدة الرابعة مقابل العقود و الصفقات، و امتيازات استغلال النفط و الغاز الصخري، حين ستبدأ في 2020 كما تَسَرَّعَ بإعلانه وزير الطاقة.

اليوم تُقَدَّمُ لنا الكثير من الأمور على أنها أشياء طبيعية و عادية. من بَينها تَمَركُزُ جُلّ السُّلُطات في البَلَد بَينَ يَدَي رئيس خارج الخدمة، لا يمشي و لا يتكلم، و هو ما لم نَرَهُ من قَبلُ في العالم و لا حتى في أفلام الخيال. و أيضا تَركُ البَلَد تائها ضائعا هائما في جميع المجالات، ناهيك أنَّنا نَجهلُ مَن الذي يُسَيّرُهُ حقيقةً. و كَونُ التَّعيين في المناصب العليا لم يَعُد يَخضَعُ إلّا لأربعة مَعايير لا خامس لها: الانتماء الجهوي، الوَلاء المُطلق، عَدم الكفاءة، و الارتباط بواحد من الملفَّات الكُبرى للرشوة و الفساد. و أيضا أَن تَغرَقَ غرداية في الحرب الأهلية مُنذُ سَنة حتى باتت قوى الأمن تُطالب بعدم الخدمة هناك. و أن تَحذو حَذوَها إيليزي التي اندَلَعَت فيها مُؤخرا مناوشات قَبَليَّةٌ. و أن يُترَكَ المُواطنون لأمرهم و تَستفحل المخدرات و الجريمة في المُدُن…

كل التناقضات المتراكمة، و الإصلاحات التي تُعلَنُ ثم تُنسى، و السياسات الاقتصادية الهائمة بين اتجاه و عكسه، و الفوضى المُتَعَمَّدَة، و التَعيينات الفاضحة في المَناصب العُليا و الّرمزية، كُلُّ هذه العلل التي يَصعُبُ تَفسيرها بالمنطق تُصبحُ مُتناسقة و مُنسَجمة تماما عندما نُرجعها إلى المنبع الحقيقي الذي تَتَدَفَّقُ منه. سواء كان بصحة مُشرقة أو في حالة يُرثى لها، بإمكانيات مُتواضعة أو بمئات مليارات الدولارات، فإن كل شيء يَخضعُ في النهاية لمَبدَأ واحد: البقاء في السلطة. “انتَصَرَ رَجُلٌ، انهَزَمَت أُمَّة” كان عُنوان مَقَال نشرته في 20 أفريل الماضي: ها هو الحال اليوم كذلك.

يَعلَمُ عُلماء الفَلَك جيدا أنه سيأتي يومٌ يَصطدمُ فيه نيزكٌ من الفَظاء بكَوكب الأرض، مُسببا له أضرارا تُعَادلُ تلك التي انقرضَت من جرائها الديناصورات منذ 65 مليون سنة. كذلك يَعلَمُ عَددٌ من الجزائريين مُنذ دخولهم في زمن العهدة الرابعة أن شيئاً رهيبا سوف يقع لا محالة، و أنَّ عواقبه المادية و البشرية ستكونُ وخيمة.

لكنَّ هذا ليس في الحقيقة كُل ما يَخشَونَهُ: فَرَغمَ استسلامهم لهذا الأمر المحتوم، إلّا أنَّ الرغبة الكامنة في أعماقهم و المُتَعَطشة للعدالة و الانتقام، تَدفَعُهُم إلى التَوَجُس من أن الكارثة القادمة التي ستأخذهم لَن يَنقَرضَ فيها أَحدٌ من الديناصورات، هكذا: “زكارة” فقط، كما لو شَاءَت ذلك إرادةٌ شيطانية. و هُم مُحقُّونَ فعلا في ذلك: فَرُبعُ قَرن من الإرهاب و الزلازل و الفيضانات و أعمال الشغب و حوادث المرور، قَضى عَلى مئات الآلاف منهم لكنه لم يأت على ديناصور واحد، أَو ابن ديناصور حتى.

تُحاولُ نظراتهم المُرتابَة أن تَتَوقَعَ من أين سَيَندَلعُ الحريق الذي لن يَنطَفئ: غرداية، إيليزي، ورقلة، تيزي وزو أو ولاية أخرى… في النهار يُراقبونَ كُلَ النواحي خِشيَةَ أَن يُباغِتَهُم نَوعٌ أو آخر من “المنكر” و في المساء يُصَفِّحونَ أبوابهم و يُحَصِّنونَ بُيوتَهُم. في الليل يُحاوِلُ أَكثَرُهُم تَسَيُّساً، قبل خلوده إلى النوم تحت غطائه الدافئ تَخَيُلَ مختلف السيناريوهات: اغتيال داعش لأجنبي آخر في مكان ما من القبائل، أو تصفية حسابات بين فصائل السلطة لإزاحة جنرال مُهمّ: توفيق؟ هامل؟ مسيرة هائلة أخرى للحرس البلدي أو البطالين، أو إضرابٌ شاملٌ للنقابات المُستقلة تَشُلُّ به البلد.

العهدة الرابعة، و التي تُمَثّلُ المستحيلُ الذي فتح الباب أمام المستحيلات الأخرى، كانت تُطَمئنُ نفسها بالقدرة على شراء السلم الاجتماعي حتى 2019 على الأقل و ذلك صحيحٌ فعلا. فلو تَوقَّفت الجزائر غدًا صباحاً عن تصدير المحروقات، فإنها ستصمد لثلاث سنوات أخرى بفضل احتياطات الصرف التي تملكها (200 مليار دولار / 3 = 66.6 مليار دولار، أي ما يعادل تقريبا كلفة وارداتنا السنوية حاليا). و بمناسبة موضوع اليوم، لَن نَمُرَّ مرور الكرام على هذه الثلاثية المتتالية من حرف 6 و التي سترتعش لها قلوب المسيحيين من مواطنينا، حيث تُذكّرُهُم دون شك بكتاب “سفر الرؤيا” للقديس يوحنا و ما يقوله عنها: ” …لن يُمكنَ لأحد أن يَشتري أو يبيع ما لَم يَحمل علامة الوحش، أو اسمهُ أَو رَقمَ اسمه…و مَن يَملكُ منكم الذَّكاءَ فَليُفَسّر رَقمَ الوحش، فَهُوَ عَدَدٌ من عالم الإنسان، و رقمهُ هو 666″, ( الآيات 15 إلى 18).

ما نعرفهُ عادةً عن “الشيطانية” هي أنها عبادةُ أَتباعها لأبليس. لكن يهوديا أمريكيا يَحملُ اسم “آنتون لافاي”، أعاد في ستينيات القرن الماضي تَشخيصَ هذه العبادة السرية القديمة، ليُعيدها إلى بُعد إنساني مَحض. في هذا التصور الجديد يتخلى إبليس عن عرشه لتُوضَعَ مَكانَهُ “أنا” الإنسان. يُصبحُ الإنسان بهذا هو إلهُ نَفسه، و هو المذهبَ الذي يعلو على كل القيَم الأخرى: الدين، الفلسفة، الفكر، التقاليد، المجتمع، الأمة، الأخلاق، الحياء…لا يجب على المرء أن يَعبُدَ إبليس، بل عليه أن يُصبحَ هُو نَفسُهُ إبليس. مَذهَبُ لافاي هذا لُقّبَ “بالشيطانية المعاصرة”، و عَمَّرَ طويلا بعد وفاة مُؤسّسه حتى صار له عشرات آلاف الأتباع في العالم، بما فيه الجزائر، و إن لم يعي أولئك ذلك.

هذا و لم ينتظر البعض لافاي الذي ربما لم يسمعوا بوجوده حتى، ليُؤَسّسوا لعبادة مُكَرَّسَة لشخصهم و مجدهم. و لم يترددوا في حبس و قتل الآلاف و الملايين من مواطنيهم من أجل البقاء و الخلود في الحكم: ستالين، ماو، كيم إيل سونغ و سلالته، شاوسيسكو، كاسترو، صدام، القذافي، مبارك و موغابي حتى لا نذكر إلا المعاصرين منهم.

الشيطانية المعاصرة أشد خطرا من العبادة الإبليسية القديمة. يُمكنُ و َيجبُ أَن يوصَفَ بالشيطاني، كل من وَضَعَ شَخصَهُ و َمصالحهُ فَوقَ الآخرين، و لم يَتَرَدّد في استعمالهم و التضحية بهم من أجل بلوغ غاياته التي تَتصدَّرُها الرَّغبة في الخلود على العرش. يُمكن أن نستخلص من هذا أن الذين أرادوا العهدة الرابعة و حققوها قد اتَّبعوا لهذا الغرض مخططا شَيطانيَّ الجَوهر، أَدَّى في النهاية إلى وَضع أُمَّة بأسرها تحت أقدام رجل معطوب و حاشيته. في السابق تَعَهَّدَ بومدين بمَعيَّة فريق الانقلابيين المحيط به، و على رأسهم بوتفليقة، بأن يَبني دَولةً “تَصمدُ أمام الأحداث و لا تَزولُ بزَوال الرجال”.

الدَّولةُ التي تركها لم تصمد بين 1988 و 1995 أمام أحداث أكتوبر، ثُمَّ لَم تَعرف بين 2005 و 2014، كيف لا تزولُ بزوال رَجُل واحد فقط: بوتفليقة. فالدولة الجزائرية لم تَعُد اليوم سوى حصيرة يَتَلَذَّذُ هذا الرَّجُلُ و أَتباعُهُ بمَسح أقدامهم عليها.

لم أتمكن خلال الربيع المنصرم من فهم الإصرار و التعنت الذي تمَّ به تمرير عهدة رابعة لرَجُل بَلَغَت حالتُهُ قمة الوَهَن. ذلك لأني كنت أَحسَبُها غايةً في حدّ ذاتها بينما لم تكن في الحقيقة إلا الوسيلة لبلوغ هدف آخر: تَأمينُ التَّوريث الذي كنت أرفض الإيمان بإمكانية حدوثه، معتقدا بسذاجة أن السَّمَكَةَ ستكون أَكبَرَ من أَن يَأكُلَها الجزائريون، و أنهم لا يُمكنُ أن يَقبلوا بشيء كهذا.

لكني اليَوم أُؤمن بهذا الاحتمال الذي, عندما تستوعبه العقول، يُضيءُ فجأة كُلُّ ما من حَولنا من ألغاز. إنها النظرية الوحيدة التي تضفي انسجاما لأحداث لَم تُطلعنا على شيء عندما حاولنا قراءتها على انفراد. إنها الشفرة التي تَسمَحُ بتَصَفُّح الملف السري، و التركيبة التي تُفتَحُ بها الخزنة الحديدية. هي الجُملةُ السّحرية التي تُدخلنا إلى مغارة علي بابا و اللُّصوص الأربعين، أين تمتلئ الأيادي بقطع الذهب و المجوهرات و شتَّى الكنوز المسروقة. كُلُّ شيء يأخذُ فيها مَكانه، مُنذُ البداية، مُنذُ الأبد، جميع القطع تجد مكانها في اللعبة.

نعم, لم يَعُد هناك شيٌء يستحيلُ الوقوعَ في بلادنا، حتَّى المُستحيل. وسَيقبل الجزائريون مُجَدَّدا بالمستحيل القادم, باسم “الاستقرار” و “المعزة التي تطير” و “تخطي راسي”، أو نقدا مقابل أموال مُغرية مُشبعة تُسمنُ و تُغني من جوع. مَذهَبُ الشيطانية يرتبط في جَوهَره بمذهب المُتعة. و بالمادّية و ثقافة الاستهلاك و حب المال، و بالتعطّش للارتقاء الاجتماعي و الفخفخة و ملذات الدنيا. هذا هو كل ما تَرغبُ فيه الأغلبية الساحقة من الجزائريين في الوقت الراهن. لكن، هناك رغم ذلك حقيقة مُسَلَّمةٌ و مُثبتةٌ عبر الزمن: في السياسة كما في العلم، الأقليات الفاعلة هي من يصنع التاريخ.

لم نعد, كما كنت أعتقد بسذاجة، نُواجهُ مُجَرّد حيَل مُستَوحاة من تُراث جحا، بل صرنا نَقفُ وجها لوَجه أمام أساليب شيطانية عديمة الضمير لا تتراجع أمام شيء. فعلا، فمنَ الصعب أن نَرى غير ذلك في تهريب كبار اللصوص إلى الخارج، أو في ضمان الحصانة لمسؤولين في مختلف القطاعات رغم تورط أسمائهم في تحقيقات و محاكمات علنية. في احتفاظ أسماء مشتبه بها في قضايا الرشوة بالمناصب الحكومية، و في تعيين الوجوه القبيحة المكروهة على رأس المؤسسات الرسمية و الهيئات المهمة.

نحن أمام مكيدة بدأ العَدُّ التَّنازُلي لتَنفيذها يَومَ أَعلن سلال تَرَشُّحَ بوتفليقة لعهدة رابعة. لم يكن ذلك له فقط بل كان بمثابة إشارة الانطلاق التي أُعطيت لتجسيد مُخطَّط تَوارث الحكم. هذا المخطط هو حتما ما وقع عليه الاتفاقُ الذي تَحَوَّلت بموجَبه العهدة الرابعة إلى مسألة ثانوية، و إلى مجرد وسيلة لبلوغ الغاية الحقيقية.

لم تكن هنالك أبدا “صراعات فوقية” أو خلافات على الجوهر، بل فقط حاجةٌ لإعادة تنظيم كان يجب القيام بها تمهيدا للعهد الجديد، و حَاجَة لوَضع توقيت يلتزم به الجميع. و بينما لم نفهم نحن شيئا عن سرّ تَعنُّت المرشح العاجز، “هم” كانوا يعلمون جيدا ماذا يفعلون و إلى أين يتوجَّهون، مُنَفّذين إستراتجية مُتَّفق عليها. الخطة المُتَّبَعَة؟ تعيين أَوفياء في المناصب الحساسة، يَتمُّ انتقائهم حسب المعايير الأربعة المذكورة أعلاه. تمرير التعديلات الدستورية التي لا نعلم عنها شيئا إلى حد الآن.

إغلاق اللُّعبة جيدا، ثُمَّ الشُّروع في تهيئة العقول لاستيعاب المخطط الذي رسموه في 1999 أو بالأمس، لا يَهُمًّ مَتى. في حال وقوع اضطرابات اجتماعية أو أمنية، الخضوع للمطالب الاجتماعية. المُهمّ أن لا تتحول إلى مطالب سياسية، أو تَعتَرضَ طريقَ المخطط.
هذه وسيلة لتكريس إعلاء الشر فوق الخير في البلد. وأسلوبٌ لتفضيل الخداع على الأمانة، و العَبَث عَلَى الجدّية، و الخبيث على ابن العائلة، و الغشاش على العامل و المقاول النزيهين. إنها طريقة لإفراغ البلد من الكفاءات، من الذكاء، منَ الأَفضل. غَلقُ ملفات الرشوة يَعني أن يُقال للجميع: ” تفضَّلوا، انهبوا و اسرقوا ما طابَ لَكُم، و احرصوا على أن لا يُمسك بكُم أحد”.

هذه الأعمال الإبليسية هي السبب الكامن وراء الإحباط الذي يَنخَر معنويات الأمة، و التَّشَرُّد الذي يَطبَعُ مَلامحها. “خدايم الشيطان” هذه هي المسئول عن التسيب في الإدارة، و عن الحصانة المضمونة لكبار المجرمين و صغارهم. هي السبب في العدمية التي أصبحت تتميز بها الأغلبية من الجزائريين، في زيادة حالات الانتحار، في “الحرقة” و “الحقرة”، في الهجرة و الاغتراب، في ارتفاع عدد المجانين.

عندما يصل الرجل السياسي إلى الحكم يجد أمامه طريقان متوازيان، تربط بينهما جسور في بعض الأماكن. فوق كل طريق سيجد لافتة, كُتب على أحداها: ” ما يخدم مصالحي”، و على الأخرى: “ما يخدم مصالح البلد”. الذي يتبع الطريق الأول سيضطر أن يُعَرّجَ بين الحين و الآخر على الطريق الثاني للتضليل أو الإيهام. لكنه سوف يحرص خلال حُكمه أن لا يُقدمَ على شيء يُثير استياء الشعب، مثل الإصلاحات الضرورية لمواصلة بناء البلد و الصالح العام، أو حماية التوازنات الاقتصادية الكبرى للأمة من التبذير، حتى لا يُثقل كاهل الأجيال القادمة بالمديونية. سوف يكذب على شعبه و يخفي عنه الحقائق، سيحيط نفسه برجال يكرسون أنفسهم لخدمة مصالحه و مصالحهم و يتصرف بمبدأ “أنا و بعدي الطوفان”.

و عندما يقع في فخ أعماله، حيث لا يستطيع العودة إلى الوراء لأنه لا يعرف كيف يفعل شيأً آخر أو لأنه يتربص عمدا بالشر لبلده، فإنّه سيجعل من ميزانية الدولة لائحةً ملكيةً، و سيفضل الاستيراد على الإنتاج و يمنح الصفقات العمومية الكبرى للشركات الأجنبية على حساب المحلية. كل قراراته ستصب في اتجاه الاحتفاظ بالسلطة من جهة، و في اتّجاه النهاية المُبَرمَجَة لبلاده بَعدَه، من جهة أخرى.

الذي يختار الطريق الثاني، طريق مصلحة البلاد، سيتجاهل الجسور التي توصل إلى الطريق الموازي و يتصرف عكس الأول تماما. سيواجه دائما شعبَهُ بالحقيقة، حلوة كانت أو مرة، و سيجمع حوله أكثر رجال البلاد كفاءة و نزاهة لإيجاد الحلول الحقيقية لمشاكله، و سيسعى لأن يترك بلده على حال أفضل من التي وجده عليها.

الهدف الأسمى للشيطان و أعماله، هو دفع أكبر عدد ممكن من الناس لارتكاب الشر (مخالفة القوانين و النظم، الأنانية، العنف، التعصب). و جَرّ الإنسان ليتنافس و يبدع في المنكر حتى يتمكن من البقاء على قيد الحياة، حتّى ينفذ بجلده، حتى “يسلّك راسو”، و حتّى يحمي نفسه من شر أخيه. ليرتقي في سُلَّم المناصب، ليحقق الثراء أو، بالنسبة للبعض، ليصل إلى السلطة. هذا هو المعنى الذي تحمله مقولة جون ميلتون، شاعر القرن السابع عشر الإنجليزي الذي يصنفه مواطنوه في نفس مكانة شكسبير. هو كذلك المغزى من الصيغة الشعبية الجزائرية، و التي تظهر حكمتها حاليا في حياتنا اليومية.

فعادة عندما لا يستطيع الجزائري أن يرى بوضوح في أمر ما، و يشتم رائحة الغموض و الخداع فيه، فإنه يتراجع قليلا كما لو كان يقصد الابتعاد عن الشر، و يصيح مروعا: “آوّاه ! هاذو خدايم الشيطان !…”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى