الجزائرالرئيسيةبين الفكر والسياسةسلايدر

بوتفليقة: رغم أنّي نَصحْتُه…

لقد كنت معارضا لترشحَ السيد عبد العزيز بوتفليقة للانتخابات الرئاسية سنة 1999، رغم المحاولات الكثيرة لإقناعي بمساندته.

في نفس اليوم الذي أدّى فيه اليمين الدستوري (20 أفريل 1999) أبلغته هذه الرسالة.

وعندما أعلن عن ترشحه لعهدةٍ رابعةٍ، نشرت نسختها العربية في يومية الخبر في 10 مارس 2014، والنسخة الفرنسية في جريدة لوسوار دالجيري في 11 مارس 2014.

 

نص الرسالة:

“الجزائر، 20 أفريل 1999

إلى السيد رئيس الجمهورية

أردت، عشية تقلدكم منصبكم الجديد، وما لم تأخذكم واجبات الرئاسة كلية، أردت أن أقدم لكم تهاني الخالصة وتمنياتي بالنجاح في كل ما ستقومون به من أجل الوطن، وفي نفس الوقت، أدلي لكم ببعض الأفكار التي أخصها للرجل أكثر منها للرئيس.

فمهما كانت مواقفي وتحفظاتي من ترشحكم، أنتم اليوم رئيس كل الجزائريين وبالتالي رئيسي أيضا. لقد أصبح ذلك معطى تاريخي، أنظر إليه بنظرة إيجابية وحسن نية. و من هذا القبيل، أسمح لنفسي حق إمدادكم هذه “النصيحة” بالمعنى الإسلامي السامي.

أدري أن كل ما ستقرؤونه فيما يلي ليس بالغريب عن ثقافتكم ومعرفتكم للعالم والحياة، لكن بالرغم من ذلك أردت أن أكتبه لكم، على الأقل لإرضاء حدسي الذي ألهمني هذه المبادرة.

في زمن ولى، عرفتم رونق الحياة العمومية ثم لدغتكم بسمومها، ذقتم زهو الحياة والتشريفات قبل أن تذوقوا علقم الحرمان منها.

عرفتم صخب النجاح ثم وحدة الملعون. رفعكم العالم إلى فوق، فكدتم تلمسوا الثريا، ثم رماكم في الوحل.أنتم إذن تعرفون حق المعرفة رهافة الأشياء وتقلب الرجال.

لكن ها انتم اليوم من جديد محمول على الأكتاف كما في عز أيامكم.

لا الأشياء ولا الرجال تغيروا، لكن، هل أنتم تغيرتم؟

كنتم في السلطة وأبعدتم عنها وها أنتم عائدون إليها لوقت غير معلوم.وستتركونها مرة أخرى بالتأكيد، لكن هذه المرة بصفة نهائية، ولن تجدوا أمامكم الوحدة والصحراء، لن تجدوا المنتخبين والرأي العام العالمي لمحاسبتكم، بل ستمثلون أمام محكمة الدهر والتاريخ والله.

إن مساركم، بما يحمل من أحزان البارحة ومعاناة اليوم أمام ضربات منافسيكم، ومستواكم الثقافي وتجربتكم وحس الدولة لديكم وعمركم، كل هذا لا يسمح لكم بتقديم عهدة خامدة جامدة، مسطحة لا تضاريس فيها ولا ذوق، وتقبلون فيها تواطؤ الدم مع روح الرعاع المعمم. لن يكون ذلك بالأمر الحكيم.

عندما رجع ديغول إلى سدة الحكم سنة 1958 وسط أزمة مثل التي نعيشها اليوم، قال هذه الكلمات :” إن الجميع يناديني في هذه المرحلة إلى إتباع الرداءة، لكنني سأعمل على البقاء في العلا”.

كان متقدما في السن، وحيدا وغارقا في بحر من المعاداة. لكنه كان قد عاد وفي ذاته مشروعا كبيرا، هو مشروع إعادة الوفاق بين أفراد شعبه، وإخراج بلده من حرب الجزائر، وإصلاح عميق لمؤسسات الدولة الفرنسية حسب مخطط كان قد أعلنه في مدينة “بايو” 12 سنة من قبل. كان رجل يحمل رؤية، ويؤمن بمهمته وقام بواجبه كاملا، دون هوادة. ففاز بمكانة سامية في ذاكرة شعبه المعترفة له بحق الجميل إلى الأبد.

هناك أفعال ومواقف تبصم الضمير الإنساني وترسخ فيه قيما جديدة وتؤسس معالم دائمة للأجيال التالية.

ولنا في رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قدوة وهو الذي قال، يومين قبل وفاته في مسجد المدينة وقد نال منه التعب والمرض :” يأيها الناس،الموت حق… إني قد دنا مني حق، فمن كنت جلدت ظهره فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عرضا فهذا عرضي فليستقد منه، ومن كنت أخذت منه مالا فهذا مالي فليستقد منه… أو حلّلني فلقيت الله وأنا طيب النفس…”

وأما صلاح الدين الأيوبي، فبعث عشية وفاته ببراح يجول في شوارع دمشق، حاملا كفنه ويقول بين الناس: “إن صلاح الدين الذي فاز بالمغرب والمشرق، لا يأخذ من ثروته سوى هذا الكفن”.

وفي المقابل، نجد في سجل الإنسانية من طغى على أنفسهم الكبر مثل نابليون الذي صرخ مفتخرا بعد عودته من منفاه بجزيرة الألب :”ستنقضي آلاف القرون قبل أن تجتمع نفس الظروف التي اجتمعت فوق رأسي على رأس شخص آخر وتعيد نفس المشهد تريه للإنسانية. أما أنا، سيظل اسمي ما ظل الله في السماء”. كما كان هتلر متأكدا أن إمبراطورية الرايخ الثالثة ستدوم ألف سنة.

كنتم في السابق، حسب ما يقوله الجميع، وزيرا لامعا، لكن في المستقبل، عليكم أن تكسبوا مزيتين اثنتين أخريين يمتلكهما الذهب : القيمة والصفاء.

وأنا أتابع حملتكم الانتخابية في التلفزة، حاولت أن أقرأ فكركم العميق وراء أفعالكم وأقوالكم، وفي بعض الأحيان كان يخيل إلى أنني استمع إلى القذافي أو كاسترو أو صدام، فينتابني الخوف على مستقبل بلادي.

وعلى العكس لم يصدمني حكمكم المرير على بلادنا وعتابكم لمواطنينا. كنت أشعر أحيانا أنكم تضعون نفسكم في كفة والوطن في الكفة الأخرى. لكن، لم آخذ هذا على أنه غرورا لامتناهيا.

فبينما كان منافسوكم يتسابقون فيمن يكون أكثر شعبوية وسطحية، كنتم تتميزون بجهدكم لتفهموا مواطنينا أن قسطهم في الأزمة ليس بالهين.

 

إن شعبنا يكره “الحقرة” ما دامت مسلطة عليه، لكن كل شخص جزائري بمفرده “حقار” مبيت، وقد يمارسها يوميا دون أن يشعر حتى.

فمن المفيد أن يعلم هذه الحقيقة لكي يتحسن.

عرف بلدنا من تقلبات التاريخ ما جعله لم يعرف بعد طريقه إلى وحدة نفسية صلبة ولم يتحول شعبنا بعد، على شجاعته وصفاء نيته، إلى مجتمع منسجم وفعال.

لم نقم بما فيه الكفاية مع بعضنا عبر الزمان، ولم نختزن بعد ما يكفينا من الميكانيزمات وعادات التعايش لكي نصل إلى مرحلة الوطن بصفة ذاتية.

ولو كان الأمر كذلك لما مزقتنا أول ضربات الإيديولوجية الاسلاموية أو تسييس القضية الأمازيغية.

إن القوة ليست هي الوسيلة التي تقي على الدوام من دواعي فقر اللحمة الاجتماعية والغياب شبه الكلي للروح المدنية. كما لا ينفع السخاء الاقتصادي.

صحيح، يمكن أن نفوز بنوع من الخنوع والاستقرار بإغراق البلد ذهبا وإملاء بطون سكانها، لكن هذا لا يجعل منهم كائنا مدنيا منسجما.

إن مثل هذه السياسة تحمل إسما هو: “شراء السلم الاجتماعي”، وفي نظري فإنها أخطر من ذلك، أسميها : “إفشاء روح الرعاع”.

وهذا معناه أنه بمجرد توقف الهبات، كما حدث في 1988، تتفسخ اللوحة الظاهرية وينصرف كل صف إلى أول ما يجده أمامه من مشعوذين، وشعبويين وعدميين، ويرمى بالبلاد في الفوضى والحرب الأهلية.

في الستينات والسبعينات، كان العقد الاجتماعي الذي شكلته ثورة التحرير قوي بما يكفي لأنه كان ما زال يؤثر بقوة على الأذهان وشعر الشعب الجزائري بأنه في توافق مع نفسه وتاريخه.

وكان واثقا من أن السلطة تسعى إلى  إرساء دولة دائمة واقتصاد تنموي.

وكان الوضع الدولي مناسبا أيضا حيث كانت الحرب الباردة بين الشرق والغرب وتصاعد الوطنيات والرومانسية الثورية تضفي جوا من الرفاهية والتقدم.

 لكن ذلك الزمان قد ولى…

لقد عانت بلادنا طويلا من جهل حكامها الذين استعملوا قواهم الذهنية والفكرية الهزيلة لاكتساب موقع واه ثم الحفاظ عليه، بدل أن يلعبوا دورهم لأنهم لم يعرفوه أصلا ولم يكونوا ولدوا له.

أما اليوم وقد اختاركم الدهر للوقوف على مصير بلادنا في بداية الألفية الثالثة، عليكم أنتم أن تضعوا كل قواكم في خدمة هذه المهمة وتستنفروا ضميركم، وتسخروا تجربتكم ومعرفتكم من أجلها.

علموا الشعب، أيقظوه، أصلحوا دولته ومدرسته وجامعته، أثروا على مخيلته وذهنه، ادفعوا به للسمو الروحي، واحيوا فيه روح الواجب، وحب العمل والتفاني والإخلاص والاستحقاق، نظفوا العدالة والإدارة، شجعوا الثقافة (الحقيقية)، وابعدوا “البراغيث” والرداءة”.

إن المواطنين، في كل البلدان، عادة ما ينتظرون المثل من أعلى مسؤول في البلاد ويتبعون الطريق الذي يشير إليه.

إن الشعوب تنتظر لاشعوريا أن تكون أفعاله تحمل رمزية، وأن يبدي دلائل قدراته وصدقه.

لقد تحدثتم عن روح الفروسية، إذن أظهروا للشعب أنكم فارسا بحق وحقيقة، وبأنكم حليم دون ضعف وقوي دون شراسة…

يمكنكم أن تحققوا “المصالحة” بشرط ألا تبدو على أنها انهزام أمام العنف يستعمله كل من أراد أن يمرر أرائه بنفس الطريقة و إن فعلتم، فإنكم بمجرد أن تمضوا السلم مع طرف، إلا ونهض طرف آخر وصعد إلى الجبل للمطالبة بعدها “بالرحمة” و”المصالحة”.

إن بلادنا ستندثر لو عاشت حربا أهلية أخرى ولا أحد سيمنع حينها الأجنبي من التدخل لمساعدتنا على “حل” مشاكلنا.

كتب نيكسون في مذكراته وهو يستعيد مساره السياسي : “إن العدو هو صديق لم التق به”. إن هذه المقولة تنطبق عليكم، إن بالسلب إو بالإيجاب.

إن غالبية الجزائريين اليوم لا يعرفونكم، لم يلتقوا بكم و لا يعرفوا عنكم سوى ما يشاهدونه أو يقرؤونه. أنتم اليوم أمامهم، وهي الفرصة لكي يتعرفوا عليكم وعلى حقيقة ما تحملون، وفي الأخير، سيصبحون أصدقاء لكم أو أعداء.

إن رجل الدولة الذي ينظر إلى فوق وليس إلى تحت، ويتثقب أفق التاريخ بدل كواليس السلطة، ولا يعمل للمدى القصير فقط، ولا يغازل الجهل والمساوئ في مواطنيه لكي يحبوه، سيفوز برضاهم ومحبتهم لامحالة، ويفوز في نفس الوقت باحترام الخارج.

لأن ما نسميه بلغة اليوم “الشرعية بالعمل”، كان الصينيون القدامى يسمونه ” حكم السماء”. أنتم الآن في هذا الموضع بالذات.

أعانكم الله ووفقكم في تأدية مهمتكم النبيلة السامية”.

(انتهى نص الرسالة).

تنويه : قبلت أن أكون عضوا في الحكومة من 23 ديسمبر1999 إلى 30 أفريل 2005، لمساعدته في تحقيق هذا المسعى.

جريدة الخبر10-03-2014

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى