بين الفكر والسياسة

بين العلم القديم و القرآن الخالد

بقلم: نور الدين بوكروح

ترجمة: الحوسين شايب

يعود تاريخ أجزاء مخطوطات القرآن الكريم التي تم اكتشافها و الإعلان عنها في برمينغهام ( Birmingham) سنة 2015 ، إلى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، و تعتبر مثل هذه الإكتشافات من لحظات النشوة التي تحيي روح المسلمين من وقت لآخر، وتواسيهم في مصائبهم  التي هي من صنع أيديهم، كما تنسيهم، ولو مؤقتا، تخلُّفهم بالمقارنة مع الحضارات الأخرى، إخفاقاتهم القومية و حروبهم الطاحنة فيما بينهم. من جهتي،  كنت أنتظر المعيار العلمي للتأريخ الدقيق لهذه المخطوطات، أي معرفة ما إذا كانت السور فيها مرتبة بالترتيب  الأصلي الذي نزل به القرآن.

جعل أغلب المسلمين من القرآن الإلهي و العلم البشري شيئا واحدا، بل و كلُّ لا يتجزأ، ومن هذا المنطلق اعتقدوا بأن القرآن الكريم، العلم القديم و علماء الدين الحاليين صالحون لكل زمان ومكان حسب الصيغة المقدسة غير قابلة للتغير. إنهم يؤمنون بالله، و أن القرآن الكريم هو كلامه المُنزّل، وان رجال الدين هم الزبدة التي وضعها الله في كل جيل بشري جديد، لكن لا يزعجهم إن كانوا متخلفين في كل شيء، أو أنهم يتقاتلون فيما بينهم من أجل لاشيء، وينظرون إلى الذين لا يشاركونهم دينهم نظرة البراهمانية (Brahmanes) إلى المنبوذين ( Intouchables) في الهند القديمة.

هل يمكن إيقاظ المسلمين الذين يفكرون بهذه الطريقة و تذكيرهم بأدنى معاني الحقائق ؟ من أين يا ترى يأتون بهذه الثقة التي يواجهونك بها ؟ و من أين يستمدون الطمأنينة التي يظهرون بها ؟ و هم يحاولون إعادتك أدراجك بابتسامة طيبة قبل أن يتعطّفوا ليبوحوا لك بالسر: “أن المسلمين ابتغوا العزة في غير دين الله فأذلهم الله، وأنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، فليعودوا إلى مكانتهم الأولى إذا أرادوا ريادة العالم من جديد”، ثم يشرفونك بتلاوة حديث الرسول صلى الله عليه وسلم في محاولة لإزالة أي أثر للشك عن ذهنك، و الذي يقول فيه :” لا يجمع الله هذه الأمة على ضلالة أبداً، يد الله على الجماعة فاتبعوا السواد الأعظم فإنه من شذّ شذَّ في النار”.

تُذكرنا هذه النظرة على الصعيد الفكري بنظام “البيع المتلازم” في التجارة، فهي ناتجة عن التفسير البدائي الملازم لعلم القرون الأولى للإسلام والتسويات التي رضي عنها علماء الدين في مجاملة منهم لأصحاب السلطة، وعليه، فإن كثيرا من أجزاء العلم القديم والتي أصبحت  غير متزامنة مع الوقت الراهن إن لم نقل متناقضة، من جهة مع القرآن، ومن أخرى مع طموح المسلمين إلى الحداثة ومع حالة التعايش المفترضة مع الديانات والحضارات الأخرى.

تتكرر يوميا الدعوة اللاواعية في إعادة نقل، و إلى آخر يوم من تواجد المسلمين على الأرض، التفسير الخاطئ و الأحكام التي أملاها العلم الديني عن طريق الأنظمة غير الشرعية، حيثما يوجد مسلميْن اثنين فأكثر، سواءا كانوا مجتمعين، أو متصلين عن طريق طرفي خيط حيث يكون احدهما في الإرسال و الأخر في الاستقبال.إنهم يحبون أن يقال لهم بأن أي شيء لا قيمة له أمام الإسلام، وأن الله هو أكبر مما يعبد الآخرون، وأن القرآن الكريم هو معجزة مستمرة، وأن الاكتشافات الجديدة تثبت ذلك باستمرار.

لم يفهم أغلب المسلمين فكرة أنه بما أن القرآن حقيقة كلام الله، فإنه ليس لهم أي استحقاق في ذلك. بالعكس، لمّا امتدت إليه أيديهم أحدثوا خلطا في الترتيب الأصلي للسور، وربما حتى الآيات (وأنا لا أقول هذا عبثا). إنهم لا يشكّون بأن الإسلام الذي أتى به القرآن الأصلي ليس هو الذي يعتقدونه، وإنه يناقض جوهره الفلسفي، والأخلاقي، والإنساني، والسياسي. إنهم لا يشعرون أن ما فعله العلم القديم بالإسلام، هو ما فعله يهود ما قبل التاريخ بالديانة اليهودية، أي بتحويله إلى قضية قومية، وقبلية، و لغوية، أو ربطه بسلالة حاكمة.

وهكذا أصبح الإسلام على مرِّ القرون، لكن و خاصة في هذا القرن، غارقا في الجهل، إذ انقسم إلى تيارات معادية بعضها لبعض، و فقد كل احترام في أعين البشرية المضطربة إثر الأعمال الهمجية المرتكبة باسمه. إنه اليوم أمام طريق مسدود بعد أن ضيع كل فرص الإصلاح التي عُرضت على المسلمين من مفكرين حملوا أفكارا منقذة كالطهطاوي، الأفغاني، عبده، الكواكبي، عبد الرزاق، إقبال، بن نبي، أركون، وآخرون.

وللخروج من هذه الحالة لا تزال الفرصة سانحة، كتلك التي أدعوا إليها منذ شهور وقد عززتها ببعض الاقتراحات، في انتظار نقاش أوسع، بعيدا عن كل قدح، أو أيّ اتهام للنوايا كما كان الأمر في زمن محاكم التفتيش المسيحية. يجب التحلي بالشجاعة، وإظهار الجرأة و تحديد إطار عمل متعدد الأطراف، وإخراج كل شيء إلى السطح بداية من إشكالية ترتيب القرآن، والتفريق بين ما هو متصل بالقرآن الرباني وما هو ناتج عن العلم البشري، مع جعل الهدف من ذلك هو تحرير عقول المسلمين لإشراكهم في التحضير النفسي، والثقافي للإنسانية و للحضارة الكونية.

وصلنا إلى نقطة لا نستطيع بعدها خطوَ ولو خطوة واحدة بدون إصلاح عميق نابع عن موازنة العلم الديني بالاعتماد على القرآن، كلام الله، و مُعادٌ تفسيره على ضوء متطلبات العالم المعاصر وفي اتجاه موحد مع التاريخ. لأنّ كل التناقضات و الإنحرافات، والمعوقات التي يعاني منها المسلمون تكمن في العلم الديني البشري وليس في القرآن الإلهي .

إن مشروع المجتمع و الحضارة و المبني باسم الإسلام على أساس علم وصل إلى نهايته، وأصبح عقيما، يناقض في أفعاله و أفكاره خير البشر والسلم العالمي، يجب أن يُعاد تفكيكه حجرة بحجرة، قطعة بقطعة، كلمة بكلمة، قبل أن يتم إعادة بنائه بدقة متناهية استنادا إلى طريقة ناتجة عن “تفسير مصحح” و تشريع منضبط ليحقق “مقاصد الخلق”.

أول مُسَلَّمَة فلسفية يجب وضعها في هذا المسعى لتجديد قواعد الفكر الإسلامي هي أن الدين جاء لخدمة خير الإنسان وليس العكس، وأن الله معرّف بكونه غنيّ عن كل شيء، إذا سلمنا بهذه البديهية يمكننا الإقلاع بالإصلاح الفكري في الإسلام بمجرد أن نطرح على أنفسنا الأسئلة التالية:

ما هو معنى الخلق، والكون، والأرض، والجنة، والنار، والملائكة، و الشيطان، والطبيعة، والعالم النباتي والحيواني، والتاريخ بدون الإنسان؟ ما هو معنى الله بدون الإنسان الذي يشهد وجوده، ويتفكر في خلقه، ويطبق الأهداف التي خصه بها في إطار التصميم الذي نجهله إلى الآن؟

إن فكرة أنّ الله خلق الكون و سخره لحاجيات الإنسان وللرسالة التي لم يخبر عنها بكل وضوح بعد، لكي يواصل المهمة التي كلفه بها بجعله “خليفته في الأرض”، لهي أعظم من أَنَّ الله خلق الإنسان فقط من أجل عبادته. و هي تكرم الإنسان كما جاء في القرآن، وأكبر من هذا تدل على جلالة الله.

إذا استطاع الفكر البشري العيش هنا أو هناك  عبر الزمن بدون فكرة الله، كما هو حال الكثير من العلماء والشعوب التي مازالت تعيش بدون الإيمان بالله، فإنه لا يستطيع أي فكر بشري في المقابل تصور الكون بدون إنسان لأنه هو الوحيد الذي يملك العقل. إن الكون أو الأكوان حسب نظرية الأوتار(la théorie des cordes)  ليس له أي معنى بدون الإنسان، لكن العلم يمكنه أن يعمل بفرضية عدم وجود الله .

مما لا يُختلف فيه هو كون البشر في القرن الواحد والعشرين مجهزين أحسن تجهيز لفهم القرآن والخير الذي يمكن أن يستنبطونه مقارنة بأولئك الذين عاشوا في القرون الأولى للإسلام مهما كانت ميزاتهم. لكن علماء الدين يتمادون في تأكيد العكس ويصرحون، برغم مناقضتهم للمنطق، بأن الأولون ( السلف) هم أفضل من الآخرين ( الخلف) في فهم وتطبيق الإسلام.

لكي يكون الإسلام فعلا صالحا لكل زمان ومكان يجب أن يتلائم مع ظروف كل إنسان وفي كل عصر. يجب أن يستطيع إيجاد، بصفة آلية وبدون تدخل العلم الديني، كل الأجوبة لتساؤلاته عن معانى الأشياء وعن انعكاساتها بالمثالية التي يطمح إليها. لأنه وحسب هذا التعريف، لم يتم تصميم القرآن لجيل، لشعب أو لحقبة على حساب الأزمنة التي تليها. هذا ليس له أي معنى في نظر الله رب العالمين الأزلي، و لن يُقبل هذا “الظلم”‘ حتى عند الذين يُفترض أنهم سيستفدون منه، علما بأن أحفادهم سيعانون من عواقبه.

لن نكون مسلمين إذا شككنا في المنبع الإلهي للقرآن، أو في رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، لكن لدينا الحق في تدبر القرآن ودراسته والبحث عن استلهام أكبر فائدة للبشرية منه و التي هو موجه إليها، بدون التفريق بين جنس أو عرق أو لون أو لغة. لدينا أيضا الحق في دراسة تاريخ الإسلام ووضعه تحت مجهر النقد العقلي واختباره بين الأحداث القديمة والجديدة. إن الإسلام “التاريخي” كإنتاج بشري بإيجابياته وسلبياته تم تزيينه، تشويه و تغطيته عبر” التفسير” ثم أُهمل وأصبح مصدرا للمشاكل سواء بالنسبة للمسلمين أو للمجموعة الدولية.

بدأ تاريخ الإسلام البشري بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. وانقسم بعد فترة وجيزة – 25 سنة بعد الوفاة – بين سنة وشيعة بعد حرب أهلية راح ضحيتها عدد كبير من المسلمين، ثم انتظم شيئا فشيئا، وسط أنهار من الدماء، على شكل سلالات حاكمة من العرب، والفرس، والمصريين، والمغول، والأتراك…الخ، مع مباركة وتواطؤ العلم القديم  الخاضع للسلطة مع أن النبي لم يكن ملكا (على خلاف داوود وسليمان عليهما السلام، أو ذي القرنين)، ولم يكن إمبراطورا، و لا أميرا، ولا إماما، ولا مرشدا أعلى، ولا خادما للحرمين الشريفين، ولا رئيسا للجمهورية.

لم يكن إلا آخر المرسلين لتبليغ الرسالة الإلهية، وأبى وهو على فراش الموت أن يستسلم لتوسل المحيطين به في تعيين خليفة له، و استند مبدئيا إلى تعاليم القرآن الذي ينص في هذا الباب على الشورى بين المسلمين، وهم الذين يتبنون نظام الحكم الذي يلبي مصالحهم المشتركة.هذه القاعدة لم تطبق حتى في عهد الخلفاء الأربعة الأوائل، النبي هو الوحيد الذي طبقها في كل الظروف، وقت الحرب كما في وقت السلم.

في الواقع وفي كل الأحوال، و رغم أنه يبدو غير قابل للتصديق، إلاّ أنّ يد الإنسان كانت الأكثر حضورا في تطبيق الإسلام على حساب تعاليم القرآن منذ البداية. فلم يبين وينظم القرآن، الكتاب المقدس بدون منازع، حياة المسلمين، لكن الكتب الستة من فعلت وبالتحديد: كتب أئمة المذاهب الأربعة التي تشرح”السنة “(أبو حنيفة، مالك، الشافعي، الحنبلي) بالإضافة طبعا إلى المذهب الإباضي و رواة الحديث كالبخاري ومسلم.هؤلاء الرجال ولدوا من قرن ونصف إلى قرنين بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، و جاؤوا من عدة مقاطعات من العالم الإسلامي وضبطوا أصول الإيمان و الشريعة الإسلامية والتي هي ماضية إلى يومنا هذا، وجعلوا منها ثاني مرجع في التشريع بعد القرآن الكريم . لقد أسسوها استنادا على الأحاديث المنسوبة إلى النبي صل الله عليه وسلم، والتي كتبها البخاري ومسلم في كتبهما المعروفة تحت عنوان ” الصحيحين” .

كيف يمكننا أن نفسر أن النبي صل الله عليه وسلم نهى في حياته عن تدوين أقواله، وهذا النهي كان محترما خلال فترة الخلفاء الأربعة، بل ذهب الأمر بسيدنا عمر إلى إحراق مجموعة من الأحاديث المدونة، لكن وإثر إنتهاك هذا النهي بُنِيَ العلم البشري و شُكل الإسلام الحالي ؟

في بداية القرن الثاني للهجرة وخلال فترة الخلافة الوجيزة لعمر بن عبد العزيز، بدأت عملية جمع الأحاديث بطلب من أبوبكر ابن عمر ابن حزم الذي كلفه الخليفة الراشد بهذه المهمة، فكان أول تصنيف مهم للأحاديث هو ما جمعه الإمام مالك في” الموطأ” ويحتوي على  1942حديثا )حسب رواية الليثي) وظهر منتصف القرن الثاني للهجرة، كما جمع إبن حنبل في مسنده 40.000 حديث ( أي بنسبة 06% ) من أصل 700.000 حديث تم جمعه.ولم يظهر البخاري ومسلم إلاّ في القرن الثالث هجري.

احتفظ البخاري بـ 7593 حديث على مجموع 600.000 ( أي ما يعادل أكثر من 01% ) والمجمعة خلال 16 سنة من البحث استنادا على شرطين وهما : أن الراوي الأول للحديث يجب أن يكون معاصرا للذي نقل عنه ،وأن يكون فيما بينهما إتصال مباشر.

مسلم، من جهته، جمع في 15 سنة 300.000 حديث ولم يحتفظ إلا بـ 3033 حديث أي نفس النسبة المئوية التي توصل إليها البخاري، ولم يشترط إلا الشرط الأول الذي اشترطه البخاري لتثبيت صحة الحديث. يمكن القول بأن هشاشة المراجع وأغلبها شفوية بدون أن ننسى أن أكبر نسبة من الأحاديث المسماة ” بالصحيحة ” هي غير معقولة بل و منافية للقرآن الكريم وهي تعد إعتداء على كرامة النبي صل الله عليه وسلم، كتلك التي كان لها صلة بموضوع المرأة .

إن رجلا أميّا مثل أبو هريرة، لم يصاحب النبي إلا خلال الأربع سنوات التي سبقت وفاته، لكن تشكل رواياته لوحدها نسبة كبيرة من مجموع الأحاديث المروية عن طريق هؤلاء السلف، و لقد قال هو عن نفسه :”ما من أصحاب النبي ( ص ) أحد أكثر حديثا عنه مني إلا ما كان من عبد الله بن عمر، فإنه كان يكتب ولا أكتب“.وإثر الانقلاب الذي قام به معاوية ضد علي في عام 37 للهجرة، اختار أبو هريرة الأول أي معاوية و الذي كافئه بتعيينه واليا على المدينة، فانتقل منذ ذلك اليوم من حال كان يعيش فيها على الصدقة في زمن النبي إلى غنى و ثراء بقي عليه حتى وفاته. اختلفت معه السيدة عائشة  كثيرا، ووصل بالخليفة عمر إلى ضربه على تماديه في اختلاف الأحاديث.

من كبار رواة الأحاديث أيضا عبد الله ابن عباس، ابن العم الأصغر للنبي، تربى في كنفه، كما هو حال علي ابن أبي طالب، أنكر هذا الأخير عليه أمام الملأ حسب ما جاء به ابن كثير في تفسيره، حين لم يُصب في التفسير الذي قدمه لسورة “العاديات ” فناداه علي ووبخه بهذه الكلمات :” أتُفتي الناس بما لا علم لك به؟”

تجاهل رجال عاديين من المسلمين، سواء أكان ذلك عن حسن أو سوء نية، أمرا مهما صادرا عن النبي (أي تدوين الأحاديث) فانشؤوا “السنة النبوية ” بالإستناد إلى بعض  الآيات القرآنية  (الآيات المدنية التي تأمرهم بإتباع سيرة النبي) وجعلوا هذه الأحاديث في درجة واحدة من القداسة مع القرآن الكريم. ولكي لا يجرؤ أحد على أن يتمعن فيها عن قرب، فقد أطلقوا عليها اسم “الوحي الثاني”.

و لا يعتبر هذا التصرف مجرد مخالفة لأمر نبوي وحسب، بل هو شأن إلهي أٌغتصب من طرف بشر أعطوا لأنفسهم الحق بمواصلة الوحي رغم أنه انتهى في يوم عرفة في حجة الوداع التي حجها الرسول صل الله عليه وسلم أربعة أشهر قبل وفاته، وسوّلت لهم أنفسهم بالوصول إلى درجة الحكم على الآيات بناءا على تفسيرات خاطئة، وتصنيفها بين ما هو الناسخ من بينها وما هو المنسوخ.

الكارثة التي يمثلها العلم القديم أكبر خطورة مما نظن، ولنا عودة لهذا الموضوع. حاليا، يجب شد الإنتباه إلى أن المسلمين كانوا في بادئ الأمر معفيين من الرجوع إلى القرآن الكريم لطرح تساؤلاتهم، والتحقق من شيء ما بدون مرافقة “عالم دين”. لقد أنتزع هذا “العالم” لبنته ورحيقه، واستغل مادته، ولم يعد صالحا إلا للحفظ ولجمال ترتيله في الصلوات، وليس من أجل البحث عن الأجوبة وتحليل مكنوناته، والتساؤل حول تاريخه. لقد قيل كل شيء، وتثبت وجُمد الأمر نهائيا.

لم يعرف الإسلام عصره الذهبي إلا فترة قليلة قبيل أن يستوطن جهاز العلم القديم الثقيل في المؤسسات وفي الضمائر، قبل ظهور المذاهب الفقهية، وقبل أن يبتلع العلم البشري القرآن الرباني  و يحوله إلى عقيدة، إلى تعاليم تقليدية خانقة، مفضلا النقل على العقل، ليشجع بذلك التقليد على حساب التجديد والإبداع، و يقدم الحفظ ويمنع التفكير النقدي.

بدأ هذا العصر الذهبي مع إنشاء “بيت الحكمة “( مؤسسة للترجمة). في هذه المرحلة ظهر الخوارزمي ( المولود سنة 781 م)  الكندي (المولود سنة 805 م)، الإخوة بنو موسى (مواليد سنة 800)، ابن فرناس(المولود سنة810)، الرازي (المولود سنة 865 م)، الفرابي (المولود سنة 874 م) أبو القاسم  (المولود سنة 936 م)، أبو الوفاء (المولود سنة 940 م)، ابن الهيثم (المولود سنة 965 م)، البيروني (المولود سنة 973 م)، ابن سينا (المولود سنة 980 م ) …

كانت هذه الحركية العقلانية المتحررة التي ظهرت في أعقاب قوة الإلهام القرآني، لا تزال نشطة قبل أن يكبحها الاستبداد الذي ظهر في السياسة وقبل أن يضع الكفن على روح الإبداع الفكري. لم يظهر بعد شبح العلم القديم بين المسلمين والقرآن، و لا وساطة “رجال الدين” بين الله والمؤمنين ولم يمارس العلماء دور السلطان على الأنفس كما يمارسونه اليوم بشكل متناقض.

بدأ تأثيرهم يظهر أوّلا في الميدان الفلسفي منذ القرن السابع ميلادي في زمن ابن طفيل (المولود سنة 1100 م) وابن رشد (المولود سنة 1126 م) كما ظهر رجل مثل عمر الخيام (المولود سنة 1048 م). تواصلت الحركية العقلانية والعلمية مدة، حيث مكنت من ظهور الجزري (المولود سنة 1136 م) والرماح (المولود في بداية 1200 م) قبل أن يعكس العالم الإسلامي المنحنى التصاعدي هاويا إلى الانحطاط . كانت الطريق إذا معبدة إلى الانحطاط والاحتلال الأجنبي في ظل سيطرة الحكم الاستبدادي على الناس والدجل على العقول، ثم مباشرة للمجازر الإرهابية بدون تمييز بين عقيدة أو جنس أو سن.

بدأت خاصية النبي صل الله عليه وسلم والسمات المميزة لرسالته تُعمم شيئا فشيئا على أصحابه ثم في غياب أية معارضة إلى التابعين ثم في غياب أية رد فعل إلى تابعي التابعين، وصولا إلى علماء هذا العصر الذين لا يأبهون بأي شيء لأنهم مساندون وممولون من طرف الدولة التي هي بحاجة إلى مداهنتهم في تفسير القرآن و الأحاديث حسب أهواءهم، يوسعون ويضيقون ميدان العقيدة، ويستحوذون على حق التحريم أو الحكم بالإعدام على كل من يخالفهم.

لقد نصبوا أنفسهم أهل “العقد والحل”، وكسوا تفاسيرهم برداء القداسة، كما رفعوا أنفسهم إلى رتبة الألوهية مدعيين بأنهم أولياء الله، كما ادعوا بأنهم من سلالة النبي صلى الله عليه وسلم، وإنهم “ورثة الأنبياء”، وأغلقوا أبواب الاجتهاد، ومنعوا المتأخرين من المساس بأي كلمة، أو أي جملة مما أقروه.

في أيامنا هذه، يعبثون بدون حياء بسذاجة العامة، يخاطبونهم تارة بالترغيب، وتارة أخرى بالترهيب، ويركزون في خطبهم على عذاب يوم الآخرة، والخوف، والندم، والاضطهاد، ويرهقون الناس بالرعب باسم الله. أليس هذا استبدادٌ مبالغ فيه يصبح من المشروع التمرد ضده إذا أردنا إنقاذ الإسلام من “الجهل المقدس” و الإسلاموية والإرهاب؟ و نتج عن هذا الإنحراف إنحراف أكثر جنونية، حيث أقصى “فقهاء العامة” و دعاة الشارع و بلاتوهات التلفزة، والقادة الإرهابيين كما كان حال بن لادن بالأمس، والخليفة المدعي لـ”داعش” اليوم، العلماءَ “الرسميين” وأخرجوهم من الميدان.

رأينا بإيجاز أن الإسلام عرف تدمير قواعده “الديمقراطية” مع الانقلاب الذي حدث للخليفة علي من طرف معاوية، والذي سانده كثير من الصحابة، ومن بينهم أبو هريرة، وبعد ذلك انقسم إلى تيار سني وشيعي نتيجة لهذا الانقلاب، ثم انتصر الجهل على العلم ابتداءا من القرن الثاني عشر ميلادي، كل تاريخ الإسلام مع أسباب ارتقائه وأسباب انحطاطه  مختصرة في هذا الإيجاز.

لماذا أباح مسلمو القرون الثلاثة الأولى للهجرة كل شيء لأنفسهم (تغيير نظام ترتيب السور في القرآن وربما الآيات، الإعلان عن وجود  ”وحي ثاني”، وضع الأحاديث في مستوى واحد مع القرآن الكريم بل أحيانا في مرتبة أعلى (كما هو حال الرجم و زواج المتعة)، وإعداد قوانين شرعية… وليس مباحا لمسلمي القرون التالية و مسلمي اليوم أن يصححوا الوضع؟.

و الآن وقد تبين جلياً أن الخلاص ليس في الرجوع إلى” السلف” الذي كان سبب إفلاس الإسلام، لكن في الرجوع إلى القرآن وحده وإعادة قراءته بعيون الخلف المعاصرون، لا يوجد حل آخر غير الإسراع في فتح هذه الورشة لإعادة بناء الفكر الإسلامي. يجب أن تكون هناك أفكار ثورية وقاطعة من أجل رد الاعتبار للمسلمين ومصالحتهم مع الشعوب الأخرى والديانات الأخرى، و مع أنظمة القيم السارية في المجتمعات والتاريخ. وهكذا سيسهم حقيقة الإسلام في الحضارة الكونية والإنسانية والتي يتجه إليها الجنس البشري بما يتوافق مع مقاصد الخلق .

كان النبي يرجو أن يأتي في بداية كل قرن من يجدد للمسلمين دينهم، وكان يفكر في مصلح لكل قرن، لكن لم يظهر أحد في أربعة عشر قرنا لأن العلم القديم قرر غير ذلك، وقد أطيع قراره بدقة في حين لم يُطع النبي إلا فيما سمح به هذا العلم. كم كان عدد الأحاديث التي وجهت إنذارا للمسلمين من جهة  أو تلك التي قدمت الإسلام في أعلى صورة من أخرى، لكن تم وضعها في طي النسيان ؟

في يوم عرفة نزلت هذه الآية على النبي :”الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا “، و كان عمر بجانبه فبكى فرد النبي عليه بهذه الكلمات الغريبة أن ” الإِسْلام بَدَأَ غَرِيبًا،  وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا ” حيث ربما أراد أن يقول بأن الإسلام جاء للمرة الأولى جديدا أي غريبا عن العادات والأفكار السائدة في شبه الجزيرة العربية، ولن يعود إلا في قطيعة تامة مع أفكار وتصورات عرب اليوم، أو بعبارة أخرى يتأتى هذا بعد إصلاح ناجح. و إلا ستبقى أمة الإسلام في ذيل الترتيب بين الأمم المتقدمة والآمنة إلى نهاية العالم، والله أعلم !

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى