بين الفكر والسياسة

تغيير تصورنا لذواتنا:حقـائـق حـول الثقـافـة

بقلم نور الدين بوكروح

ترجمة عبد الحميد بن حسان

ظهر في ساحتنا السياسية حراك ديمقراطي منقطع النّظير منذ انعقاد المؤتمر الاستثنائي لحزب جبهة التحرير، إذ لم نشهد ما يُضاهي هذا الحراك إلاّ بمناسبات عارضة كتلك التي كان فيها الموعد مع الشعب في مناقشة الميثاق الوطنيّ. أمّا اليوم فقد أزيحت السُّتُر وراح الناس يُعبّرون عن آرائهم ويتحدّثون عن الحصيلة ويُطالبون بالمُحاسبة. إنّ السّياسة في المجلس الشعبي الوطنيّ، وكذا في اللجنة المركزية، وفي المناسبات الكبرى، لمْ تَعُدْ تعني “ذلك الفنّ المختص بكمّ الأفواه ومنع الناس من التّدخّل فيما لا يعنيهم”، على حدّ تعبير أحد المُفكرين الذي أفصح عن مرارة ذلك الواقع. فكلّ الملفّات الكبرى التي تعني المصير المشترك تمّ فتحُها، مثل: ملف المحروقات، والفلاحة، والتعريب، والصّحّة…

ووراء هذا التّوجّه إلى الديمقراطية المسؤولة عدّة أسباب مِن أهمّها روح الالتزام التي ظهر بها الرّئيس، وكذا أسلوبه الواقعيّ، وصدقه في مساعيه. لكن بإزاء هذا السّبب لا بدّ من الإشارة إلى سبب آخر هو بلوغ التّذمّر درجته القُصوى بإزاء الوضع المُتردّي في بعض القطاعات، مثل قطاع السّكن وتوزيعه. وفي مقابل هذه العوامل كلّها هناك قوى تعمل في الظلام من أجل تعفين الوضع بفرض ديمقراطوية (démocratisme) هي أبعد ما تكون عن الديمقراطية الحقيقية أو ممارستها، بل هي تشويه لها لأنّها تُحوّلها إلى ضربٍ من عقلية المُطالبة المستمرّة، ومن العقلية القبَليّة، والتنكّر لجميع القيَم، إلخ.

وهكذا، فبمناسبة النقاش الدائر حول الثقافة ارتفعت أصواتٌ بعضُها يُحاول إبعاد النقاش عن مساره بالتأكيد على إيقاظ الخصوصيات الجهويّة، وبعضها الآخر يُحاول التهوين من أهمية القضية باختزالها في عملية توزيع الكتاب على يد الشركة الوطنية للنشر والتوزيع SNED، وفي تسيير قاعات السينما، وفي القوانين المهنية، وفي اللوحات الفنّيّة والفولكلور، إلخ. ولا بُدّ من التّأكيد على أنّ الأمور اتّخذتْ مساراً خاطئاً منذ اللحظة التي بدأنا نتجاهل فيها أنّ الثقافة ليست من الشؤون الهيّنة، بل هي بداية البدايات وغاية الغايات في كلّ وجوه السّياسة العامّة، وفي كلّ الأنشطة اليدوية والفكريّة، وأنها مصدر حياة كلّ ذلك، وهي أمّ كلّ الأمّهات، وبها تكتسي الأشياء معنى أو تتجرد من كلّ معنى.

ولقد تمّ الترويج لمفهوم الثقافة مُمَوَّهةً في صورة قطاعٍ لمْ يَحْظَ في الماضي بالميزانية المُريحة، وما يجري الآن هو محاولة استدراك هذا النقص بأسرع ما يمكن. أيّها السّادة: لكُمْ أنْ تَسُنّوا ما شئتم من القوانين لصالح مَنْ كانوا خارج الإطار، ولكم أن تُشيّدوا للثقافة دُوراً كثيرة، وقاعات السينما والمكتبات والمتاحف، ولكُم أنْ تُعفوا صُنّاع الغيطاتوالزُّرناتوالبنادير من الأعباء الجبائية، ولكم كذلك أن تُوفّروا السكن والنقل وتتيحوا لرجال الثقافة مجال النضال النقابي… لكنْ، رجاءً، لا تُحاولوا أن توهِمونا أنّ مشكلة الثقافة في بلادنا تتمثل في كلّ ذلك، وأنّ حلّها يكون بمجرّد الاستجابة للمطالب الاجتماعية والمهنية (كما يحلو للبعض أن يقول). إنّ في هذا التفكير تبسيطاً زائداً عن اللُّزوم لأنه يختزل الثقافة في المال والاعتبارات البيروقراطية. المسألة أعقد مِن ذلك، فلنكُنْ جادّين في مُعالجتها.

صحيحٌ أنْ هناك أشياء كثيرة تنقصنا، مثل وسائل الترفيه. فعُطَلُنا الأسبوعية أصبحت مُمِلّةً ومُستثقلة. لكن هناك ما هو أهمّ وأخطر من العُطل الأسبوعية. فقبل تلك العُطل أسابيع بكاملها يشوبُها القلق والحياة المُرّة. والمنطق يقتضي أنه قبل التفكير في كيفية ملءِ فراغنا بالترفيه يجب التفكير في حسن أداء أنشطتنا الأساسية. وقبل التفكير في وسائل الترفيه من الأجدر أنْ تُفكّروا في طريقة إحداث تحوّلٍ جذريّ في حياتنا كي نُصبح أكثر جديّةً وأكثر إنتاجيةً وأكثر وعياً، كي نكون مُفيدين: لأنفسنا أوّلا، لوطننا وللإنسانية. وتلك هي الثقافة.

إنّ هذه المسألة لا تُعالَجُ بتحسين مستوى وسائل ترفيهنا، بل بإعطاء معنى ومحتوى لمشاغلنا الحيوية. إنها لا تُعالجُ بالسّهرات وبتنظيم العطل الأسبوعية، وبالرقص وهزّ الطرابيش، بل بتحديد الحكمة من وجودنا على سطح الأرض في كل لحظة من لحظات حياتنا، وفي كل سلوكاتنا في أماكن العمل أو في الشارع، وفي الخُلُقِ الاجتماعي، وفي علاقة الفرد بنُظَرَائِهِ وبالطبيعة المُحيطة به. والمشكلة الحقيقية، والمسألة الجوهرية هي تَحوّلنا مِنْ “مُجمّعٍ للأمراض” ـ وهي حالنا في الحاضر ـ إلى “نواة تشعّ بالحياة” في المستقبل. وإنْ لم نُحقّق ذلك فسيُحكمُ علينا بالخروج من صفحات التاريخ خائبين. فرجاءً يا سادتي، كفانا تضليلاً !

من البديهيّ أنّ البنية الذهنية لا تتشكّل بمشاهدة المسرح أو أفلام السينما، ولا بالاستماع إلى الشيخة الريميتي أو الشيخ العفريت، ولا بمَشَاهِدِ “الفيران” أو قريقش، بل تتشكل في الكوخ أو الحي الذي نولد فيه، وفي الشارع الذي نخطو فيه خطواتنا الأولى، وفي القطار الذي نمتطيه لأوّل مرّة، وفي مشاهد التردّي الثقافي الذي يطبع حياتنا الاجتماعية الحاضرة. إنّ” الفراغ الثقافي” الذي تَكَلّمْنا عنه كثيراً لا يعني أنّ هذا الفراغ محصور في مجال الثقافة، وأنّ القطاعات الأخرى تسير على ما يُرام. إنّ الفراغ الثقافي يعني التّردّي في كلّ مجال: في المصنع وفي المكتب، وفي الحقل وفي المستشفى، وفي علاقات الجوار، على علوّ 8000 م على متن طائرة للخطوط الجوّيّة الداخليّة. إنّه الفراغ الوجوديّ، وهو التّأخّر الماديّ والمعنويّ معاً، وهو صعوبة التعايش الحقيقي. وإذا كان علينا أن نبحث عن هذا الفراغ فلنسأل أنفسنا، لأنه قابعٌ فيها، وليس في نقص الوسائل. إنه في أفكارنا وعاداتنا وتقاليدنا المنافية لحياة العمران. أمّا الباقي فليس بالأمر الذي يدعو إلى الانشغال لأنه قابل للإصلاح.

إنّ الثقافة، قبل كونها مسألة تأمين للشغل أو ضبط إداري، وقبل كونها “سماداً للعقل” أو “ما يتبقى بعد أنْ ننسى كلَّ شيءٍ” ـ وتلك هي حالنا بالضبط ـ قبل ذلك كلّه، فالثقافة هي مشكلة حياتنا بجميع أبعادها ومُقتضياتها في جميع الأعمار وبغضّ النظر عن جنسنا ومرتبتنا الاجتماعية، بل وبِغضّ النظر حتى عن أهوائنا. لا داعي لمُغالطة النفس، إذ لا يكفينا تطبيق “سياسة ثقافية” للخروج من حالة اللاّثقافة العمياء التي نتخبط فيها. فأشياء كثيرة ما زالت تنتظرنا… علينا أوّلاً بإيجاد تلك “اللّحمة الاجتماعية” التي نفتقدها، ثُمّ لا بُدّ مِنْ أخلاقيات جماعية تُقوّي “جوهرنا”، وأخيراً لا بُدّ من امتطاء قطار التطوّر قبل فوات الأوان. وتلك هي الشروط التي بدونها لا يمكن لنا أنْ نزعم أنّنا مجتمع حقيقةً، وأنّنا شعبٌ عظيم.

ومع كلّ احترامي لأولئك الذين يَحْيَوْنَ من أجل الثقافة (على عكس الذين يعيشون من تطفّلهم على الثقافة)، أولئك المُخلصين الذين يتعرّضون لأبشع صور الإهانة بسبب نظرتهم الشاملة للتّطوّر، فإني لا أظنّ أنّ بلادنا ستكون لها ثقافتها المُميّزة إذا ما لم نُبادر بفعل ما يجب فعله في الوقت المناسب، وقبل فوات الأوان. وللتّذكير، فإنّ ليوناردو دافنشي ومحمد راسم لمْ ينْتَظِرا حتى يستفيدا من “قانون خاص بالمُبدع” كي يشرعا في إنجاز إبداعاتهما التي سحرا بها الجمهور. ولم يحصل أنْ طَالب ابن سينا أو دوستويفسكي بمسكن أو منحة أو حقوق المؤلف، أو حق الإطعام، حتى يخرُجا إلى العالم بأسمى صور التفكير. فلمْ يكُن أيٌّ من هؤلاء الأعلام، ومعهم بوعلام تيتيش وبوبقرة، حصيلةَ غلاف ماليّ مُخصّص للثقافة.

 

جريدة المجاهد، 12 أفريل 1981

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى