بين الفكر والسياسة

 تغيير نظرتنا لسبب الوجود

بقلم: نور الدين بوكروح

ترجمة: عبد الحميد بن حسان

يقول تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (المؤمنون115)

” لقد أصبحت قدرات الإنسان سند قوى للطبيعة” (جورج دي بوفون Buffon)

إنَّ مسألة الحكمة من وجود الإنسان على الأرض قديمة قِدَمَ العالَم، لكنَّ الإجابة عنها بشكل كافٍ لم تأتِ لا من العلم ولا من الدِّين، وهذا هو السبب في أنّ هذه المسألة تعود لتطفُوَ فوق السطح وتفرض نفسها كموضوع أساسيّ للنقاش. وتفاديا للدوران في حلقة مفرغة ومغبّة الخلاف التّافِه حول أسبقية الدجاجة أو البيضة، فَسَنَعْمَدُ إلى قلب المسألة لعلّنا نصل إلى رؤية أوضح، وذلك بطرح هذا التساؤل: لو أنّ الإنسان لم يوجد إطلاقا، فماذا ستكون حال أطراف الوجود الأخرى، أي: الله، الأرض، مملكة المعادن، المملكة الحيوانية والمملكة النباتية؟ هل ستكون هذه الأطراف موجودة؟ هل سيكون لوجودها معنى؟ ومن سيكون شاهداً على ذلك؟

إنَّ فهم الحكمة من وجود الإنسان يعني فهم الحِكَمِ التي أرادَهَا الخالق ـ حسب عقيدتنا ـ أو أرادَتهَا الصدفة، حسب أنصار نظرية التطوّر. فبدون الإنسان تفقد نظرية الانتقاء الطبيعيّ« sélection naturelle»  كلّ معنى، بدليل أنه منذ الإنقسام الأول الذي حدث على مستوى البكتيريا أحادية الخلية، لم يظهر أيّ شكل من الذكاء كبديل عن ذكاء الإنسان… ويعود هذا إلى ثلاثة ملايير ونصف من السنين. فالإنسان يبقى الحامل الوحيد و المنتج الوحيد للذكاء.

تُرى، لماذا خلق الله الكون ليؤول في النهاية إلى الدمار؟ أيكون قد فعل هذا لحاجات خاصة بالإنسان كما ينصّ عليه القرآن الكريم في قوله تعالى: “أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ۗ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ  ” (لقمان الترتيب الزمني57، الترتيب الحالي31، الآية 20) وقوله أيضا: “وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ ۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ  “( إبراهيم الترتيب الزمني 72، الترتيب الحالي 14، الآية33). وهل في الكون أشكال أخرى للحياة المنضوية تحت العقل تكون الحكمة الإلهية قد أدخلتها في الحسبان يوم خُلِقَ الكون، ونحن نجهل ذلك لحدّ الآن؟ ألا تكون أشكال الحياة تلك هي المشار إليها في قوله تعالى:” يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ ۖ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ” (إبراهيم، الآية 48).أو قوله أيضا: “أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ۚ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ  “(إبراهيم. الآية 19).

إنَّ الجنس البشريَّ سيرحل لا محالة من هذه الأرض… متى؟ وكيف سيجري ذلك؟ تلك هي المسألة التي لا يعلمها أحد، على كثرة التخريجات حول هذا الموعد. إنّ الخَلَفَ الذي سيأتي بعدنا سيرحل عن الأرض لأحد هذه الأسباب: فإمّا أنَّ الساعة قد حلّت وآن أوانها، وإمّا بسبب حدثٍ ما لا حيلة لهم بإزائه ( كاصطدام أحد النيازك بكوكبنا، أو وباء فيروسي واسع الانتشار، أو حادث نووي كبير، أو كارثة بيئية، أو – على المدى البعيد ـ بسبب انتهاء عمر الشمس، وإمّا بمحض إرادته –أي هذا الخلف- إذا تمكن من صنع وركوب مركبات فضائية تسير بسرعة قريبة من سرعة الضوء عبر “ثقوب الدود Trous de ver”، باتجاه أحد الكواكب الأخرى حيث  قد يجد لنفسه مقرًّا.

لكنْ، وقبل الإهتمام بمستقبل الإنسان بعد المرحلة الأرضية – وليست الآخرة هي المقصودة هنا – قبل ذلك، لننظرْ في كيفية وأسباب وجوده على الأرض. إنّ وجهة نظر العلم والدين متقاربتان جدّاً في أنّ أصول الإنسان من خارج الأرض، فهناك نظريات ( خاصة منها المسماة بانسبيرميا panspermie ) ترى أنّ  العناصر الكيمائية التي تشكل منها الإنسان أتت إلى الأرض من أغوار الكون محمولا على ظهر أحد النيازك. أمّا الدّيانات الموحدة فهي متفقة على أنه نزل من جنة السماوات (دون تحديد الوسيلة) لأنّ الله تعالى نفاه من الجنة بعد ارتكابه لحماقة، والتوراة تتحدث عن أنه سرق تفاحة، أمّا القرآن الكريم فينصّ على أن الإنسان ارتكب خطأ مخالفة الأمر و أكل من شجرة الخلد. وبعد الحكم على الإنسان بالإقامة الجبرية على الأرض، جاء هابيل وقابيل كخلف لأبيهما آدم وأمهما حواء. ولأسباب غير واضحة قام الأول بقتل الثاني. بقي هابيل بمفرده، وبعده عمرت الأرض بالبشر بكيفية نجهلها وبطرق لا علم لنا بها. ومن المُسَلَّمِ به أنّ الله تعالى كائن غير أرضيّ، فالكون كله من صنعه وإبداعه.

إنّ في القرآن عدّة طروحات لتفسير الحكمة من وجود الإنسان، ومن بينها تلك التي يُجْمِعُ العلماء على إعطائها حق الصَّدارة ويندهشون، بل ويغتاظون إذا ما اكتشفوا أنك تجهلها… إنَّها تلك الحكمة التي جاءت مُتَضَمَّنَةً في قوله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ  “(الذاريات: الترتيب الزمني 67، الترتيب الحالي 51، الآية 56). تُرَى، فما الحاجة إذاً إلى خلق السموات والأرض إذَا كان الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي سيسكنها؟ وما حاجة الله إلى هذا المخلوق الهيِّن الذي يكفي جرثوم بسيط للقضاء عليه، مخلوق لا ثبات في أفكاره ومواقفه، والنفاق ديدنُهُ وطبعُهُ؟. أليس الله تعالى هو القائل:” وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ  “(العنكبوت الترتيب الزمني 85، الترتيب الحالي 29، الآية 6)؟ بلى،  وهو القائل أيضا: ” يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) ِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) ” (فاطر: الترتيب الزمني 43، الترتيب الحالي 35، الآية 16،15). ويقول أيضا: “تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۗ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (الإسراء: الترتيب الزمني 50، الترتيب الحالي 17، الآية 44).

إنّ الاعتقاد بأنَّ عبادةِ اللهِ هي الحكمةُ الوحيدةُ لوجود الإنسان لم يكن ليفرض أيَّ تساؤلٍ لو أنَّ الأرض هي الكوكب الوحيد في هذا الكون، وأن الشاهديْن الوحيدين المتقابلين هما: الإنسان والأرض. لكنْ… هناك البقية، هناك هذا الكون باتِّساعه المُطَّرِدِ والذي لا تمثِّل الأرض أمامه إلاّ جزءًا من ملايير الملايير من الأجزاء الأخرى. فلا توجد كلمة ولا مقياس ولا صورة لاستيفاء المقارنة التي من شأنها أن تُبْرِزَ تفاهة الأرض، بل انعدام معناها قياسا بالكون. إنَّها كالذّرة السابحة في سديمٍ ينمو باستمرار، أو كحبَّة الرمل في صحراء بِسِعة مجرَّتنا، أو كقطرة ماء في بحار العالم ومحيطاته. إذا كان الله – على حدّ تعبير أنشتاين – لا يلعب بالنّرْد، فإنَّه ليس بالمُسرف، وهو ما كان يخشاه جيوردانو برونو Giordano Bruno . إنَّ قوله تعالى:” وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ۚ ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ” ( ص، الآية27) يؤكّد ذلك. ألا يكون المقصود من ذلك أن هذا السديم الزمكاني غير المحدود ضروريّ لانْبِجَاسِ الحياة وتطورها على كوكب الأرض؟ ألا يمكن أن يكون هذا السديم المتمرد على المقاييس بمثابة “عمق استراتيجي” تحسُّباً للَّحظة التي سيستحيل فيها على الإنسان أن يعيش على الأرض أو في هذا النظام الشمسي؟ إنّ كلَّ هذا يُذكِّرُنا بهذه الحكمة الإفريقية “لا بدَّ من توفُّر قرية كاملة لتربية طفل واحد” والتي اقتبستها هيلاري كلينتون عنوانا لأحد كتبها.

وإذا قمنا بعملية إسقاط على حال الإنسان أَمْكَنَنَا أن نفهم الدوافع التي تدفع بالخالق إلى الخلق. فالإنسان يُبْدِعُ مثلاً من أجل الحفاظ على حياته (في مجالات الزراعة أو الصناعة الفلاحية الغذائية)، أو من أجل توفير المأوى ( في مجال البناء وتشييد المدن)، أو من أجل علاج الأمراض (في مجال الطب والصيدلة)، أو من أجل الدفاع عن النفس ( بالصناعة الحربية )، أو من أجل تحسين معارفه (بالتعليم و البحوث الأساسية)، أو من أجل المتعة ( في الفنون والسينما والثقافة، والتلفاز)، أو من أجل راحته ( وسائل النقل السريعة)، أو من أجل التواصل ( بوسائل الإعلام، والإنترنيت، والأقمار الصناعية وتكنولوجيات الإعلام الآلي الحديثة). لكنْ، أيمكننا أن نتصوّره وهو يُبْدِعُ أجامدة أو كيانات ذات ذكاء (كالإنسان الآلي، و الماكنات ذات التشغيل الآلي، والاختراعات المصغّرة miniaturisation) ، أيمكن أن يٌبْدعَ كلَّ هذا لغاية وحيدة وهي أن تعبده هذه الأشياء التي ابتدعها ؟   فإذا كانت هذه الاختراعات رهن إرادة صانعها، وإذا كان قد حدد لها دورها وعملها مسبقا، فما حاجته إلى أن تعبده وتسجد له و تسبح بذكره وتخشاه طيلة حياتها المبرمجة ؟

 لقد تمكّن الإنسان من إخضاع مملكة المعادن والنبات والحيوان، وشيّد حضاراتٍ وحضاراتٍ، واستغلّ مصادر الطاقة الطبيعية وقام بإيجاد مصادر أخرى، وطوّر مصادر التنمية الاقتصادية بفضل اختراعاته، واعتنى برفع مستواه العلميّ، وقهر عدّة أمراض وأوبئة، وأعدّ التكنولوجيا التي من شأنها أن توصله إلى الفضاء البعيد… إنّه بهذا كلّه على خطى خالقه وعلى هديه، وهو في تمام الوعي بأنه كلّما ازداد تطوره التكنولوجي ارتفع درجةً في صعوده البطيء باتجاه قِمَمِ بدائع خلق الله… وهو الذي بقي ملايين السنين رازحاً تحت نير تلك البدائع في حالة عجز تامّ وشقاء دائم. إنّه يعي الآن أنّه قد انطلق في مسيرة إعادة الصيرورة الخلاّقة التي أبدع بها الخالقُ الكونَ، وهو ينوي أن يواصل مسيرته حتى خارج مجال كوكب الأرض.

لقد خلق الله الكون منذ حوالى 14 مليار سنة، أي قبل خلق الأرض التي عمرها حوالى 4 ملايير سنة بزمن بعيد، وقبل خلق الإنسان الذي لم يصِرْ من صانعي التاريخ إلاّ منذ العصور القديمة، أي منذ بعض العشرات من القرون فقط. فماذا تمثّل هذه الفترة الزمنية القصيرة قياسا بعمر الأرض وبمتوسط عمر النظام الشمسي الذي قُدِّرَ بـ 4 أو 5 ملايير سنة ؟ إنّ الإنسان وُجِدَ على الأرض منذ مئات الآلاف من السنين، لكنه حديث العهد بالخلق والإبداع والتكنولوجيا… أي منذ بعض العشريات من عمر الزمان فقط. فماذا تمثل هذه العشريات القليلة قياسا بملايير السنين الماضية والقادمة ؟ وماذا عسى الإنسان أن يفعل في المستقبل ؟

يعني هذا أنَّه ينبغي الاعتراف بظهور مُبْدعٍ آخر في الكون منذ زمن قريب، وهو بالطبع أصغر بكثير من الخالق الأول، لكنه شرع في خلق الحياة (الولادات الاصطناعية naissance in vitro و الإستنساخ  clonage)، وقد أُتيح لهذا الخالق الجديد من القدرات ما يشبه إلى حد ما قدرات الله سبحانه، في حدود ضيّقة جدّاً (مثل القدرة على إتاحة فرص تمديد الحياة، واسترجاع البصر والسمع، واستبدال أعضاء طبيعية بأخرى اصطناعية  كالجوارح والأسنان والقلب والكبد والجلد، والتمكّن من السير على سطح القمر، وإرسال مجسَّات إلى فضاءات تبعد بملايير الكيلومترات عن قواعده). صحيح أنّه لا يخلق “كلّ شيء من الماء” مثل الله سبحانه، لكنه يفعل ذلك انطلاقا من موادّ مِنْ صنعه هو. فبفضل التطوّر العلميّ وتطبيقاته صارالإنسان مُبْدعاً بالمعنى الحقيقي والمعنى المجازيّ.

لو أنَّ الأشياء والأنظمة المزوّدة بالذكاء الإصطناعي، والتي ما فتىء الإنسان يطوِّرُها ويُحسِّنُها ( كالأنظمة الآلية، والآليات الإلكترونية، والأعضاء الاصطناعية… )، لو أنّها كانت تتمتّع بمَلَكَةِ التفكير والتساؤل، فإنَّ الإنسان سيبدو لها في المقام الذي يبدو الله سبحانه فيه للخلق. فهو سيحتلّ عند تلك المخترعات مرتبة الملك ذي القدرة غير المحدودة، والكائن الأعلى الذي يهب الحياة ويُذيقُ الموت، والقاضي الذي يحكم على أفعالهم (من حيث الأداء والفاعلية و المردودية)، وهو الذي يُعاقبهم بأن يرميهم في حظيرة التَّلف (بالموت) أو بأن يعيد صنعهم من جديد  recyclage (بالبعث والنشور).

تُرَى، ما العلّة من أنّ الله سبحانه عَمَدَ إلى إعداد مشروع بناء هذا الكون بأبعاده المُذْهِلَةِ حقاًّ، ثُمَّ أسْكَنَ فيه البشريّة بعددها التَّافه ومَنَحَهَا عمراً قصيراً، وغَرَسَ فيها ضربا من الجموح تتميَّز به عن الكائنات الأخرى ؟ ألَيْسَ الأحرى للخالق إذا أراد أنْ يَسُدَّ على مخلوقاته أبواب التطاول عليه أو التراخي في عبادته أو حتى الإرتداد عنه، أليس الأحرى أن يمتنع عن خلق مصدر الجنحة والجريمة ؟ … أو على الأقلّ أنْ يفعلَ ما فعَلَ الإنسان نفسه، أيْ أنْ يُزوِّدَ مخلوقاته بنصيب من الذكاء لكن دون منحها حرِّيةَ فعل الخير أو الشَّر سِراًّ، وبتعبير آخر: برمجة تلك المخلوقات لتكون خادمةً دون أن تستطيع مخالفة إرادته. لكن الإنسان هو ذاته الذي اغتال إخوانه بدءاً بقابيل، كما قتل مئات الملايين من بني جلدته في الحروب التي خاضها في كل حقب التاريخ، واعتدى على المملكتين النباتية والحيوانية، وأعدّ العُدَّة لتلويث الأرض في انتظار تدميرها. والمؤكّد أنَّ الإنسان سيخترع مزيدا من الآليات الإلكترونية، وأنظمة التحكّم عن بُعْد، والبرمجيات، وألوان الذكاء الاصطناعيّ، لكنّه سيتفادى تزويد اختراعاته بحرّية التصرّف وحرية الإختيار بين تنفيذ أوامره أو عصيانها ومعارضة مشاريعه. وقد نبّهَ عالِمُ الفيزياء الفلكية الشهير ستيفن هاوكين Stephen Hawking إلى ما يشبه هذا المنزلق عندما أشار إلى أنّ الذكاء الاصطناعيّ يمكن أن ينقلب على الجنس البشريّ ويُدمِّرَه “.

غيرَ أنّ الله تعالى لم يخلقنا على صورة الإنسان الآلي الذي نصنعه نحن لخدمتنا. إنَّه تعالى لم يخلقنا لنفسه بل خَلَقَنَا لأنفسنا، خَلَقَنَا ليُعْطِيَنَا سلطانا على ظهر البسيطة وعلى الكون كذلك، لأنّ الإنسان إذا تمّ له سَبْرُ أغوار كوكبه واستغلالُه على أتمّ وجه سيبدأ بالبحث بعيدا… سيبحث عن مكان لائق لمقامه، سيبحث عن مصادر جديدة للطاقة، وعن معادن ومواد أولية لإشباع طبعه الجَموح إلى الإبداع وللاستجابة لمشاريع سَفَرِهِ عَبْرَ الأجرام والمجموعات الشمسية. و نخلُصُ من هذا كُلِّه إلى أنه لا وجود للتضارب بين حكمة الله في الخليقة وبين رسالة الإنسان في الكون.

إنَّ الله تعالى كان تحت تصرّفه شعبٌ، جيوش من الملائكة، وهي كيانات طاقوية مصنوعة من نور، كما أنها كائنات غير بيولوجية خُلِقَتْ “من نار بلا دخان” وتتميّز بأنها لا تتغذَّى ولا تتكاثر ولا تفعل إلاَّ ما تؤمر به. وعندما قرّر أنْ يخلق الإنسانَ ارتأى أنْ يُخْبِرَ الملائكة بذلك، فَنَجَمَت عن ذلك محاورة أدَّتْ إلى قيام “فتنة”.

إنَّ هذه المحاورة ذكِرَتْ لأوّل مرّة في سورة (ص) إذا وضعنا هذه السورة في ترتيبها الزمني (38)، علماً بأنَّ المحاورة تكررت في عدّة سور. وقد أوحت السورة للمفكر الألماني غوته Goethe ذلك الحوار الافتتاحي Prologue الذي افتتح به مسرحية “فاوست”(Faust). يقول تعالى: إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ۖ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ ۖ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَىٰ يَوْمِ الدِّينِ  (78) ” (ص. الآيات 71-78).

لا بُدَّ من التأكيد هنا على أنّ الأمر يتعلّق في هذا المقام بالطبيعة التي خُلِقَ بها الإنسان. إنّه الطين الذي سينفخ فيه الله من روحه، ويتعلّق بأفضلية الإنسان على الملائكة… لكن لا شيء عن ميوله ونوازعه إلى حدّ الآن. فكلّ الإضاءات التي قُدِّمتْ إلى هذا الحدّ تندرج في إطار الجانب البيولوجي والجنيني. يقول تعالى: خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ ۚ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ ” (الزمر، الترتيب الزمني 59، الترتيب الحالي 39 ، الآية6). ويقول أيضا: ” وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ” ( نوح: الترتيب الزمني 71، الترتيب الحالي 71، الآية14 ) ويقول أيضا: نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61)” (الواقعة: الترتيب الزمني 46، الترتيب الحالي 56، الآيتان60-61). …….. أليس في هذا إشارات إلى نظرية التّطوُّر؟

و يقول أيضا:” ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ”(المؤمنون : الترتيب الزمني 74، الترتيب الحالي 23 ، الآية 14). و يقول أيضا:” وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا ۗ وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا ” (الفرقان : الترتيب الزمني 42، الترتيب الحالي 25- الآية 54). و يقول أيضا:”  يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ ۚ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ۖ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ۚ …” (الحج، الترتيب الزمني 103، الترتيب الحالي 22، الآية 5).

ولنا أن نسجّل في هذا المستوى من البحث نقطةً أخرى أساسية في فكرة إصلاح تصورنا للوجود: إنّه ذلك النقاش الذي دار بين الله سبحانه وأحد مخلوقاته والذي لم ينتهِ بالإعدام أو باضطهاد القويّ للضّعيف أو بالمواجهة من مُنطلق التَّسلُّط، لكنه انتهى بتسوية أو بـ”إتفاق”. يقول تعالى: قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ (80) إِلَىٰ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) ” (ص. الآيات 79-85).

وقد استوحى غوته (Goethe) في مقدمته من الآياتِ السابقةِ أحاديثَ مَنْظومةً نسبها إلى الله سبحانه، يقول فيها: “أبْعِدْ هذه الروح عن مورده الأول، لكنك إنْ خسِرْتَ خسِئْتَ إذا رأيْتَ بأمِّ عينك أنَّ هذا المخلوق الفاني الماضي في سبيله وسط الدهماء يستطيع أنْ يرى الطَّريق المستقيمَ. اِمْضِ في سبيلك يا بُنيَّ، أدِّ مهمتك، فإنّك أقلُّ الشياطين كُرْهاً عندي. إنَّ نشاط الإنسان قد يعتريه الخَوَرُ، وأنا بحاجة إلى لمساتك لشحذ هِمَّتِهِ“.و بالفعل، فإنّ الله تعالى لم يمنعْ معارضة قضائه لمَّا قرَّرَ خلق الإنسان وطالب الملائكة بالاعتراف بهذا الإنسان كمخلوق أعلى منهم رتبةً، لكنّه قَبِلَ بموقف الشيطان لمّا تحدّاه بإغواء الإنسان. ها نحنُ أولاءِ نرى أنَّ الله تعالى قد كرّس مبدأ “الديمقراطية” منذ بدء الخليقة، وقبِلَ بالاختلاف في الرّأي كنُكهةٍ مميِّزة في الخلق وفي الطبيعة ومسيرة التاريخ ( وقد سبق لي أن عبّرْتُ عن هذه الملاحظة في حصّة متلفزة سنة 1990، وسَعِدْتُ لمَّا لاحظْتُ أنَّ بعض الزعماء الإسلاميين وظَّفوها لأغراضهم… دون أن يشيروا إلى صاحبها بالطَّبع). وفي عبارة أدقَّ: إنَّ مبدأَ الجدلية ومبدأ اختلاف الآراء وضْعٌ ضروريّ لحركة الكون وللخلق والتطوّرِ.

وفيما يشبه التمهيد نجد في سورة البلد ( الترتيب الزمني 35، الترتيب الحالي 90) في إحدى معاني الآية الرابعة منها توصيفا لوظيفة الإنسان الاجتماعية في بداية الدعوة الإسلامية، يقول تعالى: ” لقد خلقنا الإنسان في كَبَدِ”.فما هي هذه المكابدة المُلازمة للإنسان؟ أهي الجهاد ؟ إنَّ الجهاد لم يُذْكَرْ في القرآن الكريم إلاَّ بعد سنوات عديدة من نزول هذه الآية – أي ابتداءً من السورة 87 بالترتيب الزمني وابتداءً من هجرة الرسول (ص) إلى المدينة المنوّرة سنة 622 م. ويجيبنا القرآن الكريم عن هذا التساؤل فوراً: إنًّ هذه المكابدة تتمثَّل في بذل المجهود من أجل التسامي والتعالي على التقاليد السائدة آنذاك، إذ كانت الوثنية ضاربة أطنابها. لقد أوكِل إلى النبيّ (ص) وأصحابه الأولين أن يخوضوا معركة ( تحرير الرقاب، إطعام اليتيم أو المسكين، الإيمان والثبات على ذلك، التواصي بالصبر والكرم) الآيات 13-17. وبعبارة أخرى: المعركة هي معركة تغيير الوضع الاجتماعي الجائر بشكل تدريجيّ.

و يستمرّ سرد وقائع خلق الإنسان في السورة التي تتلو سورة “ص” بالترتيب الزمني، أي في سورة الأعراف الواقعة في المرتبة 39 (حسب الترتيب الزمني دائما )، وهي في المرتبة 7 بالترتيب المعمول به منذ أربعة عشر قرنًا. إنَّنا نلاحظ هنا أهمية الترتيب الزمني الذي دعونا إليه في مقال سابق. يقول تعالى: وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ ۚ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ ۖ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ (22) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25) “.

لكنّ الله سيكون كريما رحيما إذ يقول سبحانه: فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ ۚ وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ ( 121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ (122) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ(123) ” (طه: الترتيب الزمني 45، الترتيب الحالي 20). إنّ آدم وزوجته سيقعان في الخطيئة مِنْ جديد، وفي هذا يقول الحقّ:” هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ۖ فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ ۖ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189)  فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا ۚ فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) ” (الأعراف).

وفي هذه السورة تفصيلٌ لكيفية خلق آدم وزوجه، ثُمَّ عودةٌ إلى المواجهة بين صاحب الجلالة والشيطان، ثُمَّ سردٌ لنفي آدم من الجنَّة. إنَّنا هنا لا زلنا في عرض أسباب الخلق وتسلسل الأحداث التاريخية من زاوية نظر القرآن الكريم. والملاحظ أنّ آدم وحواء لم يكونا على علم بأنهما عاريان أثناء مقامهما في الجنة، وقد يعني ذلك أيضًا أنَّهما كانا يجهلان كلَّ شيء عن وظيفة التكاثر. وكان لا بُدَّ أنْ يبقيا على جهلهما ذلك كي لا يُحْدِثا اضطرابا في الوضع الملائكيِّ  الذي كان سائدا في الجنّة، فَهُمَا الوحيدان اللَّذان لمْ يُخْلَقَا من نور. كانت حياتهما في الجنّة حياةً ملائكيةً، وسيكون عليهما أنْ ينتقلا، وبصعوبة كبيرة، إلى حياة أخرى: الحياة الإنسانية.

وفي خضمِّ قصَّة آدم وحواء تتبادر إلى الذهن عدَّة أسئلة: ألم يكن أبو البشرية وزوجه من الخالدين وهما في الجنة؟ ألم يكن قضاء الله سبحانه بخلق الإنسانية في الأرض بعد أنْ فرِغَ من خلق الأرض وبقية الكون ؟ إذا كان الأمر كذلك، فلأية غاية خلقهما- أي الأرض والكون- ما دام الإنسان يميل إلى البقاء في الجنة ؟ أمْ أنَّ السماوات والأرض ليستا إلاَّ أمكنة للملعونين والمنبوذين، شأنها شأن تلك السجون التي ابتدعها الإنسان ليحشر فيها المجرمين ؟ وهل خلق الله سبحانه آدم وحواء مانعا إياهما من إمكانية إنجاب خلف لهما لا يمكن له أنْ يقيم في الجنة لأنّه من نتاج لحمٍ آدميٍّ ؟

لكنْ، بعد كلّ هذا يخاطب الله سبحانه سلالة آدم ليخبرها بأنه سيرسل إليها “قدوة”. يقول تعالى: يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي ۙ فَمَنِ اتَّقَىٰ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36) (الأعراف). لماذا أرسل الله رُسُلَهُ ؟ كي يعود الإنسان إلى أصوله الروحية بعد أن أمضى ردحا من الدهر في الأرض عقابا له. ويبدو أنّ هذا صحيح لأنَّ الله تعالى وَعَدَ ذرّيّة آدم بدخول الجنة، مُنْطَلَقِهَا الأولِ، إنْ آمَنَتْ بالله وعملت عملا صالحا.

وبعدُ، فما هي الحكمة من وجود الإنسان، والتي ميّزه بها الله فوق هذه الأرض؟ إنّ أول سورة وردت فيها عبارة “خليفة في الأرض” هي سورة “ص” إذا اتبعنا الترتيب الزمني. يقول تعالى: يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ” (ص، الآية26 ). و جاء قوله تعالى في سورة الأعراف بعد ذلك “: قَالُوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا ۚ قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (الآية 129). ثُمَّ في سورة البقرة قوله تعالى” وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (البقرة: الترتيب الزمني87، الترتيب الحالي 2، الآية30).

إنّ المسلم هو آخرُ مَنْ بلغتْه الرسالة السماوية التي هي واحدة ولم تتغيّرْ منذ أقدم الأمم ومنذ الأنبياء الأوائل. يقول تعالى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (البقرة، الآية 136).ويقول أيضاً: وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا…” (البقرة، الآية143).

و رغم ذلك فإنّ المسلمين ليسوا هم الذين سيشير إليهم باعتبارهم “خليفته في الأرض”. إنه لم يخصَّ أية أمّة، ولا أيّ نبيّ بهذه المهمة، لكنه عمّمها على الناس كافةً: رجالاً ونساءً، من جميع خلقه وفي كلّ زمان، وخصّ “ذوي الألباب” منهم بمهمة استكمال ما شرع فيه هو في بدء الخليقة، وذوو الألباب هم أصحاب الفضل في تطور البشرية كالمفكرين الذين يفتحون أمام البشرية آفاقا جديدة، ومُشيِّدو الحضارات والمدنيات، وكبار زعماء الدول، والرّواد في مختلف الميادين. هؤلاء هم الذين فوّض لهم الله بعضا من سلطانه، وهذا ما فعله مع أنبياء قلائل جدًّا مثل النبيّ سليمان.

وسيعيث هذا المخلوق من الطين في الأرض فسادا وفوضى، ويُثْقِل كاهلها بدماء جرائمه. ولم تَرَ الملائكة إلاّ هذا الخطر الذي هو بمثابة “خسائر هامشية”. ولهذا كان لها الزجر من الله سبحانه عندما أخبرها بأنه على علم بميول الإنسان الإجرامية، أمّا هي – أي الملائكة – فلا علم لها بالحكمة الحقيقية من خلق الإنسان. إنّ هذا السّرّ موجود في آخر جملة من سورة البقرة التي أوردناها أعلاه، ذلك أنَّ الله سبحانه لم يكشف عن هذه الحكمة لا للملائكة ولا لآدم ولا للأنبياء، لكنّها تُسْتنْبَطُ من دراسة القرآن على ضوء الاكتشافات العلمية.

لقد خلق الله الإنسان إعلانا عن حريته : فهو حرّ، يسعى إلى كسب رزقه بعرق جبينه، ويشيّد مساكنه وقواعده على الأرض ثمّ خارجها استعدادا لأداء الرسالة التي أوكلت له والتي لم تتضح لنا بعدُ. إنها ستتبيّن لنا مُستقبلاً… قد يكون ذلك بعد آلاف السنين، لأنّ وحدة قياس الزمن عند الله هي:” يومٌ عنده يساوي ألف سنة” عندنا تارةً، ويساوي “خمسين ألف سنة ” تارة أخرى. والمؤكّد أنّ الكون، لا الأرض وحدها، سيكون هو الإطار المكاني الذي تؤدّى فيه هذا الرسالة، مصداقا لقوله تعالى: “يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا ۚ لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (الرحمن، الترتيب الزمني97، الترتيب الحالي 55، الآية33 ) ولقد تحصّل الإنسان على جزء من هذا السلطان.

ولقد فُضِّل الإنسانُ على كل مخلوقات الله كما يدلُّ على ذلك قوله تعالى:  وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (الإسراء، الترتيب الزمني50، الترتيب الحالي 17، الآية 70). ألا يتمثّل هذا التكريم الذي خُصَّ به الإنسان في تفويض بعضٍ من سلطان الله له، وذلك بتزويده بالعقل ومختلف القدرات المعرفية؟ إذ أنّ تشريف الإنسان بالرسالة جاء بالنظر إلى قدرته على تحقيق ما مِنْ شأنه أن يكون تتمةً للخلق، ونشراً للخير الحسيّ والمعنويّ، وتكريسا لسلطان الذكاء في الكون. أَوَ لَيْسَتْ هذه الميزة هي المقصودة من نفخ روح الله المقدّسة في الإنسان ؟ أليس هذا ما يجب فهمُهُ من رسالة الإنجيل قبل تصحيحه في القرآن بعد ذلك: فالنبيّ عيسى عليه السلام ليس ابن الله، لكنه الجسم الذي نفخ فيه من روحه المقدسة، وهذا هو السِّرُّ في أن الله سبحانه أبى أنْ يُقْتَلَ المسيحُ فرفعه إليه.

إنّ مخلوقاً أُسْنِدتْ إليه مهمة خلافة الله في الأرض لا يحقّ له أنْ يكتفي بأداء واجباته الدينية كالصلاة والصوم، فعليه أنْ يعمل عملاً صالحا، وهي عبارة جاءت دوما متصلة بالإيمان في القرآن الكريم. والعمل الصالح يكون ببناء أنظمة اجتماعية فعالة وتشييد حضارات في أعلى درجات التطوّر. إن التراكم المعرفي والعلمي سيُمكِّنُ الإنسان من الإطلاع على غرائب الكون وكيفية سيره وعمله في صغائره وكبائره، كما سيكشف له أمورا تتعلق بالحياة والموت. وقد أدرك الناس منذ زمن بعيد أنّ هذا الكون في إتقان صُنْعِهِ أبْعَدُ مِنْ أَنْ يكونَ وليدَ الصُّدفة، لقد تبيّنت لهم في هذا الإتقان آيةً إلهيةً وغايةً بعيدةَ الأغوار و مبدأً مقصديٌّا حسب قول العالم وليام بالي William Paley في القرن التاسع عشر، وهو المبدأ الذي سمَّاه براندن كارتر  Brandon Carter سنة 1973 ” المبدأ الأنثروبي ” (أو المبدأ الإنساني Principe anthropique). ويعني هذا المبدأ أنّ كلّ شيء محسوب في الكون حسابا دقيقا كي يناسب الإنسان في معيشته وعمله وإبداعه. والله أعلمُ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى