أراء وتحاليل

حس الوطنية.. و ثقافة المواطنة في مفهوم الوطنية

أ.د يوسف قاسمي- جامعة قالمة*

تتحدد المفاهيم السليمة الواضحة، والخطـاب السياسي المقنع المسؤول؛ المفعمان بالصدق، المليئان بالمعـاني الجامعة، الرمزية القيمية، والفعالية الواقعية… أساسا من خلال الاتصال اللغوي الناجح، والكفاءة السياسية المشهودة؛ فضلا عن الصدقية العملية المجسدة لهما، والقـدر المتاح الذي يمكن الأفـراد وعموم المجتمع من جودة الامتثـال والتمثـل. و يأتي  في مقدمة هذه المفاهيم مصطلح “الوطنيـة” و مدلول “المواطنـة” والعلاقة القائمة بينهما.   

سأتناول مقاربة للمفهومين كمدخل لموضوعات قادمة و مفاهيم أخرى ذات صلة، لا تقلّ أهمية عنها تخص الرأي العام الوطني المدني والسياسي عامة.
فالوطنية إحساس وشعـور ذاتي ينتاب المرء و يعتلج داخله حيال الآخر؛ على غرار:  الحنين إلى مسقط الرأس ومكان إقامة الطفولة وترعرع الشباب، أو موطن التعلم والتكوين المتقدم، كما الانتماء العائلي والقبلي.. فضلا عن الحيز الجغـرافي الذي يمنحنا الجنسية وصفـة المواطنة، وكذا القيم الدينية والتاريخية التي صنعت معالم هويته العقدية الحضارية.. وغيرها. وتعكس هذه المرجعيات والمحددات جانب مهم وحيوي من المستوى النفسي والبعد المعنوي – الماورائي-  يستقي نسغه ويتغذى من الحساسية الأزلية المتشابكة للعلاقة بين الذات والآخـر.

و يمكن مقاربة هذا المفهوم فكريا عبر السعي إلى تلمّس آثاره الموضوعية و مشروعيته من خلال تحديد السياق الزمني والمكاني، والتطور التاريخي الذي نشأ وترعرع وأثمر فيه. فمن رحم “الوطنية” اشتق معنى “الوطن”؛ كحيز مكاني و رمزية سوسي- سياسية لتشير إلى: ذلك الارتباط العاطفي للفـرد تجاه بقعة جغرافية ما، وتفاعله معها فـي سياق وسيرورة معنوية تاريخية تجسد ولاؤه وانتماؤه؛ ليأتي “مفهوم الدولة” ويحدد الجانب القانوني والعلي لهذا الارتباط كما يقننه ويمنحه الصفة الرسمية الدستورية.

فالوطنية” بهذا المعنى مصطلح استعمال للدلالة على المواقف الإيجابية والولاء للوطن من قِبل الأفراد والجماعات، ليتولد نته معنى ومدلول أو صفة “المواطن” كقيمة وعنصر رابط مجسد لمعنى “الوطنية”؛ و كركن أساسي متفاعل معنويا وماديا مع حيز “الوطن.

فما هم المنتج و مكوناته والآثار المتولدة عن هذه العلاقـة في أفعال ومواقف سلوك ساكنته؟ وهو تحديدا المعني والمستلزم المجسد لمفهوم “المواطنة” ؟  كما نلاحظ فإنه لا يمكن للوطنية كمشاعر وأحاسيس، و لا الوطن كحيز جغرافي مادي أو رمزية معنوية، كما المواطنة كمنتج وأثـر عملي.. أن تقوم أو تتمثل بمعزل عن بعضهما؛ تماما فهي تشله المثلث المتوازي الأضلاع المتلاحم المكون لشكليه و كليته.” فالمجموعة الوطنية” تتكون وتتعايش كما تستمر.. بفعل هذا “العقد المعنوي- الاجتماعي-السياسي” العام، الذي يجب أن يسبقه حتما “الانتماء الإرادي الطوعي” للوطن، و من ثم القيام بأداء “مناسك وطنية” تجسد فعل و سلوك “المواطنة الفاعلة” إيمانا وقولا وعملا.. فالوطنية وا لوطن وجهان لعملة واحدة نشـآ غالبا بتوسع حدود انتشار المجموعات البشرية ذات المنشأ الاجتماعي والثقافة الأنتربولوجية المتنوعة و ربما المتباينة؛ من قبيل: الأجناس المختلفة والألسن وكذا العقائد المختلفة …وغيرها.

لكنها توحدها مشاعر مشتركة، وتفترش جغرافية مكانية معلومة، كما تتفاعل وتعتز بل فتخـر بالتراث والتاريخ المشترك، وتربط بينها وشائج متينة ومصالح قـوية… فضلا عن تحسسها للمخاطر والمصير الواحد.. وهو الأمر الذي يسهل عملية التلاحم والاندماج و العيش المشترك.

في سياق هذا المدلول يتسق ويتسم مفهوم الوطنية والوطن بالاتساع الهائل، والاستيعاب المرن لكل الأفراد المنتمين و المكونات القائمة: عرقيا و اثنيا، دينيا و لغويا، ثقافيا وسوسيولوجيا… فضلا عن الشراكة السياسية الايجابية. ليصبح بذلك مكونا حيويا للذات مساهما بشكل عضوي  في دمج الأنا الفردي بالذات الجماعية المتلاحمتين؛ مانحة الرؤى والمفاهيم التي ننظر من خلالهما إلى أنفسنا بثقة والى العالم الآخر بوعي وانفتاح؛ مرادفة  و دالة على معنى ومدلول الثقافة والهوية الجامعة الموحدة. و كما عبر عنها أحدهم بأنها:     ( الهوية الوطنية هي الذات كما تنشأ في إطار حضاري بعينه، مرتبط بموقع جغرافي بعينه.) و يصبح “الوطن- الهوية“، و كما يؤكد المفكر أدونيس بكونها: ( حركة ثقافية مستمرة، متى وقفت هذه الحركة وقفت الهوية، بمعنى أن الغياب المعـرفي عن المشاركة في إنتاج الفكـر هو غياب الإنسان نفسه؛ وبالتالي غياب هويته.)

ثقافة المواطنة ومستلزماتها

يزخر الفكر السياسي الحديث بمفاهيم أساسية جديدة تثري قواميسه النظرية العلمية، و يشكل مصطلح “المواطنة” إحداها؛ حيث ارتبط المفهوم وتبلور بالدولة القومية الحديثة   في أوروبا القرن 19م من جهة، و بتطور تطبيقات الديمقراطية الليبرالية من جهة ثانية.. وتعلقت أساسا بتوزيع منظومة الحقوق والواجبات والحريات في الدولة الحديثة. حيث يتمتع فيها كل السكان -على اختلاف أعراقهم و أديانهم وألسنتهم..- بنفس الحقوق المتساوية على اعتبار كونهم مواطنين وحسب، و تنطلق حقوقهم لا من الاشتراك في الجنس أو العقيدة؛  بل في الأرض التي يقيمون عليها ويربط مصيرهم بمصيرها. بذلك استوي واكتمل معنى “المواطنة” في التجربة الغربية في سياق الدولة القومية العلمانية، فكانت بذلك واقعة      و ليست قانونا؛ لأنها تحققت فعلا قبل ذلك على نحو أو آخر في سياق التجربة التاريخية الإسلامية بحسب ما سمح به مستوى التطور البشري آنذاك.                               فالمواطنة إذا هي: ” عملية تربوية سوسيو- ثقافية، عقلانية حقوقية و مدنية ” تتخطى المفاهيم الكلاسيكية المؤسسة على الإثنيات السلالية والتكوينات القومية، اللغوية، والأديان والطوائف.. وغيرها. لتسعى إلى بناء وعي المواطن المرتبط بحقوقه وواجباته، وترسيخ قيم سلوكية عامة مشتركة، فضلا عن تطوير مستوى المشاركة في حياة الجماعة التي ينتمي إليها؛ عبر تغليب بعد الانتماء إلى الوطن على أي انتماء: عرقي، ديني، طائفي، أو جهوي. فالحق والواجب، التعايش والمصير الواحد.. تمثل العناوين البارزة لمفهوم المواطنة، حيث الترابط بينها عميق وشامل و متعدي. فمقابـل الحقوق المرغوب فيها هناك واجبات ملزمة، لكن في تنامي أداء الواجبات الوطنية تزداد حتما حقوق المواطنة، و تتوسع آفاقها حتى ليتولد الرضا و تتحق السعادة.

لذلك فإن الحاجة تزداد اليوم قبل الغـد – و في هذا الظرف الحساس الذي تجتازه بلادنا-  إلى إشاعة وإدارة حوار مجتمعي- وطني حول المفهوم والمعنى السليم للمواطنة، حقوقها و واجباتها، سياقاتها، أبعادها وغاياتها؛ والعمل من أجل تعبئة القوى و الفعاليات الفكرية، الثقافية والدينية، الاجتماعية و السياسية… في السلطة والمعارضة، و مؤسسات المجتمع المدني؛ من أجل بحث مقاربة ايجابية لهذا المفهوم لإنضاجه و التوافق عليه في تأسيسا وتكريسا لدولة المواطنة الحديثة في الجزائر الجديدة. ومن الضروري والأهمية بمكان استلهام تراثنا الفكري واجتهادات مفكرينا وعلمائنا؛ في هذا السياق فإننا نجد مفكر الحضارة الاستاذ مالك بن نبي -رحمه الله- يقدم لنا مقاربة جيدة للقضية من زاوية ” دولة المواطنة والحضارة“؛ فيقول: ( إن مشكلة كل شعب في جوهرها مشكلة حضارية، ونجاح أمة بحل مشاكلها يتموضع في فهمها ومعرفتها، والارتفاع إلى الأحداث الإنسانية، وما لم يتم التعمق في فهم العـوامل التي تبني الحضارات و تقدمها، فستبقى في زوايا العـدم و النسيان، إن لم يطلها الهدم والرحيل الأبدي.) أما مفهوم المواطنة العضوية -كما يتفق أقطاب الفكر السياسي الحديث- فيقوم على خمسة أركان أساسية؛ هي: الحرية، المساواة، العدالة، المشاركة، والهوية.. في إطار تفاعل ديناميكي لا انفكاك بين عناصرها ومكوناتها.

و لعل أهم سؤال يتبادر إلى ذهن القارئ الكريم بعد البسط النظري لمفاهيم “الوطنية” و”المواطنة” هو ذلك الاستفهام الجوهري المتعلق “بإشكالية الولاء“؛ لمن يكون تحديدا ؟ هل هو مرتبط بجنس أو طائفة ومذهب، أو حزب ؟ أم هو مرتبط بطبيعة و رشادة نظام الحكم أم لشخص الحاكم ؟.. في الدول الديمقراطية المدنية الحديثة، الولاء يكون للوطن؛ أي للأرض والشعب والعقد الاجتماعي- السياسي الذي يحكمهما. أما في الدول الشمولية غير الديمقراطية -فإلى جانب الأرض والشعب- فإن الولاء عادة ما يكرس لشخص الحاكم وعصبته الفاسدة !!.. ذلك أن نمط الحكم غير الديمقراطي ترتفع فيه ديمومة الحاكم إلى رتبة الوطن والشعب معـا، بل تتقدمهما و قد يربط مصيرهما ببقائه و زوالهما برحيله !؟

للأسف فإن الأنظمة الشمولية المستبدة المحتكرة: للسلطة، المال والإعلام، الوطنية، صناعة الحاضر والمستقبل.. لا تزال فاعلة بقوة و ذات تأثير في البيئة و المجتمع العربي خاصة بأنظمتها المختلفة: ملكية فردية، و أوليغارشية مالية وعسكرية، وجملكية مزورة.. نظرتها إلى المواطن في الغالب تتسم بالتوجس والتشكيك، الإقصاء والعدائية؛ يغذيها فكر المؤامراتي. ولد ذلك نظرة سلبية مماثلة لدى المواطنين تجاه السلطة الحاكمة و الدولة معا؛ ومعارضة جسدها منطق ” الراديكالية و التشدد ” في كثير من الأحيان امتدت آثارها الخطيرة إلى الملكية والمرافـق العامة ومكتسبات الأفـراد والمجموعة الوطنية برمتها.. خاصة في ظل سياسات التمييز وعـدم المساواة والتضييق على الحريات، والحق في المشاركة السياسية، والتلاعب بنزاهة العمليات الانتخابية.. وباقي سلوكات السلط المستبدة التي تكونها منظومة الرداءة الفكرية والسياسية، و تتأطر بعناصر الفساد البشري المادي والأخلاقي.

وعليه فإننا نؤكد أن لا صحة إطلاقًا بخصوص احتكار معنى الوطنية وربط بناء الوطن إلى فردٍ بعينه مهما علا شأنه، أو جعلها اختصاصا حصريا لمجموعة نافذة مستأثرة للسلطة و الثروة، مسخرة لمؤسسات و أجهزة الدولة.. تستعملها بمنطق الجزرة و العصا ضد خصومها. فتجارب مماثلة في التاريخ البعيد والقريب، آخرها ثورات الشعوب الحية وحراك شعبنا بعد 22 من فيفري… أكدت لنا الكثير من خلال الشواهد القائمة غضبة و انتفاضة الجماهير فـي وجه الساسة المستبدين، كما كشفت عـن حجم الفساد و المآسي و الآلام بل الضلالات التي تركها حكم الأفراد والعصابة… و المصير غير المأسوف الذي انتهوا البه.

إن الوطن الحر و الوطنية الحقيقية، و المواطنة الفاعلة.. لا تنمو و تزدهر لتثمر أمنا واستقرارا و رخاء… إلا إذا تنفست نسائم الحرية، و كانت عامرة بالأحرار والشرفاء. وصدق الفيلسوف جالينوس حين قال:( يتروح العليل بنسيم أرضه، كما تتروح الأرض الجدبة ببلل المطر.) فقيم وثقافة المواطنة الايجابية تستلزم بل تستوجب المساهمة في الوقاية من الآثـار الضارة و الخطيرة لسياسات الانتهاك والتجاوز على الحقـوق. يكون ذلك باستعمال وسائل النضال السلمـي للتصدي لها، و تنمية الشعور العام لدى المواطنين حيال قيم المواطنة والمساواة والحرية عبر فلسفة و بيداغوجية الإعداد والتوجيه كمدخل لوقاية المجتمع و تحصينه. فالأمل كـل الأمل معقود على وعي معنى ” الوطنية “ بكل الدقة والوضوح؛ لنحررها من مذهب الحلول ومنطق الشخصنة في الأفراد الملهمين أو بزعامات مقدسة حتى و لو كانت عاجزة مقعدة !؟.. بعناوين شتى دوغماتية ذرائعية لا تمت للواقع المحلي بصلة. وقد يربطها البعض الأخر بالفوبيا الأمنية الداخلية تارة، و بالأوضاع الإقليمية و المؤامرات الكونية… وغيرها من الحجج الواهية التي لا تثبث و يبطل مفعولها أمام أول اختبار لوعي الشعوب وهبتها الحرة كما هو واقع وجار في بلادنا و لا يزال.

  شيء جميل أن يضحي أو يموت الإنسان من أجـل وطنه، ويتمثل وطنيته الطاهـرة، لكن الأجمل أن يحيا من أجل الوطن ويعيش المواطنة الحقة برضا واطمئنان ورفاهية.. وليس هناك ما هو أقذر من أن يأتي المرء سلوكات دنيئة تضرب الوطن و الوطنية في الصميم، تعطل بل تغتال حركة المواطنة الفاعلة؛ فتدفـع ابن الوطن البريء كي يصبح عدوا لنفسه ولوطنه ومواطنيه، بل قد يصير خطرا مدمرا على الإنسانية جمعاء. إننا اليوم كجزائريين بحاجة إلى أن نتمثل وطنيتنا الحقة ونعيش لأجل وطننا لا على حسابه.. فكـل الدلائل تشير إلى وجود أزمة عميقة في فهم الوطنية، و كيفية التعاطي مع قيم و مستلزمات المواطنة؛ خصوصا في هذا الظرف الحساس الذي يمر به وطننا؛ حيث يسجل التاريخ على كل فرد منا أقوله وأفعاله ومواقفه… و ستحاسبنا عليها الأجيال إن عاجلا أم آجـلا.

كتب العالم المفكر العراقي والأستاذ الجامعي علي الوردي قائلا: ( عشت في الولايات المتحدة الأمريكية وعملت في جامعاتها أكثر من ثلاثة عقود فلم أسمع أحدا يتكلم عن الوطنية، إلا أن كل أفعالهم ومواقفهم تدل على حس الوطنية وثقافة المواطنة.)

 

 

* المنسق الوطني لمبادرة منتدى النخبة والكفاءات الوطنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى