الجزائر

رسالة الجنرال توفيق: باسم القانون…

نورالدين بوكروح– نور الدين بوكروح

جاء البيان الذي أصدره الجنرال توفيق بمثابة شهادة تهدف إلى تبرئة مساعده السابق و ذراعه الأيمن. لكنه عَبَّرَ في نفس الوقت عن رغبة كاتبه بأن لا يُؤَوَّلَ بقراءات مختلفة عن تلك التي أرادها له. فالجنرال وضَّحَ في ختام رسالته: “أتمنـّى ألاّ يُفضي تسلّلي الإعلاميّ هذا، وإن كان يشكّل سابقةً، إلى تعليقات من شأنها أن تُحرّفَه أو تحوّلَه عن الهدف المقصود”. بما أنه لم يتسنى له الإدلاء بشهادته أمام المحكمة، و بعد أن ” استنفذَ كلّ الوسائل القانونية والرسمية “، ارتأى إذاً قائد المخابرات الأسبق أن يشهد أمام الرأي العام، لكن طالبا منه في نفس الوقت أن لا يفرط في التأويلات تجاه شهادته. كما لو كان الفريق حريصا على أن يمسك بالعصا من الوسط، و أن يتموقع على مسافة متساوية تماما بين هيكل اجتماعي لم يسبق له أن ادَّعَى الانتساب إليه، و بين “النظام” الذي أبعده بطريقة مهينة و أَوقَعَ “الظلم” على مقربيه من رفقاء السلاح.

أما نحن فنجهل ما هو هذا “الهدف المقصود” و المدىً الذي تصلُ إليه أبعاده، و بالتالي لا يمكننا أن نختصر قراءة الرسالة على النحو الذي يدعونا إليه صاحبها، و نتظاهر بالعمى مثلاً عندما نصادف في طياتها رسالةً مشفرة بين السطور. فبيان الفريق يحمل من المعاني وراء السطور أكثر مما يحمله فيها. و الرسالة تؤكد لنا بالبرهان أن إدانة الجنرال حسان ليست في الواقع إلا عملا انتقاميا أو تعسفا في استعمال السلطة من قبل جهة على حساب جهة أخرى. يبدو أن بوتفليقة، العائد من فرنسا التي يعالج فيها منذ جلطة 2013، قد يصاب بجلطة أخرى جديدة بسبب خرجة الجنرال توفيق هذه و التي أزالت في جرة قلم الضباب الذي كان يختبئ فيه أعلى هرم الدولة الجزائرية. كل شيء أصبح واضحا فجأة: فضائح الرشوة، شكيب خليل و العهدة الرابعة أثارت فعلا الفتنة في غياهب السلطة، و قسمت أعلى هرم الدولة و كذا القيادة العسكرية العليا. فما نشهده اليوم من أحداث هو مخاض عسير يجرى في رحم “نظام” عودنا على صراعات داخلية سرية، لا تخرج أبدا إلى العلن أو تصل إلى التنابز عبر الصحف.

هذا و لم يكتفي الجنرال توفيق بتقديم الدليل الذي يبرئ الجنرال حسان عندما تحمل بنفسه المسؤولية السُّلمية و القيادية ( و نحن ندرك أهمية هذا المبدأ في القانون العسكري). بل نفى أيضا وجود تهمة تقتضي أن يحاكم بسببها أحد، لا حسان و لا غير حسان. فرفع بذلك عن القضية (التي لا نعرف عن محتواها شيئا) كل سند قانوني عندما أكد أنه لم يحدث ” إخلال بالتعليمات العامة “. يمكن إذا أن نترجم فكرة توفيق إلى النحو الآتي ” لو بحثتم عن متهم في هذه القضية يجب عليكم التوجه إليّ و ليس إلى الجنرال حسان. فأنا من أعطاه الأوامر التي نفذها هو محترما جميع تعليماتها العامة”. خرجته هذه التي لا تخلو من المروءة شبيهة بسيناريو فيلم يُعاقب فيه بريءٌ على تُهَم لم يرتكبها، قبل أن يفاجئنا المتهم الحقيقي بالاعتراف بدله في وقفة شجاعة و غير منتظرة.

“الهدف المقصود” عند الجنرال يتلخص في هذه الفقرة “الأمر المستعجَل اليوم يَكْمُن في رفع الظلم الذي طال ضابطا خَدَم البلد بِشَغَفٍ، وغسل شرف الرجال الذين عملوا مثله بـإخلاص تامّ من أجل الدفاع عن الجزائر”. بصريح العبارة إذاً يطالب بإطلاق سراح الجنرال حسان على الفور، و معه بالمناسبة أيضا ضباط سامون آخرون تلطخ شرفهم. من هم هؤلاء؟ الجنرال بن حديد؟ الجنرال مجدوب؟ قوافل الجنرالات و العقداء الذين طردوا من المخابرات بعد رحيله؟ .

إذا كانت رسالة الفريق تطلعنا على و جود “هدف مقصود”، فإنها في المقابل لا تدلنا على ما يجب القيام به من أجل الوصول إليه. فما هي إذا الخيارات المتاحة الآن؟ حكمُ براءة تصدره الهيئة القضائية عند الاستئناف؟ عفو رئاسي؟ عندما ننظر إلى الأمور بمنطق قانوني بحت فإن أول ما يتاح من الخيارات هو إخلاء سبيل الجنرال حسان و اتهام الفريق توفيق بدله. حيث ينسبُ التصريحُ الذي برّئَ به مرؤوسَهُ، التهمة التي أدت إلى محاكمة حسان و الحكم عليه، إلى توفيق شخصيا بدله. ثاني الخيارات المتاحة هو إسقاط التهم و إيقاف الدعوى، و هو ما سيلقي في هذه الحالة بالتهمة إلى الجهة التي تابعت الجنرال حسان قضائيا. و بما أن هذه الجهة لا يمكن أن تكون إلا نائب وزير الدفاع، فإن قايد صالح يمكن أن يجد نفسه خلف القضبان بتهمة “التآمر”. لكن نائب الوزير بدوره ليس إلا مساعدا لوزير الدفاع الذي ما هو إلا رئيس الجمهورية، و الذي يمكن إذا أن يجد نفسه في وضع الفريق توفيق اليوم، ما قد يدفعه ليهب بشجاعة و بسالة إلى تحمل المسؤولية بدل مرؤوسه القايد صالح و بالتالي القبول بالخضوع بنفسه لعواقبها.

النظام الذي ساهم الفريق توفيق بصفة كبيرة في تأسيسه و الحفاظ عليه تخلى اليوم إذا عنه، و انقلب عليه بأمر قواعد سيره الداخلية التي لا ترحم. و اليوم لم يجد الفريق إلا بقايا حرية الصحافة، التي يدافع عنها الصحفيون منذ التسعينيات ببسالة، ليحتج على الظلم الذي وقع على أحد مقربيه، و قد يقع عليه هو أيضا في يوم ما. هذه البقايا، لو سُمحَ لها أن تكبر و تتطور مع الديمقراطية الناشئة في ذاك الوقت، كانت ستتمكن من القضاء على هذا النظام البشع. و مهما كان حجم هذه البقايا اليوم صغير، فهي التي يمكن أن تمنع غدا تَحَقُّقَ حلم سعداني بتسليم الفريق توفيق إلى المحكمة الدولية، بتهمة اغتيال بوضياف أو رهبان تيبحيرين، أو لا أدري من و ماذا أيضا.

نزار، توفيق، زروال و آخرون بالزي العسكري و المدني ممّن تبقى من مهندسي “النظام”، يجب عليهم أن يفكروا مليا و يتأملوا بإمعان، في الأخطاء التي ارتكبوها تجاه الوطن و في دوران عجلة التاريخ. يجب عليهم أن يعترفوا بما اقترفوه و أن يسعوا لإصلاح أخطائهم عبر مواقف و أعمال تشرفهم و تتعدى مصالحهم الخاصة أو مصالح جماعتهم. ليس لهم الحق في السكوت عما يجري و التنعم “بتقاعد هنيء”، فالبلاد لا تنعم اليوم بالهناء و لا تمر بأيام سعيدة هادئة. أنها تواجه خطر التصفية النهائية على يد الأشرار الذين جاءوا بهم و وضعوهم في مناصبهم و أخلوا السبيل أمامهم، و وضعونا نحن بين أيديهم “مسلمين مكتفين”، تحت تهديد بنادقهم و زنزاناتهم. يجب عليهم أن يقولوا الحقيقة للأمة، حتى لو كان ذلك على حساب حياتهم أو ثروتهم إن أرادوا أن يحظوا بالاحترام اليوم في حياتهم، أو غدا بعد مماتهم.

القائمة تضم اليوم اثنين من الضباط السامين، نزار و توفيق، انتفضا ضد قرار المحكمة العسكرية، و يواجهان خطر المتابعة بتهمة التعدي على “سلطة الحكم القضائي”. يمكن كذلك أن يتهما بخرق “واجب التحفظ”، هذا المبدأ الذي صار اليوم حجة تتحدث بها أفواه اللصوص و المجرمين و المحتالين، و لعبة في أيديهم يُخرسون بها الشهود، “عفسة” يقيدون بها الضمائر لمنعها من التحرك لإنقاذ بلد في خطر.

الآن و قد خطوا الخطوة الأولى و تجاوزوا حاجز الصمت، لابد عليهم أن يواصلوا حتى نهاية الطريق. “هدفهم المقصود” لا يجب أن يكون إنقاذ الجندي حسان و الجندي حسين فقط، بل إنقاذ الجزائر و جميع أبنائها من الشياطين التي أحكمت قبضتها على رقابهم. ليس المهم إنصاف جندي بريء، بل المهم هو إنقاذ البلد المهان المغتال المضطهد. كل من بقي له ذرة من السلطة المعنوية و المصداقية السياسية و الوطنية المخلصة، يجب عليه أن يشجب السياسة الراهنة بكل ما أوتي من قوة، بصفتها خطرا على المصلحة الوطنية، و اغتيالا للبلد و مستقبله. أنا شخصيا أعتبر أن كتاباتي اليوم و أمس هي المساهمة التي أقدمها في عملية الإنقاذ هذه.

معركة اليوم واضحةُ الأطراف و المَعالم لا غبار عليها: حب الوطن ضد الخيانة، الحس الوطني ضد اللصوصية، الشرف ضد الحقارة و النذالة. سمعنا منذ أيام وزيرا يفتخر في قلب المجلس الشعبي الوطني بكونه “لصا يجلس في حكومة لصوص”، و سمعنا رئيس المجلس يسانده قائلا ” لص لكن لص بشرف”. هذا هو ما وصلت إليه الجزائر. و هذا ما وصل إليه برلمانها الذي يضع القوانين التي تسير بها. شكيب خليل في طريق إعادة الاعتبار اليوم و قد يعود غدا إلى الحكومة أو إلى أعلى من الحكومة.

ضباط القيادة العليا للجيش من أمثال نزار و توفيق هم من وضع الجزائر في الوضع السخيف الذي توجد عليه اليوم، و هم من تسبب في إعادتها إلى التبعية الكاملة للخارج. يجب عليهم إذا أن يتحملوا المسئولية كاملةً اليوم قبل الغد، فورا و حتى النهاية، حتى لو كان ذلك على حساب “تقاعد هنيء”. ليس لهم الحق في أن يكونوا جبناء، أو أن يختبئوا تحت غطاء الانتساب لجيش التحرير و ثورة نوفمبر، أو أن يسكتوا أمام اغتيال الجزائر التي تركوها فريسة للصوص و الحقارة و النذالة و الخيانة

سلطة القانون، القانون لا يحمي المغفلين، القانون فوق الجميع… ماذا بقي من معنى لهذه العبارات التي نسمعها كل يوم على لسان المسئولين السياسيين و العسكر؟ لا شيء… الكل يعرف ما هي البلدان التي تسير حقيقة بالقانون، و كيف يحترم فيها و لا يمكن لأحد الدوس عليه. جميعنا يعرف الدول التي يقف القانون فيها فوق الجميع، و فوق الذين يضعونه و يسهرون على تطبيقه أولا قبل الآخرين. أما في الجزائر فاللصوص و الطغاة و العاجزون هم من يغرد باسم القانون صباح مساء، و هم من يحركه و يستعمله لفعل ما يريد دون قيد أو رادع. القانون بين أيديهم سلاح فتاك يُسكتونَ به المعارض و المحتج و الضحية.

توجد في اللغة الفرنسية عبارة تشير إلى أولئك الذين لا يحترمون القانون و يدوسون عليه من المستبدين و كبار اللصوص: « Ils font la loi ! » هكذا يجب أن نرى مفهوم القانون في الجزائر. قانون يطبق في حالة و لا يطبق في أخرى، حسب الرغبة و وجه الزبون. سلاح بين أيدي الأقوياء يبقون به الآخرين بعيدا، يضمنون به الحصانة لأنفسهم و ينتقمون به من آخرين. إنه قانون الغابة و قانون العصابات. القوانين التي انحدرت من اغتصاب أمّ القوانين، الدستور، ليست قوانين و إنما مجرد مراسيم فارغة و قرارات جائرة، لا تفوق قيمتها الحبر و الورق اللذان كتبت بهما.

أين يسكن القانون؟ من الذي يحركه؟ لماذا اعتَقَلَ القانونُ الجنرال بن حديد و ترك مدني مزراق و المسئولين الذين تتردد أسمائهم في صفحات الجرائد منذ سنوات كلما جاء الحديث عن فضائح الرشوة؟ القانون لا يسكن في أروقة المحاكم، فهناك ينفذ فقط حسب ما يريده أو يأمر به “النظام”. كذلك القانون ليس الورق المكتوب الذي يسمى قانون العقوبات أو الإجراءات المدنية أو العسكرية. القانون الحقيقي الفعّال و العادل يسكن في ضمائر المواطنين الحقيقيين، في الأمم الحقيقية أينما وجدت، و في جينات الشعوب التي تستحق فعلا أن تسمّى شعوبا.

الحارس الحقيقي للقانون ليس الأوراق التي تطبع عليها مجلداته، و لا الجريدة الرسمية، و لا محلات الدولة أو مقر وزارة العدل. بل هو ضمير كل الرجال و النساء مدنيين كانوا أم عسكر. عندما يسكن القانون هناك لا يمكن تحريكه أو اغتصابه أو الدوس عليه. يُصبحُ محميا من جور المستبد و من حيل “جحا”. هذه الضمائر هي التي تنتفض ضد من يخرقه بالتظاهر في الشارع، و هي التي تقلب جمهوريات اللصوص بالثورات.

اغتصاب أم القوانين الذي فتح أمام الرئيس في 2008 أبواب عهدة ثالثة كانت ممنوعة عليه، سمح به الخلط المتعمد بين مبدأ الحق في المبادرة بتعديل الدستور الذي هو من صلاحياته، و بين مبدأ سلطة صياغة الدستور التي يرجع الحق فيها إلى الشعب. عندما يمنع القانون عن شخص ما شيئا ثم يتيحه له في اليوم الموالي هل يبقى يفي بالمتطلبات الأساسية التي يجب أن تتوفر في أي قانون، و هي أن يكون عاما، شاملا، فوق المصلحة الخاصة و في خدمة المصلحة العامة وحدها؟ اليوم يجب باسم القانون، باسم الشعب أو باسم الله، و بأي ثمن كان إيقاف الانحراف القاتل الذي سوف تنتهي البلاد على يده.

هذه الأفكار، أفكاري منذ الأبد، يعرفها الجنرال توفيق جيدا لكونه سمعها على لساني عدة مرات خلال التسعينيات في سر مكتبه، أو لأنه قرأها تحت إمضائي في الصحف قبل ذلك و بعده. يمكنه أن يشهد أني كنت أتكلم معه عندما كان في أوج سلطته كما أتكلم اليوم في كتاباتي أو على شاشات التلفزيون، لأعبر له عن عدم موافقتي على الخيارات و السياسات التي كان هو و غيره من أصحاب القرار يضعونها و يمثلونها. و هو يتذكر أيضا جيدا ما قلته له عن قرارهم بتتويج بوتفليقة، كما يعلم أيضا الأسباب التي جعلتني أقبل بالالتحاق بحكومته.

حكاية لافونتان “الأسد العجوز” تروي قصة ملك الغابة الذي بلغ به العجز و الضعف ما جعل حيوانات الغابة تتلذذ بالانتقام منه و التشفي فيه كل بطريقته: هذا يعض و ذاك ينطح و الآخر يخدش. و عندما جاء الحمار ليصكه صاح الأسد في وجهه: “كنت أتمنى الموت، أما الآن و قد تجرأت حتى أنت علي فكأني أموت مرتين”. من هذه الحكاية استنبطت عبارة فرنسية تشير إلى أن الأقوياء عندما يسقطون فإن خدمهم السابقين هم أول من يسارع للإجهاز عليهم. هذا ما سيواجهه حتما “رب دزاير” في “الدوار” الذي يسمى الجزائر، أين ازدهرت و تكاثرت سلالة الحمير حتى لم يجد حارس الإسطبل من أين يبدأ و أين ينتهي… إلّا إذا…

 

ترجمة: بوكروح وليد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى