بين الفكر والسياسة

روح أمة

بقلم : نورالدين بوكروح

ترجمة  : نورة بوزيدة

noureddineboukrouh@yahoo.fr

noureddineboukrouh@facebook.com

وضح مفكرون كثيرون معترف بهم محتوى الأمة، وبقت بعض التعريفات مشهورة ومتداولة بين الباحثين في التاريخ والسياسة والمهتمين بصفة عامة، مثل ذلك الذي قدمه المفكر الفرنسي إيرنست رينان Ernest Renan، والذي قال إن الأمة تكون حيث تكون “رغبة العيش مع بعض”. وصار هذا التعريف الجميل مرجعا لهم مدة طويلة، قبل أن يأتي أحد مواطني رينان، وهو رجيس ديبري Regis Debray قرنا ونصف بعد ذلك ويقول أن البقر أيضا يعيش مع بعض، مبرزا بذلك أن تعريف رينان كان غير كامل. فعرف بدوره الأمة على أنها “رغبة العمل مع بعض”، والاحتمال كبير أنه استلهم في هذا من التيار الفكري الذي كان أوسفالد شبنقلر (Oswald Spengler) أحد آخر ممثليه، في أشهر كتبه “أفول الغرب”  (وهو الكتاب الذي ترجمه إلى الفرنسية الجزائري محند تازروت في ثلاثينيات القرن الماضي).

عاش رينان في قرن الرومانسية، أما ريجيس ديبري، فقد عايش قرن البراغماتية حيث كانت الإنجازات هي التي تقود الأمم وتفرض على أفرادها ضرورة العمل مع بعض بدل الإحساس والشعور الجماعي، مع أنه في الواقع لا يمكن للأول أن يتحقق بدون الثاني. ولذلك نقول أن الاثنان على صواب ولا يتعارض قولاهما بل يتكاملان.

الرومانسية هي شكل راقي للعاطفية البديهية التي أدت بنا في الجزائر وفي المخيلة الإسلاموية إلى وضع تعريف للأمة لا يأخذ برغبة “العيش مع بعض” ولا “العمل مع بعض” بل يهتم فقط برغبة “الإيمان مع بعض”. لكن، هذا التعريف الأخير لا يؤدي حتما إلى ضرورة القيام بنفس الأعمال والنظر إلى نفس الاتجاه. وفي الحالة التي تهمنا، أي الحالة الإسلامية، يمكن أن نؤمن بنفس الإله والاقتتال من أجل لا شيء و”الاستشهاد” بدون حساب، بدافع الإيمان. والأمر يزداد حدة عندما يتعلق بما “نعمل مع بعض” حيث نرى كيف أن الإسلاميين المتطرفين يتسارعون ويتدافعون في تحطيم الحاضر، لا لبناء المستقبل بل فقط للرجوع إلى عهد قريش.

نحن نرى كل يوم كيف أن جزءا من الجزائريين، المسلمين الإسلامويين الراغبين في العودة الفورية إلى زمن أبو هريرة، لا يشاركوا الجزء الآخر، أي المسلمين غير الإسلاميين الراغبين من جهتهم العيش في زمنهم، لا يشاركونهم أي شيء اللهم نفس التنافر المتبادل. ونحن نعرف أن المعرب الأحادي اللغة يعتبر المتفرنس الأحادي اللغة أيضا أجنبيا لا يتقاسم معه سوى جواز السفر، ونعيش كل يوم معركة صامتة خفية تميل بالجزائر شرقا تارة وغربا تارة أخرى، وتجعلها تعيش في اليوم ألف تناقض وألف اختلاف بين أولادها. هل يمكننا في هذه الحالة الحديث عن “رغبة العيش مع بعض”؟

هل يمكن “العمل مع بعض” بينما “تعمل” سلطة سيئة على تفضيل مجموعة على حساب باقي الوطن؟ هل يمكن ‘العمل مع بعض” عندما يقبع المخلصون والشرفاء في الحرمان بينما “يتمخطر” الأشرار في أفخم الفنادق العالمية بفضل المال العام الذي نهبوه؟ هل يمكن “العمل مع بعض” عندما نرى كيف تتم ملاحقة من يخلق الثروات للبلاد ويتنعم بها من اختار بدل التصنيع والإنتاج “ليزافيريت نتاع… ونتاع…”؟ هل حقا يمكننا القول أننا “نعمل مع بعض” عندما يبقى الشباب و”الشياب” على السواء بدون حول ولا قوة لأن الأول لا يعلم والثاني لا يقدر؟

إن ما ينقصنا لكي نصبح أمة حقة ليست المكونات الملموسة المادية من تراب وشعب ودولة وعلم يرفرف، بل تنقصنا مادة حيوية ومكونا غير مادي هو روح الأمة. ما هي روح أمة؟ إنها العامل الكيميائي الذي يخلق اللحمة بين العوامل الفيزيائية، ويصهر هذا في ذاك، فيصير لها معنا ووجهة، ويتحول حينئذ البلد إلى أمة.

إنه الشعور العام الذي لا يستثني أحدا بأننا كلنا “مخدومين” بنفس الطريقة، وبأننا نفكر بنفس النمط، وبأننا نتحدث نفس اللغة ولو كان تعبيرنا بلغات مختلفة، وبأننا ننظر في نفس الإتجاه… إنه الشعور المشترك بأنه لدينا مصلحة مشتركة، ونتوق إلى نفس الأهداف، ونحلم بنفس الشيء… لا نعرف لهذا الشعور طريقا للتحقق في أرض الواقع سوى أنه ينتشر عبر التعليم في كل المستويات، والتربية الاجتماعية، والقوانين، والمثل الأعلى المتجسد في قادة تلك الأمة خاصة والمواطنين عامة، وعمل نخبتها من مثقفين وفنانين والتي تؤثر على الجماهير إيجابا.

هذا الشعور لا يمشي بيننا في الطرقات بل يحوم فوق الرؤوس، يتجلى في كل ما يقوم به أفراد الأمة ويطبع ملامحهم ونمط تفكيرهم. نلمسه في سلوكياتهم وتعاملهم مع بعضهم البعض حيث يكون كل واحد مسئول على راحة الآخر ورضاه، ويتسابقون إلى البشاشة والاحترام.

إنها ظاهرة روحية وفكرية وثقافية ينتجها الرجال وما يحملونه من أفكار تساير التقدم المعنوي والتطورات العلمية، أو أفضل من ذلك هي تلك الروح التي تسعى من أجل إحداث هذا التطور لضمان سعادة أكثر للإنسان.

عاشت أوربا قفزتها الفكرية والتقنية والصناعية والسياسية المتميزة بفضل فلاسفة الأنوار، وتولدت أمريكا من رحم كتاب وحيد اسمه “الفطرة السليمة” ” للكاتب توماس باين (Common sens ; Thomas Paine) . ونهضت كل من روسيا والصين بفضل كتابين هما “ماذا نعمل؟” كتبه لينين، و”الكتاب الأحمر” الذي ألفه ماو تسي تونغ، إلى أن صارتا في مصاف القوات العالمية الكبرى.

عندما تظهر هذه الروح في مجموعة إنسانية في وقت ما، بمناسبة حدث قد يكون صغيرا أو كبيرا، فإنها تشع على الجميع وتمس كل أفراد تلك المجموعة، تنمي بينهم لحمة وتراصا، وتوجه أنظارهم نحو هدف مشترك. فتصبح تلك المجموعة أمة جميلة رائعة يحلو العيش فيها ويأتيها “الحراقة” من كل حدب وصوب، طامعين العيش فيها ويتحدون من أجل ذلك البحار ويقبلون حتى الموت غرقا من أجل الوصول إليها. وفي بعض الأحيان نتحدث عن تلك الدول لا بأسمائها بل بما توحي إليه، فنقول “العقل الأمريكي” أو “العقل الألماني” أو الصيني…

وإذا أخذنا بهذا التعريف للأمة، علينا أن نقر بعدم وجود الأمة الجزائرية لأن حياتنا العامة ماكنة تنتج الألم لكل واحد منا، كلنا سبب فيها وضحية لها، وكأن كلنا أتينا للدنيا لنعكر حياة المواطنين الآخرين، من غير وعي و”ماشي بلعاني” وعن جهل أيضا. فنقضي وقتنا في الانتقام لأنفسنا من ظلم الآخرين وما يسببونه لنا من انهزام وخيبة وإحباط متراكم وطائل.

لا تنقصنا روح أمة فقط بل نحن نتلقى لقاحا عند ولادتنا يحمينا من “فيروس” الأمة طول حياتنا، ويمنعنا حتى من التفكير في الموضوع أو من التفطن لكوننا نحمل أفكارا مضادة لتكوين أمة جزائرية. لكن بالعكس بقينا مفتوحين لكل “الروحانيات” الأخرى من أرواح شيطانية: الجهوية والحسد والانتقام والعشائرية… وهنا لا مجال لروح الرفق والمحبة والتعاون وحسن الجوار، بمجرد أن نخرج من محيطنا الشخصي.

منذ ألف سنة، وأئمة مساجدنا يصرخون بأعلى أصواتهم للتحلي بحسن الخلق والتضامن والصدق، ولكنهم لم يتمكنوا من منع حدوث ما نراه اليوم طوال حياتنا من حقيقة مريرة نترنح تحتها من المهد إلى اللحد. وهذا يعني أن “الإيمان مع بعض” لا يفيد في شيء أو على الأقل لا يكفي لتكوين أمة ونسف الروح فيها. وعلى عكس ما نعيشه نحن، نرى في البلدان المتقدمة ما أنتجته “رغبة العيش والعمل معا”، تحت رقابة القانون الصارم مع الضعفاء كما مع الأقوياء.

هذا العقل المعكوس والذهنية الخاطئة والروح المعوجة، هي كلها ما جعلنا “لا أمة” منذ الأزل إلى يومنا هذا، وليس البترول ما سيجعل منا أمة. لا رجال السياسة ولا المثقفون يعرفون ما يجب القيام به ومن أين تكون البداية للخروج مما يبدو لنا وكأنها لعنة من أحد أجدادنا الغاضبين تتبعنا إلى اليوم. ولكن الخراب الذي نعيش فيه اليوم هو نتيجة جهلنا وفشلنا، ولو حمل كل الجزائريون شهادات دكتوراه. لم نكن محضرين لتحدي الاستقلال، ما عدا “قادتنا” الذين حضروا أنفسهم لذلك، بعيدا عن التعسف الاستعماري الذي كان يضرب أعناق الشعب الجزائري، فاتخذوا لأنفسهم مهام معلمين عسكريين ومحافظين سياسيين  “يعلمون” للمجاهدين كيف يحاربوا ويجاهدوا ويستشهدوا بينما بقوا هم “ذخيرة” للاستقلال.

لم تقم أي ثورة بدون استشراف لما يجب أن تكون عليه المرحلة الموالية، أي الاستقلال، سوى الثورة الجزائرية. فكان البطل هو المحارب والمقاتل وفقط وتهكم الجميع من “المثقف” الذي كان يود وضع أسس للمستقبل وحسبوه “يتفلسف”، وهي العقلية السائدة إلى يومنا هذا، فلا حاجة لنا نحن الجزائريين إلى الأفكار.

كان من المفروض أن يكون لدينا الاثنان، لكن “القادة” بهدلوا المفكر ورموه جانبا، فلم يكلف أحد بتحضير المستقبل لأن الجميع كان يظن أنه سيبني نفسه بنفسه، وأنه سيزدهر وحده من دون أي جهد من قبلنا بل يكفي أن نعمم التعليم، وهكذا دخلنا عنوة في القرن العشرين، و نحن باقين فيه بفضل البترول. والسؤال هنا يطرح نفسه : وماذا لو لم يكن لدينا بترول؟ وماذا بعد أن ينفذ البترول؟ والجواب يبدو واضحا : استقلال دام بعض العشريات مقابل قرون من الاستعمار والعبودية.

ظهر في كل مراحل الحياة الإنسانية ما يسمى بالمعلمين الاجتماعيين اللذين أناروا درب الشعوب وحضروهم لكي يصبحوا حضارات ثم أمما ومجتمعات ومواطنين. أما نحن، فمن كان يقوم بدور المعلم الاجتماعي خلال تاريخنا الذي كان حلقة مفرغة دامت قرون؟ لا أجد أحدهم. لم يكن للمجتمع الجزائري معلمين اجتماعيين، ولم يلتقي خلال بحثه الروحي الطويل سوى القليل ممن يعلمه بعض الشيء، لكنه على العكس، وجد الكثير من “شبه العلماء” في كل الميادين. أما أكبر شخصية التقى بها وأدهاها فكان جحا المشهور.

كان الجزائري محند تازروت من بين من كان يمكن الاستعانة به وهو الذي نشر كتبا حول الموضوع مثل “المعلمون الاجتماعيون في ألمانيا الحديثة : تعليم المثالية” (باريس،1943) « Les éducateurs sociaux de l’Allemagne moderne : l’éducation idéaliste »، و” حديث في التعليم الألماني : من كانط إلى هتلر” (1946) « Critique de l’éducation allemande : de Kant à Hitler » . كما ألف سلسلة سماها “في مؤتمر المتحضرين” « Au congrès des civilisés ». لكن الجزائر المستقلة تجاهلته ولم ير أحد فائدة الاستعانة بنوره، فمات بالمغرب وهو مدفون بمدينة طنجة مثل المفكر محمد أركون. والحقيقة أن لا السلطة التي كانت غارقة في دماغوجيتها الثورية، ولا الشعب المنشغل بالاستيلاء على أملاك صارت بدون مالك، شعرا بضرورة التنور، واثقين بأنهم هم النور نفسه.

كان غاندي يقول في سنوات الثلاثينيات :”ما دام المارون يتلقون فوق رؤوسهم بصاق من يكون في شرفة منزله، لا تستحق الهند أن تكون بلدا مستقلا”. أما مالك بن نبي، فإنه يروي في كتابه “شروط النهضة” ما كان يقوله مثقف جزائري في سنوات الأربعينات :”نحن نريد الاستقلال ولو  بقينا بوسخنا”. هيهات بين هذا وذاك، فالأول أرسى صرحا للعقل السليم والفطرة السوية، بينما شمع الآخر عقل مواطنيه بفخر وطني مزيف ومغلوط. وهيهات اليوم بين الهند والجزائر.

شاهدنا في السنوات الأخيرة بأم أعيننا كيف تفسخت دول بكاملها وهي تملك جيوشا قوية مثل سوريا والعراق وليبيا، لا لشيء إلا لأنها لم تكن أبدا أمما بل كانت نوعا من جمع قطع متفرقة بدون روح ودم وبدون لحمة حقيقية تسمى روح الأمة. لم يكن لديها “رغبة العيش مع بعض” ولا “رغبة العمل مع بعض”، فتدحرجت في التاريخ الحديث دون مشروع يؤمن به كل السكان ويقبلون الموت من أجله، فسقطت كلها سريعا في الهاوية. فمن منهم دافع عن صدام حسين أو القذافي؟ ولا يملك بشار الأسد اليوم سوى سندا واحدا هو روسيا التي تدافع أكثر عن مصالحها الإستراتيجية، من بينها القاعدة البحرية في طرطوس. وعلى عكس هذه الدول، رأينا كيف نهضت من حطامها دول دمرت عن آخرها خلال الحرب العالمية الثانية بسرعة مذهلة وكأننا في أحد أفلامهم العجيبة.

وفيما يخصنا، وإذا أرادت الجزائر الاكتفاء بالارتكاز على قواتها المسلحة للبقاء في التاريخ وضمان وحدتها وسيادتها، فلا يسعنا إلا أن نقول أن الخطر كبير أن نراها تنهار أمام العالم مثلها مثل البلدان التي تحدثنا عنها والتي اتكلت على “الزعيم” و”جيشه “القوي”. هل يجب أن ننتظر حدوث ذلك لكي نؤمن به؟ يكفي أن نعلم أن حروب المستقبل لن تتطلب رجالا مخلصين ومستعدين للموت من أجل الوطن بكل شجاعة وبطولة لأنها قيم أخلاقية لن تحتاجها الجيوش في المستقبل، فقد عوضتها بالتكنولوجيا والذكاء والأسلحة الخفية التي تخرج من قاع البحر أو تنزل من السماء، ولا حاجة بعدها لحرب ضروس يخوضها الشجعان والأبطال. ففي المستقبل، من لا يملك هذه الأسلحة، بل من لا ينتجها بنفسه، لا حياة له. وإذا بات أحدهم يفتخر و”يغيط” بجيشه القوي، سينظر إليه الآخرون على أنه أحمق خرج من حقب ما قبل التاريخ.

وإن لم نفهم إشكالية الأمة هذه ونعي آثارها ونستوعب حيويتها ونعمل على ميلادها قبل نهاية فترة البترول، فإن الجزائر ستنقرض ولن تدوم حتى في نسختها المزيفة الآنية، بل ستتحول إلى دار الحرب كما في التسعينات وأكثر لا قدر الله. سيبقى التراب بعد البترول، لكنه سيكون ممزقا ومجزئا، وسيبقى شعب لم يعرف كيف يصبح أمة فتقسم إلى عروش وقبائل كما كانت إلى وقت قريب، لكل علمها و”استقلاليتها”. وعلى مناضلي “الماك” أن يعلموا أنهم لن يكونوا وحدهم من سيملك علما وترابا و”حرية”، بل كل منطقة في الجزائر. وسنسمع أناشيد وطنية جديدة تكون عبارة عن مدائح دينية أو أهازيج تقليدية بدل “قسما”. وفي الجنة، سيتنهد الشهداء حسرة ويودون الموت ثانية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى