بين الفكر والسياسة

رد السيد نور الدين بوكروح على وزارة الدفاع الوطني: شعوب و جيوش

بقلم : نورالدين بوكروح ترجمة : نورة بوزيدة

“سأقود شعبي وسآخذه بيده إلى أن يعرف الطريق جيدا ويتمكن من السير وحده بخطى واثقة. حينها، سيكون قادرا على اختيار حكامه بكل حرية ويحكم نفسه بنفسه. عندما يأتي ذلك الوقت، سأعتبر مهمتي منتهية وأتخلى عن الحكم. لكن ليس قبل أن أنال هذا المراد”. (مصطفى كمال أتاتورك، خطاب 08 أغسطس 1926، أمام البرلمان). 

الأسبوع الماضي، غربت الشمس عبوسة وحزينة على الغرب وطلعت مشرقة على الشرق. ونحن نتتبع حدثين على المباشر، الأول بقلوب منقبضة والثاني بقلوب انشرحت بتطور الحدث. كنا نشاهد حركة التاريخ وهي تتجلى أمام أعيننا، محملة بشر البشر في الحدث الأول ومفعمة بخيرهم في الثاني.

تمنح لنا اليوم تكنولوجيات الإعلام فرصة تتبع الأحداث العالمية التي تصقل توجهات عصرنا ونعيشها وكأننا في قلب الحدث وفي عين المكان.  نعيشها حية ونشاهد فاعليها يتخبطون في شبكتها ويموتون أحيانا أمام العالم المشدوه. ويمكننا حتى مشاهدتها وتفسيرها كما نريد حسب القناة التلفزيونية التي نختارها واللغة المستعملة.

كانت الأحداث إذن قاسية وعنيفة من جهة وسخية من جهة أخرى، مانحة إيانا مشهدين ينمان عن أقصى مكنون الشر والخير لدى الإنسان. فكانت مجزرة مدينة نيس الفرنسية من أعنف وأكثر العمليات الإرهابية وحشية، بينما حمل الحدث الثاني من اسطنبول دقائق فشل محاولة الانقلاب العسكري، وهو ربما آخر انقلاب عسكري سيعرفه التاريخ التركي. وبينما شلنا الأول وغم قلوبنا بسبب عنفه وحيوانيته، أعادنا الحدث الثاني إلى نطاق الإنسانية التي تمشي إلى الأمام على درب مسطر ومعبد.

وبالنسبة لي، سريعا ما بدت لي النقطة الجامعة بين الجدثين على تنافرهما واختلاف المشاعر التي خلفاها في أنفسنا وهي الإسلاموية.  نعم، لقد رأيت مشهدين للإسلاموية، القناص الغادر في نيس و “المتطبع” في الثاني. ففي اسطنبول، رفض كل من الجيش في غالبيته وخاصة المعارضة العلمانية أن تقتنص “الفرصة” للقضاء على حزب التنمية والعدالة بالعنف للعودة إلى السلطة، وفضلا المنافسة الديمقراطية النزيهة.

بعد أن شاهدت في الشاشة ما حدث في نيس، قضيت ليلتي أنتظر مقبوض القلب، راجيا ألا يكون ذلك المجرم جزائريا، مع أنني أدرك أن الأمر لا يهم كثيرا : فبمجرد أن يظهر اسم “محمد”، ندفع الثمن كلية بصفة مباشرة أو غير مباشرة، على التو أو بالتقسيط.

أما في الحالة الثانية، فقد أعجبني رد فعل الرئيس إردوغان الذكي، وأكثر ما أعجبني موقف الشعب التركي السريع في الخروج إلى الميادين والساحات العامة ومحاصرة الدبابات والعساكر الانقلابيين، مبرزين بذلك أنه أكثر حرصا على الديمقراطية مما هو خائف على حياته.

ونحن الجزائريون نجمع في ذاتنا وتاريخنا الكثير مما يجعل الفرنسيين خاصة يتحسسون كثيرا تجاهنا : أولا بسبب الحرب التحريرية التي ما زال جرحها يوجعهم، وبسبب الإرهاب الوحشي الذي تخصصنا فيه قبل غيرنا في سنوات التسعينات، وبصفة عامة الكل ينظر إلينا بعين الريبة والشك والظن بسبب تأخرنا وتمادينا في “احتلال” مؤخرة الأمم في كل الترتيبات، مهما كان الميدان العلمي والصناعي والثقافي. وأخيرا، لأننا نملك “مزية” أخرى هي كوننا ببساطة مسلمين يمكننا أن نسقط في أي وقت وبدون سابق إنذار في التطرف، مسرعين  في التمتع  “بملذات” الجنة الموعودة. ولا يهم المسلم المتطرف سبب تطرفه، إذ هي كثيرة ومتنوعة الآن، وكأنه في سوق يختار منها ما يليق به للتذرع للقتل، فلا يهم إذن أن يكون الأمر متعلقا بالولاء لـ”دعش” أو الثأر للفلسطينيين أو السوريين أو الليبيين أو المهاجرين أو حتى للهنود الحمر أو”كونتا كينتي”، العبد الزنجي المشهور.

وإذا ما عدنا إلى الأتراك، وجدنا أنهم كانوا يمرون كشعب وكأمة بمرحلة صعبة بسبب الغلطات التي تخللت بكثرة سياسات إردوغان في التعامل مع “دعش” وسوريا وروسيا والأكراد والمهاجرين غير الشرعيين والاتحاد الأوربي، والتي تسببت في انتكاس اقتصادي للبلاد وموجة من العمليات الإرهابية الواسعة النطاق. وفي الوقت الذي هم فيه إردوغان تصليح ما فات وتغيير اتجاه سفينته بأن أمضى اتفاقا مع الاتحاد الأوربي حول مسألة الهجرة و أن قدم اعتذارات علنية للرئيس الروسي بوتين لكي يعيدا دفع التعاون الاقتصادي الذي تأثر بخلافاتهما، حتى أنه أعاد العلاقات مع إسرائيل ببركات حماس، طرأت محاولة الانقلاب من طرف عسكريين أرادوا الاستفادة من ثغراته للتخلص منه، وهو الذي يحسبونه خليفة عثماني جديد.

لكن، ورغم الغلطات الكثيرة التي قام بها إردوغان في سياسته الداخلية والخارجية، إلا أن الشعب لم يقبل أن ينحى بانقلاب. لم يكن المدافع عن الرئيس التركي مجموعته الحزبية فقط، بل كل الشعب الذي برهن أنه الحكم الوحيد في اختيار من يحكمه بوسائل ديمقراطية ولا يعود ذلك للجيش، وبالأخص لمجموعة منه. وحتى منافسي حزب التنمية والعدالة الذين كان بإمكانهم الاستفادة من هذا الانقلاب وخلط الأوراق من جديد رفضوا أن يساندوا الجيش في مسعاه، ونددوا بدون أي تردد الانقلاب وخرجوا هم أيضا إلى الشارع للدفاع عن الديمقراطية لأنهم يؤمنون بها ومستعدون للدفاع عنها، والابتعاد عن استعمال العنف والسلاح ومع أن العسكريين المنقلبين برروا فعلهم برغبة الحفاظ على الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان والعلمانية، وباشرت بتأسيس “مجلس” لتسيير شؤون البلاد. لكن هذه المرة، رفض الشعب مبدئيا فعل القوة ذلك واحتشدوا في الأماكن التي سيطر عليها الجيش والتفوا حول دباباته، صارخين في وجهه بالذهاب والعودة إلى ثكناته، وبأنه لا حاجة له.

وإن لا نرى في بعض الأحداث سوى الجانب الإعلامي، ولا نتعداه إلى تحليل ما قد يحمله من تقدم للإنسانية أو تفكير فيما قد ينفعنا نحن أيضا ويغير وجهة تاريخنا، فلا نتعدى أن نكون سوى أبقارا منبطحة في الحقل تجتر علفها وهي تشاهد القطار يمر أمام أعينها، لا يهز المشهد فيها شعرة ولا يثير شعورا فيها. لكن، إذا كنا نحمل ضميرا وروح المسؤولية، فإن أحداث نيس واسطنبول بالتأكيد ستجعلنا نفكر في حالتنا نحن وقد عشنا منذ الاستقلال ملجمين ومسجونين.

لقد وضحت لنا أحداث البارحة أنه حين يتواجد شعب حقيقي، لا مكان للجيش في ميدان السياسة، ولا هو من يدافع عن الدستور وحقوق الإنسان، لأن ذلك الشعب هو من يقوم بالمهمة كفاية. لكن، الشعوب تختلف وكذا الجيوش.   وكل بلد يملك الشعب الذي يستحق والجيش الذي يستحق.

هل من الضروري أن تكون المعادلة أن يفوز الجيش بخسارة الشعب أو العكس؟ إنها معادلة تطبق فقط في البلدان المتخلفة في كل الميادين، ونحن أحد هذه البلدان. فلا نعرف مثالا عن بلد طوره الجيش ولدينا العديد من المحاولات في العالم خلال القرن الماضي. وعلى العكس، نعرف يقينا أن أكثر الجيوش صلابة وقوة هي تلك التي تتطور في ظل أنظمة ديمقراطية وحقوق الإنسان.

لم يتعدى الشعب التركي على جيشه للنيل منه نهائيا ولم يحيله على التقاعد، بل ذكره فقط بدوره الطبيعي وبمهامه الأساسية، تماما كما فعل الشعب البوركينابي قبل سنة في ظروف مشابهة. وللعلم، فإن على رأس مهام أي جيش في العالم هي حماية التراب الوطني من التهديدات الخارجية، وهي مهمة سيقوم بها على أحسن وجه إذا ما ركز جهده على مهنيته وتطوير قدراته الأساسية بدل التحايل المستمر للإبقاء الشغب تحت سيطرته بوسائل الخوف والتجهيل عبر أحزاب مزيفة وتزوير الانتخابات.

لم يعد بلاد في العالم يمشي على رأسه ويحمل عقلية الدوار عدا الجزائر، وفيه يظن الجميع أن لا حياة للبلاد بدون الجيش. ولو كان الأمر صحيح، فعلينا بالاندثار والزوال من وجه الأرض لأننا لن نكون بعده لا شعبا ولا مجتمعا ولا وطنا، بل قطيع بشر و”حشيشة طالبة معيشة” كما يحلو لنا تكراره مرارا ومرارا، ونقبل أن نعيش في كل الظروف مقابل “لقمة العيش” والتكاثر من غير سبب ولا هدف.

هناك عقيدة “وطنية” منغرسة لدى الشعب الجزائري وأحزابه السياسية تقضي منذ الأزل أن الجيش الشعبي الوطني هو حامي الدستور والسيادة الوطنية ووحدة الشعب والوطن. وهي عقيدة خطأ عالميا لأنها غير واقعية ومضرة بصحتنا العقلية والفكرية والمعنوية. وإذا لا بد من الدليل الألف، فها هي تركيا تمنحه إيانا قبل أيام فقط في بضعة سويعات.

إن حماية الدستور ووحدة الوطن والشعب والديمقراطية هي من مسؤولية المجموعة كلها وليس من مهمات إحدى المؤسسات. فالكل معني بها من جيش ورئاسة ورجال الأعمال والنقابات والمعارضة…. فمهمة الحفاظ على الدستور منوطة بالقوات الحية للبلاد وللسيادة الشعبية كما هو منصوص عليه في ذات الدستور، وإن كنا نعرف أن ذلك من باب التمويه وليس الجد في حالتنا نحن، بينما برهن لنا الشعب التركي أنه حقيقة معاشة لديه.

لا نعرف في التاريخ  عبر العالم مثالا عن شعب يمس دستوره وشرعية مؤسساته السياسية عندما تكون شرعية وعادلة وفاعلة، لكن الأمر يأتي دائما من أشخاص يدفعهم حب السلطة والثروات، ومن المصابين بهلوسة العظمة والمتحايلين. فهؤلاء يستعملون القدرات العسكرية التي منحتهم إياهم المجموعة الوطنية من أجل حمايتها من التهديد الخارجي، ضد المجموعة ذاتها من أجل إشباع نزواتهم الشخصية ومصالح قبيلتهم وأناهم المنتفخ كما هو الحال لدينا منذ البداية.

قمن انتهك الدستور في الجزائر من غير بن بلة وبومدين وبوتفليقة، ليس في صالح الشعب بل لصالحهم الشخصي الوحيد؟ متى تم استشارة الشعب الجزائري أو إشراكه عندما حان وقت التعديلات الدستورية؟ فمتى ستأتي ساعة الفرج والتخلص من الاستبداد والانتهاك المتواصل بإبقائه عنوة في ثقافة الدوار بتهديد “شنابيط” لا تعرف جشاعتهم حدودا؟

في سنة 1979 ذهبت إلى إيران لأعيش الثورة الإيرانية من الداخل وعندما رجعت إلى الجزائر، نشرت تحقيقا في الموضوع لأشارك الجزائريين انطباعاتي من تفاعلي مع الفاعلين في تلك الثورة والواقع المعاش هناك. وفي السنة التي تلتها، جدث انقلاب في تركيا ولمست الواقع أيضا، لكنني لم أكتب شيئا لأنه لم يكن فيه ثمة شيء أفوله عن بلاد أكله الحرمان وأسكته الرعب وفيه المساجد فارغة من الناس تسكنها فقط الأرواح بسبب سياسة أتاتورك.

لقد مرت عشرون سنة بين آخر الانقلابات الناجحة في تركيا (1997) وبين هذا الذي عشناه قبل أيام والذي فشل أمام أعين العالم. وخلال تلك السنوات، تطورت تجربة ديمقراطية وحيدة من نوعها أكدت نجاعتها. وهو الوقت الذي سمح أيضا ببروز وتكوين مجتمع مدني  ومجتمع سياسي وشعب مواطن ويحب العمل، كما كان يتمناه مؤسس تركيا الحديثة، كما أبرزناه في بداية مقالنا. من هو الحاكم الجزائري الذي نطق بنفس الكلمات تجاه مواطنيه؟ ولا أحد، لأن كل واحد من بينهم كان يرى نفسه على أنه هو شخصيا خليفة الله في الأرض وهم لا يحملون أدنى ثقافة عن أي شيء كان.

تعود إلى تركيا لنقول أنه أول انقلاب يتم إحباطه في تاريخها، وهو بالأرجح آخر انقلاب في هذا البلد لأن الفكرة القديمة التي تدعي أن الجيش هو “حامي” المصالح العليا للوطن قد تراجعت شيئا فشيئا حتى داخل الجيش نفسه، ومن كان لديه بعض “الطمع” في ذلك، فإنه رأى على المباشر أنه لم يعد لها مجال وبأن الأجيال الجديدة في الجيش لو تعد تحمل نفس الذهنية بل هي تحترم الديمقراطية روحا وقالبا.  وفي المستقبل، فإن الجيش التركي هو من سيكون في خدمة الشعب السيد الذي لا يملك سوى صناديق الاقتراع للإدلاء برأيه و اختياره، ولكنها وسيلة قوية ويحميها وبعض عليها بالنواجذ. ويمكننا أن نعتبر في آخر المطاف أن ما حدث في الأيام الأخيرة سوى حدث عارض في طريق تركيا السريع نحو التقدم كما سطره أتاتورك، بعد أن تضمد جراحها وتدفن موتاها الذين ضحوا من أجل مواصلة الطريق.

وها نحن مجبرون كل الجبر على الاعتراف بحقيقة مرة وهي أننا البلد الوحيد الذين بقينا متعلقين بذكرى الجيش الإنكشاري الذين كانوا ينصبون الخلفاء في اسطنبول والدايات في أيالة الجزائر التابعة للإمبراطورية العثمانية آنذاك والتي كان يحكم في زمام أمورها بضعة آلاف الإنكشاريين، والذين لم يصمدوا أكثر من ثلاثة أسابيع أمام الجيش الفرنسي في جويلية 1830.

إن الانقلاب في الجزائر تم ضد الشعب الذي أقصي وتبهدل وقمع عدة مرات، ومنع من التنفس قبل أن يستنشق هواء الاستقلال حتى، فكل ما هم بالتنفس، أغلق فاه. وإن كنا نبني ك نبني كلامنا للمجهول، إلا أننا نقصد به “النظام” الذي قرر أن الشعب الجزائري لن يختار أبدا من سيسير أموره ولن يعرف شيئا عن كيف تسير ولن يعرف أبدا نتائج انتخاباته ولن يعرف أبدا مصير أمواله العمومية.

لم يسقط الجيش الشعبي الوطني من السماء لتخليص الشعب الجزائري، بل تكون من أبناء هذا الشعب الذي دفع القليل المادي الذي كان لديه والكثير من قواه المعنوية التي كانت تجعله يؤمن بجزائر العدالة والكرامة والكفاءة والديمقراطية والقيم الاجتماعية كما هو مدون في تصريح أول نوفمبر 1954. وعندما تحول هذا الجيش المحارب من أجل الحرية إلى جيش قوي وتنظيم عسكري، فإن الشعب هو أيضا من احتضنه وموله ومده بالمعلومات و حماه من تمشيط الجيش العدو.

إن الفرق بيننا والشعب التركي بدا واضحا كل الوضوح إلى درجة التحرج من ذلك الوضوح. ففي الجزائر، سيمكن في 2019 أو حتى قبلها، أن يوضع على رؤوسنا سارقا اختلس مئات الملايين من الدولارات والدينارات، أو جاهلا يتصبب جبيننا عرقا لمجرد رؤيته، أو مختلا عقليا غير واع بإعاقته ويحسب نفسه نابغة زمانه، أو خادما جبله الله على الخدمة المتفانية لأسياده أو شبحا لم يعد له وجود جسدي. وإن كان أحد هذه السيناريوهات ممكنة، فالسبب راجع إلى كون لا أحد سيحرك ساكنا إلى أن يرث الله الأرض ومن فيها….

 

* المقال صدر في 18 جويلية 2016 في ” الجزائر اليوم ” و لوسوار دالجيري.

noureddineboukrouh@yahoo.fr

noureddineboukrouh.facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى