بين الفكر والسياسة

ضاع الشرف… يا بني أمتي

بقلم :نور الدين بوكروح

ترجمة: نورة بوزيدة

 

أرواحكم تنتفض في مقابض الكهان والمشعوذين، وأجسادكم ترتجف بين أنياب الطغاة والسفاحين…فماذا ترجون من وقوفكم أمام وجه الشمس؟”

                                                                                                                                        جبران خليل جبران

 

ليس الجزائريون بحاجة إلى عقد اجتماعي واقتصادي فورا، رغم أن بطونهم تتلوى جوعا، لكن هم في أمس الحاجة إلى عقد أخلاقي لان أرواحهم للعدل ضمآى. إن الحديث اليومي للمواطن، يسري على الدوام حول موضوع لا ينضب: انه بعث الأخلاق في الحياة العمومية والدولة. إن للروح والأخلاق في الذهنية الجزائرية نصيبا أكثر من المادة. وفي إحدى أمثالهم الشعبية، يقولون: ” نعيش نهار سردوك، ولا ألف سنة جاجة”. إن الجزائريين مستعدون للسير حفاة عند الضرورة، ولتحمل الجوع والبرد إن اقتضى الأمر. لكنهم لا يقدمون على هذه التضحيات إلا عندما يشعرون حقا أنهم يعيشون في كنف دولة يطبق قانونها العادل على الجميع، حيث الثقة تامة والوئام كامل بين الشعب وحكامه، وحيث تتقاسم الأفراح و الأقراح.

إن شعبا مثل هذا بالتأكيد لا تخضعه القوة، ولا يخدعه الغش والكذب. لكنه يقاد بالقدوة والإقناع. أعطوه القدوة، يعطيكم القميص الذي يرتديه. اغرسوا فيه كلمة طيبة، تنالون منه الإجلال والتقدير. أقسطوه في التوزيع، يتخلى لكم عن نصيبه. ضعوا له أكثر القوانين صرامة، يخضع لها بثبات وعزم اذا علم أنها مشتركة وعامة، تسري على الجميع ولا تستثني أحدا. هذا هو الشعب الجزائري! هذا هو الشعب الذي ترك في التاريخ بصمات العزة والشرف مضيئة مثل اللهب الذي يتركه في دربه مذنب هالي.

قبل ألفي عام، قال سالوست، المؤرخ الذي كان في نفس الوقت حاكم نوميديا عندما كانت ترزح تحت الاحتلال الروماني: “ لا يمكن تقييد النومديين لا بتخويفهم ولا بالإحسان إليهم “. لكن هل يوجد اليوم ما يبرر مثل هذا الاعتراف بعزة النفس لدى الجزائريين، وقد أغرقنا وابل الخوف والرعاعة مقترنين، كما اغرق الطوفان بلاد سومر في عهد سيدنا نوح عليه السلام؟

لقد كان الجزائريون في كل مرة يفقدون شرفهم ويستعيدونه خلال تاريخهم المضطرب. هكذا تكون الجزائر أول بلد يعرف الاستعمار في العالم العربي الإسلامي، وأخر من تحرر من قيوده. ففي سنة 1830، سلمت السلطة أيالة الجزائر للعدو بعد واحد وعشرين يوما فقط من المقاومة. أما في سنة 1954، كان اجتماع واحد وعشرين شابا في بيت الثاني والعشرين كافيا لتحريك القاطرة التي أدَت بالجزائريين في النهاية إلى استعادة شرفهم. غير أننا في المجموع، نكون قد قضينا بالتقريب ألفية من بين اثنتين من تاريخ هذا البلد تحت نير الاحتلال.

لقد خضعت كل البلدان للاستعمار لسببين اثنين هما الاستدانة الخارجية و الانقسامات الداخلية. ونحن في الجزائر، نعيش اليوم خطر هاتين الآفتين حيث اننا نحمل عبئ ديون خارجية ثقيلة وضعتنا في قبضة صندوق النقد الدولي، بينما الإيديولوجيات التي عملت السلطة والأحزاب على بثها تدريجيا في أوساط المجتمع، ضربت وحدتنا وأحدثت فيها شرخا، ونسمع أصواتا تتعالى من الداخل والخارج وتنادي بالتدخل الأجنبي. وان لم نحذر، فإننا سنبكي يوما مثل النساء ما لم نعرف المحافظة عليه مثل الرجال، كما جاء في مقولة مشهورة لأم عندما سالت دموع ابنها الأمير لفقدان مملكته.

و الدولة الجزائرية لم تعرف كيف تمنع تشكيل جيش حقيقي من الإرهابيين، كما لم تستطع القضاء على بقاياه بعد ست سنوات من تجنيد كل طاقات الأمة. إن التيار الإسلامي الذي أنجب الإرهاب لم يعد يشكل خيارا مستقبليا، لكنه ترك مخلفات فتاكة وكأنها حقل ألغام ضد الأشخاص. لقد تكسر هذا التيار إلى قسمين: القسم الأول منه في طريقه إلى الاضمحلال، أما القسم الثاني، فقد تاب وعاد أدراجه، وهو مدين بطول حياته للسلطة التي آوته في مؤسساتها. لقد التحق موكب “ديوان الصالحين” القديم، بموكب المشعوذين الجدد، وشكلا معا طوق الرعاعة الذي سيخنق البلاد.

لكن، ما هي الرعاعة يا ترى؟ هي أن لا نؤمن بشيء ونتظاهر بعمق إيماننا به نفاقا واحتيالا، هي أن نعلم أن شيئا غير طبيعي ونتعامل معه وكأنه جد عادي لمأرب خبيثة، هي ان نصر على أن الامور على ما يرام حين ينال الاعوجاج كل شيء قصد نيل منافع خاصة، هي ان نتعمد إخفاء الحقيقة خوفا، وطمعا في رشوة، هي أن نضرب القوانين عرض الحائط دون ان نخشى من العقاب، هي أن نزور نتائج الانتخابات للتمكين لمناصرينا..

والرعاعة هي وضع أشخاص في مناصب ليسوا أهلا لها، والرعاعة هي عدم الوفاء بالعهد وخيانته، والرعاعة هي إسكات الضمائر وشراء الوفاء بثمن زهيد.

والرعاعة إذا انقضت على امة أهلكتها، وأفقدتها شرفها. إن الدولة تفقد شرفها عندما تتستر على ممارسات تخالف القانون والأخلاق، وعندما تنحاز عدالتها، وعندما يستغل ممثلوها مواقعهم من اجل الثراء. إن الإدارة تفقد شرفها عندما تحيد عن مهمتها العمومية وتصبح جهازا بين مخالب المصالح السياسية والاقتصادية لجبابرة زمانهم. اعكسوا هذا كله، تجدون الشرف. فشرف الدولة هو وضع القوانين وتطبيقها بصرامة، وشرف الدولة هو ان تكون في خدمة المواطنين بدل ان تثقل كاهلهم.

والشعب يفقد شرفه عندما ينصرف كل واحد من أفراده في حالة من الفوضى للبحث عن مصالحه الخاصة، وعندما يلقن الجميع “العفسات” و”القفازة” ويحفظها ويكررها وكأنها منافذ نجدة. إن الحلول “الشخصية” التي نطبقها في حياتنا اليومية هي بالضرورة سيئة ومضرة. قد تنقذ أفرادا، لكنها ستجهز على كيان الأمة. قد تليق بجيل واحد، لكنها ستؤذي الأجيال القادمة. إن العفسات والنكت والنصائح التي ورثناها عن جحا تتنافى وروح مجتمع عصري، ولا تليق به. بل هي سلوك انتحاري، يمس المصلحة العامة.

ربما تذرعنا في سلوكنا هذا بنقائص الدولة وعيوبها. لكنه رب عذر أقبح من ذنب! لقد أضحى من الضروري التخلي عن مثل هذه السلوكيات، والتحلي بسلوك اجتماعي سليم وجماعي. فشرف شعب هو القيام بواجبه المدني، وتسديد ضرائبه، والعمل بجد ونزاهة، ورفض الرشوة، والتنديد بالظلم والتعسف دون اللجوء إلى العنف والهدم.

إن النخب تفقد شرفها عندما تعرف الحقيقة لكنها تلتزم الصمت. وعندما لا تحتج عندما تنتهك الأخلاق العمومية، وعندما تشهد أعينها الباطل لكن رؤوسها تنحني خوفا، فشرف النخب هو تنوير الشعب وتوجيهه لتكوين حكمه على الأشياء، وترسيخ الحس المدني فيه، وهو في اخذ الرِيادة عندما يتجلى بوضوح أن الاحتجاج قصد تصحيح الاعوجاج في المجتمع، أصبح ضرورة وواجبا تاريخيين.

لقد واجه الشعب الجزائري الأزمة بكل شرف، وقام بواجبه كاملا غير منقوص. لقد تسلح عندما مدت له الاسلحة من اجل الدفاع عن حياته ووطنه. لقد انتخب بقوة. لكنه اليوم يتساءل لما كل هذه الجهود والتضحيات؟ لكن كرامته مازالت حية ولم تستسلم للامبالاة واليأس، وقد رأينا كيف رفض مؤخرا نظام تعويضات النواب وحكم عليه باللا أخلاقي. تحدث الأحزاب الشعب عن الإيديولوجيات والاقتصاد، بينما يريد هو أن يسمع حديثهم حول بعث الأخلاق في دولته، وعن النزاهة والصدق والكفاءة. وما إن التحقت هذه الأحزاب بمؤسسات الدولة، حتى أصبحت تضاهي السلطة، وتجري وراء الغنائم و الامتيازات.

وفهمنا ان هدفها لم يكن تغيير السلطة، بل الحلول محلها فقط. وقد سمعنا قبل مدة احد ممثليهم “يشتكي” في التلفزيون: “ليس النائب نقابيا، وليست مهمته استقبال الشكاوى” يبدو ان هذا السيد يريد الراتب والراحة معا..لا غير.

وانتم، يا أبطال ثورة نوفمبر، هل ستتركون كفاحكم يتلطخ، وتشوه ذكراه؟ هل سترحلون عن هذه الدنيا، والحياة فانية، دون أن تكشفوا عن الحقيقة لشعبكم؟ دون شهادة حق؟ انتم، يا من جاهدتم حقا، انتم من مازالت أجسادكم تحمل أثار الكفاح والجراح، هل انتم فخورون بحال أمتكم؟ هل سترحلون عنها وتتركونها جريحة؟ هل حررتم هذا البلد لكي تلقوا به في براثن الرعاعة؟ إن الرجل ليس من قام بدور بطولي مرة في حياته، واكتفى. فلا يُقيم الرجل بما قدم في فترة من حياته، بل لما يقوم به طوال حياته. لقد هجرت روح التاريخ أجساد معظمكم، وبعضكم حتى اصطادته شباك الرفاهية، وأغمضت عينيه ملذات حياة فانية، فأصابكم العمى والصم.

وانتم، أيها الجنرالات ذوو السلطة والنفوذ، الم تسمعوا بأن البلاد على حافة اليأس. إلا تعلمون  أن الإرهاب الذي يأخذ كل وقتكم وجهدكم إنما سيندثر من تلقاء نفسه عندما تسترجع الأخلاق مكانها في الحياة العمومية، وعندما “تسلط” العدالة على الجميع، وعندما تبعث سياسة سليمة تنفع المجتمع برمته؟ ألا تعلموا انه بدون هذا كله، لن يتوقف الإرهاب؟

وانتم، أيها القضاة، “جنود العدالة”، كيف تقبلون ان توضع مهمتكم النبيلة في خدمة الأقوياء لاضطهاد الحريات حتى و إن حدث ذلك مرة واحدة؟ وكيف تدعون الأحكام التي تصدرونها باسم الشعب الجزائري بدون تنفيذ؟ لمن يلجأ إذن الضعفاء والأرامل واليتامى، اذا تخليتم عنهن انتم، يا “أصحاب العدالة” ؟

أما انتم، أيها الزعماء الإسلاميين الذين سحرتم أبناء هذه الأمة، ورميتم بهم في جحيم الإرهاب، انتم الذين تقصدون الكعبة كل مرة “تغسلون” فيها عظامكم…وضمائركم، انتم الذين تموهون بحديثكم عن “الحقرة” وتمكرون بالسذج…ان الله خير الماكرين..

وانتم، ايها المثقفون والمجتمع المدني والصحافيون، الى متى ستتركون بلاد يوغرطة والأمير وبن بولعيد وحسيبة، تتبع قوافل النساك المزيفين، و “ديوان الصالحين” ؟ اي سحابة كثيفة هذه التي حجبت أنواركم عن هذا الشعب، وحرمته من حرارة أشعتكم؟ متى العزم على دق اجراس الخطر وكسر الطابوهات؟ قولوا لنا متى ستحررون عبقرية هذه الأمة؟

وأنتِ أيتها الجمعيات ونقابات القضاة والمحامين والأطباء؟ الم تجتمعوا سوى للدفاع عن حقوق أعضاء مهنتكم؟ هل ستغضون أبصاركم طويلا أمام الاِهانات التي انتهكت شرف مهامكم؟ ان المجتمع كيان كامل وموحد، انه كل، وليس مجرد مصالح وهيئات متفرقة ومعزولة عن بعضها البعض، لا تهب الواحدة منها إلا اذا مسها الضرر مباشرة. وفي بعض الأحيان قد تكفي كلمة حق، وشهادة حق، وموقف شجاع لإنقاذ شرف امة بأكملها.

نحن نمضي أوقاتنا ونلهي عزتنا بذكريات الماضي وانجازات أسلافنا التي نعجز الإتيان بمثلها اليوم: فريق جبهة التحرير الوطني لكرة القدم، الفوز على ألمانيا في كأس العالم، تحرير الرهائن الاميريكين… ونعيد بث أفلامنا القديمة، بمناسبة وبغير مناسبة: “معركة الجزائر”، “العفيون والعصا”، “المفتش الطاهر”… هذا في الوقت الذي تغلب فيه علينا المغرب في قضية الصحراء الغربية – وهذا على سبيل المثال فقط – : فاز بالفريسة، و “غنمنا” نحن بخيالها. والعجيب في الأمر هو ان خيال الفريسة كلف أكثر من كسب الفريسة بشحمها ولحمها. واخطر من ذلك هو ان هذه الذكريات أصبحت سببا في عجزنا وعقمنا الحاليين، لأنها حالت دون تكوين الخلف، فاصيب تاريخنا بالانسداد. نحن مازلنا نعيش بنفس الجيل الذي اتضحت عدم كفاءته منذ زمن طويل… نحن نُسير برجال منتهيي الصلاحية يُعاد “ترميمهم”!

إن الأمة التي تسكت على المنكر، والأمة التي تعلم بالاعوجاج لكنها لا تتجرا على الجهر به، تكون السفالة مصيرها، والحضيض قدرها. قبل ان يموت، قال الطاهر جاووت: “من قال مات، ومن لم يقل مات ايضا. اذن، لنقل ولنمت بعد ذلك“. إذا بقت فينا قطرة شرف.

إن السلطة ولدت صغارها الذين لا يمتلكون أنفسهم شغفا في وراثتها. إنهم قادرون على فرض بوكاسا (BOKASSA) آخر علينا في يوم من الأيام. لقد استسلم الحياء والنزاهة تحت هجمات الوقاحة والرذيلة. لقد اجبر الرجل المستقيم على السير خفية، وعلى الهمس بدل الكلام، وعلى الكدح من اجل البقاء. وان لم تبق امامنا سوى 18 شهرا قبل الدخول في الألفية الجديدة، فنحن سنبقى نعيش في البلد نفسه وبالشعب ذاته. وان كنا بالأمس فقط في حداد، فان الأمل أصبح اليوم يسري في نفوسنا، وقد امتلأت افئدتنا بفيض روحي، وهبت ريح الاخلاق في أشرعة بلادنا…المذنبون يرتعدون، والأبرياء يأملون…إنها السنوات والمواعيد والتواريخ تتوالى: اكتوبر 1988، ديسمبر 1991، نوفمبر 1995، جوان 1997،… لكن باءت كل هذه المحاولات بالفشل، والجزائر تهدر وقتها… ودم ابنائها.

إننا شعب فتي وكله شباب، التحق مؤخرا بشؤون الدولة، ولم يعرف بعد التنضيد الاجتماعي اما وحدتنا المعنوية، فهي لم تترسخ بما فيه الكفاية لكي لا تزعزعها الإيديولوجيات، وتسيل عليها كالماء على أجنحة الطير. الأكيد انه بعد ثلاثين سنة، سينفذ البترول، لكن ديوننا قد تبقى. إن الوقت الذي بحوزتنا إذن ضيق جدا لبناء دولة قانون حقيقية، واقتصاد متحرر من ديونه، وقادر على تلبية حاجيات الجزائريين مع ضمان كرامتهم، ومجتمع متجانس ومتماسك لا يفرقه المشعوذون ولا يغرونه.

نحن بحاجة إلى طاقة أخلاقية جبارة لكي ننسلخ من الخساسة التي نغرق فيها كل يوم أكثر. نحن بحاجة الى قوة مثل التي يستلزمها إقلاع صاروخ في الفضاء، سرعة الانطلاق الضرورية للتغلب على الجاذبية…الأرضية.

تبدو الجزائر في أحسن حال لمن يراها من فوق، لكن من يعيشها من “الداخل”، يعرف أنها في أسوأ حالتها. انها تغلي، وشعبها يزمجر غضبا.

إنها في غنى عن عنف جديد يقضي عليها. ان تدميرا جديدا لبلادنا معناه أن الشرف ضاع منا إلى الأبد…يا بني أمتي!

نشر في جريدة الخبر: 04 اوت 1998-في الوطن 30 جوان 1998

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى