أراء وتحاليلاتصالالعالم

قصة دبلوماسي امريكي تحكي لنا كيف كانت ليبيا وكيف أصبحت

فادى عيد*

في صباح أحد الأيام بالاسبوع الأول من شهر مايو 2008 وبينما كان القذافي مجتمع برئيس وزرائه البغدادي المحمودي في خيمته بمعسكر باب العزيزية، دخل احد الحراس الشخصيين للقذافي واعطاه ورقة صغيرة كانت تقول ان عبد الله السنوسي يريد مقابلتك لأمر هام جدا على انفراد.

وعند وصول مدير المخابرات الليبيية وقت النظام الجماهيري، وزوج أخت صفية فركاش الزوجة الثانية للعقيد معمر القذافي واليد اليمنى له عبد الله السنوسي لباب الخيمة، طلب القذافي من رئيس وزرائه البغدادي بمغادرة المكان، وجلس السنوسي  بدلا منه، فسأله القذافي ماذا بك يا سنوسي ؟

فتحدث السنوسي عن رصد الأجهزة الأمنية لإتصالات من مدينة جادو (شمال غرب ليبيا) بالسفارة الامريكية في طرابلس، وأن المتحدث من جادو كان يشتكي للسفارة الامريكية من سوء معاملة النظام الليبي للأمازيغ، ومنعهم من التحدث بلغتهم وقمع تراثهم ومضايقتهم.

وبعد أن انهى السنوسي حكيه للقذافي عن تلك المكالمات، طلب القذافي من مدير مكتبه احمد رمضان بإعداد زيارة له لمدينة جادو، ودعوة كل أعيان وقيادات الأمازيغ في جبل نفوسة لحضور ذلك الاجتماع الكبير، حتى أن أبلغ الأمازيغي سعيد حفيانة يوم 15 مايو 2008 أعيان الامازيغ بنالوت وبكاباو بمجئ القذافي ليجتمع معهم.

وفي يوم 17 مايو 2008 وصل العقيد معمر القذافي لمدينة جادو وتحدث للأمازيغ، وقال لهم انتم عرب أقحاح واصولكم من شبه الجزيرة العربية، وهاجرتم الى ليبيا قبل الاسلام بمئات السنين واستشهد بكتاب “حول عروبة البربر: مدخل إلى عروبة الأمازيغيين من خلال اللسان” للباحث العمانى سعيد بن عبد الله الدارودى، والذى اهتم ببرهنة عروبة البربر (الأمازيغ) من خلال اللسان، وهو الكتاب الذى شرح فيه الباحث العماني التشابة بين لهجة الامازيغ باللهجات القديمة الظفارية والقحطانية في جنوب شبه الجزيرة العربية، بعد أن وضع قاموس مقارن بين مفردات البربرية (الأمازيغية) واللغة العربية، فى أربعة فصول شكّلت القسم الأكبر من الكتاب الذى يحتوى على 346 صفحة.

وفى تلك الاثناء كانت السفارة الامريكية في طرابلس ترسل تقاريرها الى واشنطن حول عزمها التحرك ولقاء قيادات الأمازيغ في عاصمتهم غير الرسمية مدينة زوارة (تقع على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، تبعد عن العاصمة طرابلس حوالي 120 كم غرباً وتبعد نحو 60 كم عن حدود تونس) وكذلك المتواجدين في مدن الامازيغ في جبل نفوسة أو الجبل الغربي (اقصى شمال غرب ليبيا).

حتى تحدث نائب السفير الامريكي جون كريستوفر ستيفنز (وهو الشخص الذى عمل بعد ذلك كسفير للولايات المتحدة في ليبيا منذ مايو 2012 حتى وفاته على يد مجموعة ارهابية فى بنغازي بتاريخ 11 سبتمبر عام 2012) صراحة مع احمد عياد مدير الدائرة الأمريكية بالخارجية الليبية، وقال له انه يرغب في لقاء عدد من قيادات الأمازيغ في زوارة، ومن بينهم امين المؤتمر الشعبي في المدينة حول التراث الأمازيغي وتقاليد الأقليات في ليبيا، وكان رد احمد عياد ان ليبيا لا يوجد بها امازيغ وكل الليبيين عرب، واعتبر عياد أن هذا التصرف تدخل في الشؤون الداخلية وانتهاك للسيادة الليبية، وسأل عياد موجها سؤاله لستيفنز، هل تسمحون لسفارتنا في واشنطن بالتحدث للأقليات في امريكا من السود والهنود الحمر والتشيكانو؟ وطبعا كان الصمت الذى يصل لدرجة الخرس هو اجابة ستيفنز على احمد عياد.

وفي بداية يونيو 2008 اوقفت سيارة مدنية موكب نائب السفير الامريكي كريستوفر ستيفنز في طريق المطار (طرابلس)، وخرج منها شخصان وطلبوا الاوراق الرسمية للدبلوماسيين الامريكان وتصاريح الأقامة، وعندما سأل نائب السفير عن هويتهم، قالوا له نحن تابعين للأمن الخارجي، وطلبوا منه ان يرافقوه الى المطار.

وفي مكتب الامن الخارجي بالمطار جلس نائب السفير ومعه ضابطي اتصال بالسفارة، وكان امامه مدير المكتب واطلع على اوراقهم وتصاريحهم، وقال انه سيتأكد بنفسه من صحة الاوراق واجرى عدة اتصالات ثم سألهم عن سبب ذهابهم الى سبها، ولم ينتظر منهم أجابة حتى قال لهم عودوا الى سفارتكم ويجب عليكم ابلاغنا المرة القادمة قبل 48 ساعة من الخروج من طرابلس.

وفي يوليو 2008 اصدرت الخارجية الليبية بيان لجميع السفارات الأجنبية بمنع اي دبلوماسي اجنبي من الخروج من مدينة طرابلس الكبرى، ومحددة بدائرة قطرها 70 كم، وبذلك الشهر جلس في مأدبة عشاء في احد المطاعم بطرابلس دبلوماسي اميركي بصحبه دبلوماسي مصري وآخر تونسي، وتحدث الامريكي عن اجراءات الخارجية الليبية ومنعهم من الخروج من طرابلس بغضب وانفعال شديد، حتى سأله الدبلوماسي التونسي وماذا ستفعلون؟

فأجاب الامريكي نحن سنلتزم بالقرار، فضحك الدبلوماسيان المصري والتونسي وقالوا نحن نذهب الى اي مكان في ليبيا ولا يوقفنا احد.

وحينها ادرك الامريكي أن قرار الخارجية الليبية المقصود منه هو وحده دون غيره، وان الامن الليبي على علم بكل ما كان يدور بين السفارة الامريكية فى طرابلس وبعض القيادات الامازيغية، والاخطر هو ما كان يحضر له الامريكي فى المستقبل القريب عبر هولاء.

 

وفي اواخر يوليو 2008 اوقفت اجهزة الأمن الليبية دبلوماسي امريكي في الطريق الساحلي قرب صبراتة، وبعد التحقيق معه قال انه ذهب للإلتقاء بقيادات الأمازيغ في زوارة، فتم إعادته الى طرابلس، بعد ان سحبوا منه كل اوراقه وتسليمها للإستخبارات الليبية.

وبعد يومين ارسلت الخارجية الليبية رسالة رسمية بأن الدبلومسي الامريكي الذي قبض عليه خارج مدينة طرابلس غير مرغوب فيه، وعليه ان يغادر الأراضي الليبية خلال 48 ساعة بسبب خرقه لتعليمات السلطات الليبية وتدخله في الشؤون الداخلية للبلاد، كي يعود الدبلوماسي الامريكي لبلاده فى أول اغسطس 2008.

وتمر الايام والشهور والسنين، وتحمل معها مفاجئات قاسية وسيناريوهات ومشاهد غير متوقعة، وتضرب ليبيا فوضى عارمة، ويغتال القذافي، كي يتم التخلص من الصداع المزمن الذى كان ملازما لادمغة ساركوزي وبيرلسكوني لسنوات، و يغتال السفير الامريكي كريستوفر ستيفنز على يد صبيان وزير خارجية بلاده هيلاري كلينتون، وتصبح ليبيا مرتعا للتنظيمات الارهابية ومن يدعمها من اجهزة استخبارات دولية.

وتتحول ليبيا الى فراغ أمني وسياسي كبير، بعد أن كانت تزعج الفرنسي كثيرا فى مستعمراته القديمة بافريقيا، فى ظل الحضور الليبي القوى بافريقيا بعهد القذافي، وهو الفراغ الذى لم تعوضة اي دولة عربية حتى الان، بل ملئ مكانه الفرنسي والاسرائيلي والتركي بأمتياز.

وتمر سنوات أخرى كي يأتى يونيو الماضي لمحاولة استعادة ولو جزء من كبرياء الدولة الليبية، عبر تحرير درنة والهلال النفطي.

ويا للعجب، وللماضي الذى احيانا يستدعيه الحاضر لكشف ما بخبايا، فبعد تحرير القوات المسلحة العربية الليبية للهلال النفطي، وقرار القيادة العامة لتسليم موانئ النفط للحكومة المؤقتة والمؤسسة الوطنية للنفط ببنغازي (شرق ليبيا) بدلا من حكومة الوفاق (بطرابلس)، التى كانت توزع عائدات النفط على التنظيمات الارهابية، حينها جن جنون حكومة روما بطرابلس المسماه بحكومة الوفاق، حتى خرج مصطفى صنع الله رئيس مجلس ادارة مؤسسة النفط الليبية (طرابلس) يوم 25 يونيو الماضي، بعد ساعات قليلة من اعلان القيادة العامة لتسليم الموانئ النفطية لبنغازي، وصرح قائلا: “لا يوجد اي اختلاف بين القيادة العامة والارهابي ابراهيم الجضران (من هاجم حقول الهلال النفطي)، وعلى الجيش اعادة الموانئ لمؤسسة النفط في طرابلس”.

وحينها شعر بعض من فى طرابلس بالحرج بسبب تصريحات صنع الله، فلم يمر سوى ساعات قليلة على معركة كبرى بالهلال النفطي، قدم فيها الجيش الليبي شهداء وجرحى وتضحيات كبيرة للمرة الثانية لتحرير نفس الهلال النفطي، فى ظل عدم تحرك طرابلس، وفى الوقت الذى يبارك فيه المجتمع الدولي خطوة الجيش، لم يستطيع صنع الله ان يمسك بمشاعره، وفلتت اعصابه تماما، كي يصرح بما صرح به، ولكن لم يكن ذلك لسان صنع الله، بل لسان من يحرك كل عرائس المارونيت بروما.

وبعدها أجرى صنع الله كل الاتصالات المحلية والدولية للتدخل واجبار القيادة العامة على اعادة الموانئ له، حتى سافر صنع الله يوم 3يوليو الجاري الى تونس، كي يجتمع مع القائم بالأعمال المؤقت بالسفارة الأمريكية لدى ليبيا جوشوا هاريس، وطلب منه صنع الله بتوسل التدخل لإعادة الموانئ النفطية لمؤسسة النفط في طرابلس.

 

ويا لذلك المشهد! ويا للتاريخ!

أتعلمون من هو جوشوا هاريس؟

أنه الدبلوماسي الامريكي الذى طردته الخارجية الليبية في بداية اغسطس 2008 بعهد القذافي،  بسبب تدخله في الشؤون الداخلية للدولة الليبية.

كي يقول بعدها لم أتخيل أن يأتى يوما وأرى فيه مسئول ليبي يتوسل لي للتدخل فى شئون بلاده.

فالمدعو مصطفى صنع الله هو ومن على شاكلته من أناس فى وطننا العربي، أناس يقولوا منهجم هو الاسلام السياسي، وغايتهم استاذية العالم، ودستورهم هو القرأن، ولكن من ينظر لتجارب هولاء منذ نشأتهم، يدرك أن هولاء لم يكن لهم هدف الا تدمير أوطاننا، وتسليم بلادنا لمن صنعوا هولاء.

فلم نكن نتخيل يوما ان تدمر أوطاننا بحجة الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، ويظهر أناس من وسطنا ومن دمنا ومن بني جلدتنا ويتكلمون بنفس لساننا، يكفروننا، ويقتلوننا، ويسلمون بلادنا لاعدائنا بأبخس الاثمان.

نعم لم تسقط أوطاننا الا بفعل هولاء الخونة، ولنا فى سوريا واليمن والعراق وليبيا قصص لا أول لها من أخر.

 

*الباحث والمحلل السياسى بقضايا الشرق الاوسط

fady.world86@gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى