بين الفكر والسياسة

لم نعد دولة، بل…..

بقلم : نورالدين بوكروح
ترجمة : نورة بوزيدة

“السن بالسن والعين بالعين و… الشتم بالشتم”. في بعض الأحيان، يتوجب علينا الرد بالمثل لكي يتحقق العدل والإنصاف. فالصور والفيديوهات التي شاهدنا فيها السعيد بوتفليقة وعلي حداد وسيدي السعيد يتشدقون ضحكا وبدون حياء والمقام مهيب حيث كان الجمع في مقبرة العالية خلال جنازة السيد رضا مالك صدمتنا وجرحت أحاسيسنا كلنا إلى درجة ربما لن يدركوها مهما فسرنا لهم الثلاثة أن وجوههم المنتفخة كانت مشهدا مريعا، وأن ضحكاتهم قصفت كالرعد في مكان آمن ومهيب ومقدس، وذكرتنا بالصوت الشنيع الذي يميز الضباع أمام جثة هامدة، وهم يظهرون للملأ في نفس المشهد المقرف قلة حياء وأسنان متهرئة.

ماذا يا ترى كان وراء ذلك الضحك واللمز الفاحش في ذلك المكان وذلك الوقت، رافعا الستار على حقيقة هؤلاء الأشخاص والتي كانوا يحجبونها نوعا ما بالاختباء في “الظل” إلى يومنا هذا؟ وحقيقتهم أنهم أشخاص ينتهكون المقابر والذاكرة الوطنية، وأنهم صعاليك لا يعرفون كيف يتحكمون في أنفسهم أو على الأقل الإيهام بذلك، ويدوسون بأقدامهم الآخرين والتقاليد والأعراف التي تلزمنا احترام الموتى والمقابر.

وذكرتني إحدى الصور على الخصوص بالفيلم الفكاهي الفرنسي المشهور« Les Corniauds » ، أي البلهاء، الذي لعب فيه لويس دي فوناس وبورفيل (Louis de Funes et Bourvil) مع الفرق الكبير أن هؤلاء يمدون الفرحة لمواطنيهم بالفكاهة منذ عشرات السنين، لكنهما كانا يفعلان ذلك في أفلام فكاهية وليس في المقبرة التي يرقد فيها أبطال أمتهم. فكان وجها الرجلين يتسمان بالسماحة والفرحة حتى عندما يقومان بالمقالب للآخرين ولبعضهما.

أما ضحكات بلهائنا، فإنها لم تحمل زهوة الحياة بل تنم عن أرواحهم الدنيئة والعديمة التحضر. وكانت تبين رغبة شريرة في القتل وإلحاق الأذى. بتلك الضحكات، بعث الثلاثة رسالة للأمة التي تنتظر بشغف كيف سينتهي العراك المفتوح بين السيد تبون وحداد حيث يفهم الجميع أنه تم غلق الملف وأن الذئاب ستقطع من “خولت له نفسه” أن يهاجم “رجل الأعمال”. لكن أظن أن ذلك ليس هو السبب الوحيد الذي يفسر تلك القهقهات المشينة والمسترسلة في وجه البلاد كلها.

الأحرى أنهم كانوا يضحكون سخرية وهم يتذكرون كل من هم في مقابرهم واللذين “دفنهم” بوتفليقة، وكلهم وجوها صنعوا الثورة واحتفظوا بماء وجه الاستقلال من بعد ذلك. الأحرى أنهم كانوا يستهزؤون منا وهم يعلمون السهولة التي استحوذوا بها على خيرات الجزائر التي لا تعد كونها بالنسبة لهم بقرة حلوبا. والأحرى أنهم كانوا يستهزؤون بالوزير الأول الذي جاؤوا لدفنه وهو من أبرز وجوه اتفاقيات إيفيان، دافنين بضحكتهم واستهزائهم تلك الصفحة التي كرست نضال الشعب وأصبحت الجزائر دولة مستقلة سيدة بعد أن كانت كومة من “الأشياء المستعمرة”. والأحرى أيضا أنهم كانوا يضحكون من الوزير الأول الحي والذي سيأتي دوره لكي يدفن لأن “نفسه الأمارة بالسوء” خولت له أن يهاجمهم. ماذا دهاه؟ واش أداه؟ واش “حاسبات لو؟”

كان السيد تبون واقفا على بضعة أمتار منهم، والسعيد بوتفليقة يتوسط علي حداد وسيدي السعيد (وبالزيادة، لازم نقولو لو “سيدي” !) وعلى وجهه علامات الأسى حزنا على السيد رضا مالك و حزنا على نفسه لأنه يدري أن “وفاته” هو أيضا قريبة.

و من الممكن أيضا أنهم كانوا يتضاحكون من كل السذج المساكين الذين آمنوا أنه ظهر تحت سماء الجزائر “زورو” سيقضي على الفساد بكلمة واحدة وأنه “سيفصل المال القذر عن السياسة” بقرار بروتوكولي، وبأنه يستطيع الفصل بين “السعيدين” و “البويغ الجزائري” (Le Bouygues algérien) وبأنه سينقذ أخيرا الصالح من يد الطالح في بلادنا. يا لها من أوهام وشعوذة وسذاجة …. لا يؤمن بمثل هذه الخرافة سوى من لا يعرفوا النظام الجزائري، من لا يعرفوا أن الوزير الأول لا يمكنه أن يكون “زورو” لا يمكنه تحريك حجرة ولو صغيرة من بنيان اللعبة السياسية، كما لا يمكنه معاقبة موظف سامي أو ترقيته، دون أن توافق الرئاسة. إن كل من قال “يحيا تبون” بعد أن سمعها آل بوتفليقة، يعني “الموت لتبون !”.

والحقيقة أنهم كانوا يتضاحكون منا جميعا، حيث أصبحنا في أعينهم “كومة سافلة من الأشياء المستعمرة”، نقبل بكل شيء وننتظر الخلاص من الله بأن يرسل لنا مهديا أو “زورو” اسمه بوضياف أو تبون. حمل الضحك التهكمي الذي صعقنا يوم الأحد الماضي تحديا للعقل والأخلاق في المقبرة التي دفن فيها الأمير عبد القادر وبن مهيدي والرؤساء الذين حكموا الجزائر… هناك، في مقبرة العالية، تحدتنا السفالة وقالت لنا كلنا : “دزوا معاهم”.

إنه الدليل، لمن ما زال يحتاج إلى أدلة، أنه في المستقبل سيكون من الأسهل على من يريد أن يفصل الدولة عن الدين، وأن يفصل بلاد القبائل عن الجزائر، وأن يفصل الجزائريين عن الجزائر ويدفع بهم إلى الهجرة برا أو بحرا، في قارب أو عوما، شرعيا أم لا… سيكون كل ذلك أسهل من أن نفصل المال القذر من السياسة، لأن عائلة بوتفليقة جعلت منهما، أي السياسة والمال القذر، كيانا واحدا وملتحما، ضاحكا ومتهكما.

إنها الرسالة التي أرادنا السعيد بوتفليقة أن نتلقفها منه رسميا وعلنا. ولم يأتي إلى جنازة رضا مالك في موكب رسمي وفي سيارة رئاسة مدرعة، وتحت رعاية مدير بروتوكول الرئاسة وكل حراسة الرئيس سوى من أجل أن نفهم الرسالة بكل وضوح. إنه ولي العهد الذي يظهر لأول مرة أمام الشعب في رداء الرئاسة وأشرك في ذلك المظهر علي حداد وكأنهما في حفل زفاف ملكي.

لقد خرج بهذه “الخرجة” لأننا نعيش المرحلة الأخيرة قبل “انتخاب” 2019، ومن الضروري أن بتحقق من صلابة الأرض تحت أقدامه كي لا تزل وهي الأرض التي عملوا على اكتسابها منذ عشرين سنة. وأراد أن يتأكد مما إذا كانت هناك مقاومة ما ومناهضة ما لفكرة عهدة خامسة أو حكم وراثي بين الأخوين، لأنه بالنسبة للنظام، ممنوع التفكير حتى في سيناريو آخر.

وبالفعل، كانت تصريحات تبون ستسمح بشيء لم يتوقعوه وستخلط الحسابات بما أن بعض أعضاء النقابة الوطنية سارعوا للقول باستعدادهم عن التخلي عن سيدي السعيد وبعض أعضاء منظمة منتدى أرباب العمل من جهتهم استعدوا للإعلان عن الموت السياسي المفاجئ لحداد. فكان من الواجب أن تكون ردة الفعل سريعة وقوية توقف الهيجان الذي كاد أن يحصل وبأن يقبض من جديد بزمام الأمور بيد من حديد. وفي الحقيقة، فإن كل من كانوا يستعدون “لدفن” سيدي السعيد وحداد هم من سمح لهما ولآخرين “بالركوب على رؤوسنا” لأنهم هم القطيع الرحالة الذين جعلوا من الخيانة و الخضوع مهنة العمر، يسارعون في الإجهاز على من يرونه ساقطا أرضا ويسرعون في التبجيل بأي حمار يؤمرون بعبادته.

إن عبد المجيد تبون من أقدم المسايرين لحكم بوتفليقة من الداخل، ويعرف أتم معرفة حكايات “ألف ليلة وليلة” الجزائرية وحكايات جحا وقصص عائلة بوتفليقة أكثر من غيره. ومن هنا، يسمح لنا أن نفهم أنه لم يرتكب خطا ولم يفهم غلطا ولم يرد الانتحار. لم يقدم وحده بدافع فروسي انتابه فجأة في آخر عمره بأن يقرر الهجوم علنا على عالم “ليزافير” في الجزائر الذي ولج عالم السياسة منذ عقود وهرب ملايير الدولارات إلى الخارج.

لا يمكننا تصور الرجل يتعدى الحدود التي رسمت له كما لسابقيه، ولن يتجرأ على القيام بشيء لم يسمعه جيدا من طرف رئيس أو حتى تأويل تعليماته أكثر مما يلزم. إنه يعلم حق المعرفة أن منصب الوزير الأول لا يعني شيئا، خارج بعض المزايا المرتبطة به، ويعلم أيضا أنه لا يملك القرار والتحكيم، وأنه فقط مظهر من مظاهر الشكليات والبروتوكول الذي يواجه به النظام الرأي العام، بل ويعلم جيدا أنه قد يبقى سنوات عديدة في منصبه دون أن يمارس أي سلطة أو يلعب أي دور. إنه في الحقيقة منصب تشريفي كما هو الحال لرئيس مجلس النواب ومجلس الأمة وكل الهيئات المدنية في البلاد.

ونستنتج أن الرئيس قد أمره فعلا وبوضوح تام أو شبه تام في هذا الاتجاه، وإلا ما كان ليقدم على فتح “حرب الستة أيام” التي يعلم أنه سيخسرها مسبقا. لن يكون أبدا السيد تبون ليأمر لرئيس البروتوكول بمنع رئيس رجال الأعمال من الحضور في نشاط قد دعي إليه، لكنه إذ فعل، إنما لأنه كان من المستعجل أن يمد بدلائل على أنه يطبق توجيهات الرئيس سريعا، كما صرح أيضا مساعديه المقربين fiقي الوزارة الأولى.

ماذا حدث إذن بين الإعلان عن التغيير في سياسة منح المال العمومي لرجال الأعمال الذين “لا يحترمون القوانين ويسربونه إلى الخارج” ويوم الأحد حيث أصبح الأمر يعلق عليه على أنه “زوبعة في كأس؟”

هل وقع السيد تبون في فخ خلال أيام معدودة؟ هل يعتبر تعيينه غلطة مثلما حدث الأمر مع مسعود بن عقون المسكين، الذي توزر السياحة كمن يذهب في يوم عطلة نهاية الأسبوع في سياحة خفيفة؟ هل دخل تبون بين الظفر واللحم؟ هل لحداد “أكتاف” بهذه القوة والعرض مع أننا رأيناه كيف كان يبكي ويشكي مدة أسبوع إلى أن أعاد له السعيد بوتفليقة “الروح” من جديد من مقبرة، كما كان يفعل المسيح عليه السلام عندما يحي الموتى أمام الجموع المذهولة؟ أم أن بوتفليقة عبد العزيز وبوتفليقة السعيد اتفقا في مخطط طبقاه على ظهر تبون؟

بالفعل، بعد أن أقام الدنيا ولم يقعدها بتصريحاته الجريئة، تراجع السيد تبون وارتجل لقاء عمل بحجة تنظيم “الثلاثية” المقبلة. لكن، على ما يبدو، لم يكف ذلك لكي يرتاح “الثلاثي الشيطاني” حيث لم يتأكدوا بأن الجميع قد فهم من تراجع تبون نهاية القضية، وأنه ليس “زورو”(Zorro) بل “صفرا” (Zero)لا قوة له ولا حول، وأنهم هم من يعلون وينزلون من شاءوا وكيفما شاءوا.

خافوا أن يفهم القطيع السياسي الذي يحوم حولهم أن الأمر جادا، وخافوا أن تواصل وسائل الإعلام في الحديث عن الموضوع، وخافوا أن يلاحظ “الملاحظون” ويأمل الشعب في هواء نقي يستنشقه بدل الهواء الذي يحبس أنفاسه اليوم. وما من مكان أفضل من مقبرة لكي يدفن تبون معنويا، ويذل ويقزم أمام الملأ؟

لم يكن لديهم الخيار حيث لو تركوا الأمر لبضعة أيام، لتفاقم الوضع وتزعزعت صورة السعيد بوتفليقة في أذهان الشعب حول قوته ونفوذه داخل السلطة.الأن يعرف العالم بأسره وليس فقط الجزائريون أنه في “المرادية” منبعين للسلطة على الأقل، وأن سلطة السعيد أقوى من سلطة أخيه الذي لم نعد نعلم عنه شيء. كما أثبتنا لأنفسنا مرة أخرى أننا لسنا شعبا لكن جمهورا يصفق لكل “البوسعدية” و”ديوان الصالحين” والموبيتشو(Muppets show) الذين يضحكون منا بدل أن نضحك منهم.

إننا لم نعد دولة، بل كومة من الأشياء. كلنا ! أمازيغ وعرب. سنيين وإباظيين. مسيحيين وملحدين. معربين و مفرنسين و متحدثين بالأمازيغية. تقدميين و إسلامويين. مجاهدين مغشوشين وحركة حقيقيين. صغار وكبار…

إننا كلنا منشفات تمسح علينا أرجل قذرة. حينا تمسح علينا “بلغات” الإسلامويين وتارة “قبقاب” الوصوليين الذين استطاعوا بروحهم الشيطانية الركوب على رؤوسنا بتواطؤ القادة العسكريين والمخابرات الذين جعلوا منهم مسؤولين سياسيين واقتصاديين ونقابيين، “شئنا أم أبينا”، “دراع ولا ملاحة” !

وهذا سيدوم إلى أن تنتهي فترة “الجزائر المستقلة” التي سقطت بين أيدي قراصنة العصر الحديث، وستليها فترة استعمار جديد، وستنهض مجموعة “22” أخرى… لكن لا ندري متى سيحدث هذا الأمر في التقويم البربري الذي نعيش منه سنة 2967. الأكيد أنه سيحدث خلال الألفية الرابعة من تاريخنا البربري الطويل والطويل جدا…

أما بالنسبة لي شخصيا، فلن أنافقكم بأن أقول “حشاكم”، ولن استعمل الديبلوماسية بأن أقول “حاشا ألي ما يستاهلش”، إننا اليوم “كوما” راضيا بكل شيء بدل أن نكون قوما حقيقيا. لن أقول لكم كما قلت في شهر مارس 1990 بأننا “لسنا مجتمعا بل غاشي”. كانت سذاجة مني بأن ظننت أننا سنشكل قوما ومجتمعا ودولة.

لقد قبلنا بكل الانتهاكات وبكل الاستهزاءات وهدرت قيمتنا بين الشعوب يوما بعد يوم وفقدنا 200 % منها كما هو حال الدينار امام اليورو. إننا نتجه مباشرة إلى باب الخروج من التاريخ الذي أخذ، مع الشعوب الأخرى، طريقه نحو الأمام، نحو التقدم، نحو الحرية والحضارة. ولن ينظر إلينا التاريخ والشعوب إلينا بعدها بنظرة استهزاء فقط، بل بازدراء واحتقار!

كانت المرة الوحيدة التي التقيت فيها السعيد بوتفليقة عندما كنت عضوا في الحكومة سنة 2001، خلال تنقل لعبد العزيز بوتفليقة إلى مدينة البليدة. وبينما كان هذا الأخير يتقدم الموكب ويصافح كعادته الجمهور المحتشد على حافتي الطريق، كان الوفد الوزاري يمشي وراءه وأنا بينه. وبينما كنت أتبادل أطراف الحديث مع عبد الحميد تمار، تفاجأت بسماعي جمعا من المواطنين يهتفون باسمي. وأمام دهشة تمار، قلت له بشيء من الإحراج أن الناس يعرفونني بسبب تواجدي في الحياة السياسية منذ مدة. ونحن كذلك، رأينا السعيد بوتفليقة يقترب مني قائلا : “عندك شعبية يا سي نورالدين” فأجبته نفس الجواب : “لا، هذا فقط لأنهم يعرفونني…” و من ذلك اليوم، لم يدعني الرئيس بوتفليقة للمشاركة في زيارة ميدانية معه عندما يبرمج لقاء مباشرا مع الجماهير.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى