بين الفكر والسياسة

ماذا نفعل بالإسلام؟

بقلم نور الدين بوكروح

ترجمة فرحات بوزيان

تذكرنا محاولات كل محتل أجنبي أو مستبد محلي، على مر الزمان واختلاف المكان، و هو يحاول طرد الإسلام من الحياة العامة أو يضيق عليه الخناق ليجعله كأثر في متحف، بالمثل الفرنسي القائل:”طاردوا الفطرة ،إنها تعود بسرعة البرق!”ومن كثرة ما تكرر هذا النداء مرارا و تأكد مُسقطا على الإسلام،أصبح وكأنه حكمة، بل لنقل قانونا، إلاّ انه لطالما قُوبل بردة فعل عارمة.

عندما كتب، منذ ثلاثة قرون، مونتسكيو  Montesquieuأطروحة بعنوان ” تأملات في أسباب عظمة الرومان وانحطاطهم”،أراد أن يشرحها بأمثلة تناقض موضوعه، فقال:” يستطيع ملك من ملوك الفرس أن يجبر ولدا على قتل أبيه، أو أن يجبر أبا على قتل ولده، لكن لا يستطيع أن يجبر رعيته على شرب الخمر.توجد في كل أمة روح عامة تبنى عليها السلطة، عندما تريد هذه الأخيرة زعزعة هذه الروح، فإنها تهتز هي بدورها،وتنهار  لا محالة.

لو اخذ شاه إيران بعين الاعتبار الرُؤى السديدة لمؤلف” رسائل فارسية” (مونتسكيو)لأنهى أيامه في وضع غير وضع قابيل الهارب من عقاب جيوفا-الرب- ، لكن في غمرة نشوته بالاحتفال بطقوس داريوس Darius، لم يشعر أن الأرض الإسلامية تتحرك تحت قدميه ، وها هو الفرنسي كلود ليفي ستروس Claude Lévi-Strauss،يأخذ العبرة من الأحداث بدلا عنه فيقول:” هناك شيئان ، لا يمكن أن نجعلهما يتراجعان: الإسلام و التبغ“.

و ها هو أيضا المؤرخ السويسري يعقوب بورخاردت Jacob Burckhardt الذي كتب في نهاية القرن التاسع عشر قائلا:” من لا يريد إبادة المسلمين ، أو لا يجد الوسائل لفعل ذلك،الأفضل أن يتركهم وشأنهم، لأنه يمكننا الاستيلاء على أراضيهم الجرداء لكن لن نستطيع أبدا إخضاعهم لدولة غير دولة القرآن“(“تأملات في التاريخ العالمي”).

كما يشهد شارل أندري جوليان Charles-AndréJulien في كتابه ” إفريقيا الشمالية تسير: القوميات الإسلامية والسيادة الفرنسية” على أن الجزائر لم تسجل ما بين 1865 و 1934 إلا 2500 حالة تجنيس، أي بمعدل 36 حالة كل سنة.، ولا يعود ذلك لوطنية راسخة  في النفوس بقدر ما هو التشبث بوصية النبي صلى الله عليه و سلم و التي لم ينسها أحد من المسلمين “لا ترجعوا بعدي كفارا...

يبدوا أن دور الجزائريين حان ليواجهوا السؤال الكبير والوحيد الذي ينخر الوعي الإسلامي في صراعه مع إشكالية الحداثة: “ماذا نفعل بالإسلام؟ ” هل علينا إدماجه أم تفكيكه ؟ هل نمزجه في الاسمنت المسلح الذي نبني به الأساس أم نعتبره أمرا ثانويا لا يتجاوز الطلاء و الديكور؟

في الجزائر، الكل يعلم أن الإسلام يُعد، بعد الأوكسجين، العنصر الأكثر ضرورة للحياة، المتجذر في أعماق اللاشعور الجماعي، و الأكثر تقديسا في الجينات العميقة، لا يمكن المساس به في أي خصومة. لا يمكن تبديله و لا العبث به، و مع مرور الزمن تزاوج مع الطباع و السلوكيات، ليتجسد في النهاية ممزوجا بمحاسن و مساوئ سكان هذا البلد.

إن الحياة الدنيا في المنظور الكوني للجزائري البسيط ، رغم إغراءاتها، ليست سوى مرحلة امتحان للولوج إلى عالم الخلود. الأربعة أو الخمسة ملايير سنة من عمر النظام الشمسي لم تكن في نظره سوى مضيعة للوقت مقارنة بالألف وأربعمائة سنة بعد مجيء الإسلام. الأمة الوحيدة التي لها قيمة لديها هي أمة محمد(ص)، و مقامنا فوق الأرض فقط ليحاسبنا الله على كل أفعالنا وحركاتنا: فالرحمة والعفو و السكينة للمسلمين، و القصاص و العقاب لغيرهم.، بالنسبة  للإنسان الجزائري،” الحل الإسلامي” الذي اخفي وابعد عنه “ظلما” هو المدينة الفاضلة التي تختفي فيها المظالم و المتاعب تلقائيا.

في الحقيقة ، هذا البورتريه ليس فريدا وخاصا بالمسلم عموما و الجزائري خصوصا، لكنه يتعلق بكل حالة نفسية نراها تتحدد بقوة بفضل نوعية التفكير والتوظيف الديني، و هذا لا يعني أن هذه الحالة عندما تتعلق بحالات فكرية معقدة أو توظيف عقلي أنها تفقد خصائصها و دوافعها الأصلية.

كل ما سيحدث هو تركيبة جميلة للــ” الروح العامة المحلية”و” الحداثة العالمية” كما رأيناه في حالة اليابان، و الصين أو النمور الجدد التي نجد بينها” ماليزيا” و هي دولة  مسلمة .

و هذا ما أشار إليه خوسيه اورتيغا إي غاسيت Jose Ortega Y Gasset في كتابه ” أفكار و معتقدات « Idées et croyances:”نحن لا نملك معتقدات بل نٌجسدها“” les croyances ,nous ne les avons pas, nous les sommes” .

كان الجزائري، قبل دخول الاسلاموية في الثمانينيات، بطبعه متفتحا، متسامحا ، يحترم عقائد الآخرين، حتى و إن بدى غافلا أو مبتعدا عن الإسلام، لكن من المستحيل أن يتقبل التخلي عنه نهائيا. وإذا تهيأت له ظروف خاصة تستفز حماسه الديني، فسيتحرر فجأة من كل التزاماته الأسرية أو الاجتماعية، و يترك عالم المادة المدنس ليعيش العهد المدني في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، يستشعر بذلك أنه يحمل روح صحابي يسير على خطى الرسول، و تسمو به الروح ليتقبل الشهادة ويتشكل لديه حصن منيع ضد الإغراءات المعاصرة.

إنسان كهذا تغلغل الإسلام بداخله إلى هذا الحد، لن يتقدم في التاريخ إلا به،بدونه سيفضل أن يعيش خاملا، يتراجع، أو حتى يزول. لقد تسجل في نظامه الجيني أنه لن يتقدم إلا بالإسلام أو لا يتقدم أبدا.

من البديهي انه لا يمكن لنفسية أي شعب أن تُرتجل حسب الموضة، كما لا يمكن أن نزرع نظاما فكريا مستخلصا من ثقافة معينة في جسم ثقافة أخرى من دون أن ترفضها.

لقد رأى العالم بأم عينيه نتائج ” المثالية الشيوعية” التي حاول البعض أن يفرضها على نصف الكرة الأرضية، وكانت تمتلك الزمن والوسائل، لكنها لم تترك وراءها شيئا غير الحروب الأهلية والخراب المدمر.

لا يوجد في تاريخ البشرية أفكار انتشرت بين الناس كما انتشرت الديانات. منذ الأزل كان قادة الأديان والأساطير هم الأكثر قدرة على جمع الناس، و الأكثر فعالية و ديمومة ، وما العالم الحالي إلا حاصل جمع الحضارات، بداية من اليهودية و البوذية، والهندوسية، والمسيحية و الإسلام أو بعض الطقوس التيمية الأخرى.

منذ البداية جاءت الديانات لتكون إقرارا شرعيا و روحنة للبعد البيولوجي، حيث صور الله الحياة حسب النظام الذي يصفه العلم ثم أخضعها إلى “معنى” تعبر عنه الديانات كل بطريقتها.

الأفكار الدينية تتغلغل بعمق إلى أن تستقر في عمق الروح الإنسانية و في العقل البشري كالأحجار الصلبة في أغوار المحيط . حضورها بمثل هذا العمق، و منذ أمد بعيد ، تترجم في شكل معان ، وصور أساسية وشبكات تفسير وقيم…

فكأنها أُضيفت إلى المحتوى الجيني المعلوماتي داخل الحمض النووي لتخرج من خلال التاريخ على شكل نماذج ،وأنماط وانساق ومظاهر الحضارات قادرة على الإنتقال بشكل وراثي، وتشكل  بالتالي خصائص الشعوب والأمم.

نعتقد أحيانا أن الغرب يدين بحضارته لرفضه للفكرة الدينية ،لكن في الحقيقة، و من خلال مساعي النهضة وعمليات الإصلاح التي قام بها قبل خمسة قرون، ثم حركة التنوير، والروح العلمية و الصناعية ، وضعت أوروبا كل مراحلها ، الإغريقية ، و اللاتينية ، و المسيحية و المرحلة الحديثة جنبا إلى جنب.هذا المزيج هو الذي أعطى لها  الوحدة الأخلاقية و الحضارية التي نلاحظها من باريس إلى أوتاوا.

في كتاب” مقتطفات تاريخية ” fragments historiques” يروي لنا يعقوب بورخاردت Jacob Burckhardt هذا المقطع من المؤرخ و رجل الدولة الفرنسي أدولف تيير Thiers:”عندما سقطت روما مهزومة تحت ضربات البرابرة، رحبت الكنيسة بالجنس البشري كولد ينهار في حضن أمه المذبوحة، فوضعته في أمانة تحت ذراعها المقدس و علمته الإغريقية و اللاتينية ، أي كل ما تعرفه حتى كبر الولد و صار هو المسمى ، بيكون Bacon ، ديكارت Descartes ، غاليليه Galilee….”

لكن المؤرخ الفرنسي لم يقل أنه لولا فضل الإسلام بين الحضارة الرومانية و العصر الحديث لكان هؤلاء الثلاثة في جهل تام ، لكن هذا بالنسبة إليه ليس له أهمية.

يكمن سر الصناعة في الغرب، كما في اليابان أيضا، في تحويل القيم اليهودية المسيحية بالنسبة للغرب، والقيم الشينتاوية shintoistes بالنسبة لليابان، إلى أنماط حياة و قواعد عمل فكري و صناعي، مرنة.

خلال الفترة بين المعلم إيكهارت Maitre Eckhart و ستيوارت ميل Stuart Mill ، بالنسبة للغرب، وتحت إمرة الإمبراطور مايجي Meiji بالنسبة لليابان،تمت عندهما عملية رائعة في التغيير، تغيير الاسطوانة الذهنية. وقد ظهر بذلك الإنسان “الفاوستي” من وراء ملامح الأوروبي الآثم المُدان والياباني المُهان.

إنه الانتقال إلى العقلانية، إلى الثقة في القدرة الإنسانية الهائلة لتحقيق السعادة الأخلاقية و المادية، إلى الفكر النقدي و التحكيم الحر الذي يحرر الطاقات ويفجر ديناميكية اجتماعية هائلة.

إذا كان الغرب قد استغرق خمسة قرون حتى يصل إلى المستوى الذي هو عليه اليوم، فإن اليابان قد احتاج فقط قرنا من الزمن، والبلدان الصناعية الجديدة لن تحتاج أكثر من عشرين أو ثلاثين سنة، لأن ظاهرة ” النمو” لم تعد تعتمد على عامل الزمن بقدر ما تعتمد على الكيمياء الاجتماعية، ففي اليوم الذي تجد فيه الصيغة المناسبة تكون لحظة الإقلاع !

ليس هناك في العالم مثال لدولة متطورة خالفت” الروح العامة” لشعبها حين نتكلم بمنطق مونتسيكيو، لكن المسلمين،لازالوا يضيعون فرص انبعاثهم و ميلادهم الجديد كل مرة منذ أكثر من قرن.عليهم أن يفهموا أنهم بعيدون كل البعد عن الطرق التي تحقق لهم النهضة لأنهم بدل أن يقفزوا للأمام ، فهم لا يتوقفون عن القفز إلى الخلف، و ما لم يحدثوا ثورتهم الفكرية الإصلاحية  فلن يجدوا الصيغة الكيميائية الملائمة.

إن هذا الخطأ المزدوج هو الذي ضرب الجزائر بقوة، و أدى بها إلى السقوط في حرب أهلية.إلى أولئك الذين يتساءلون عن المجال الذي يجب  تخصيصه للإسلام في المؤسسات و القانون والتعليم العام في إطار جمهورية “حديثة”، ملايين  من الأصوات ترد عليهم بقوة:” انه هو -أي الإسلام- الذي يحتويهم ويجب أن يكون مصدر إلهامهم!”

بالنسبة للجزائري، المشكلة جد بسيطة: إذا كان الإسلام “جيدا”، فعلينا أن نستلهم منه كل الحلول التطبيقية ،أمّا إذا كان” سيئا”، فلا بد أن نقولها بصراحة و نرى مباشرة بعد ذلك كيف يمكن استئصاله من الروح الجزائرية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى