ماكرون ومسعود بن عقون
بقلم : نورالدين بوكروح
ترجمة : نورة بوزيدة
إنه المقال الرابع الذي أكتبه خلال أكثر من شهر حول فرنسا. واهتمامي ليس بالأمر الغريب لأن العالم كله اهتم بالانتخابات الفرنسية، كما اهتم به جمهور عريض من الجزائريين الذين يعنيهم ما يحدث في فرنسا أكثر من غيرهم ربما لأنهم يعلمون أنه بشكل أو بآخر، وفي وقت ما، سيؤثر ذلك على حياتهم بسبب العلاقات بين البلدين، وهي الخصوصية التي جعلت إيمانويل ماكرون (Emmanuel Macron) يشدد على زيارة الجزائر خلال حملته الانتخابية.
بالفعل، لا يخفى على أحد أنه زيادة على ثقل المسائل التاريخية العالقة، يعيش عدة ملايين من الجزائريين في فرنسا التي تعد أيضا من بين أول شركائنا الاقتصاديين. ونترقب في الأيام القادمة زيارة وزير الخارجية الفرنسي إلى الجزائر حيث يعلم الجميع أن قصر الإليزيه بيده مفتاح الحل الدبلوماسي لقضية الصحراء الغربية التي، إن حلت، فإنها ستساهم في إرساء علاقة مهدأة بين البلدين بما أنها من بين أكبر المشاكل بينهما.
وربما لسنا متعودين، عدا بعض المقالات والتعليقات الصحفية التي تهتم بالمواضيع التي لها صلة بالجزائر خاصة، لسنا متعودين على أن يكتب جزائري حول فرنسا ويدلي برأيه في شؤونها الداخلية، بل العكس هو ما تعودنا عليه شمال وجنوب البحر المتوسط.
وعلي القول أنني لم أختر مواضيعي من باب الاهتمام الفكري فقط، بل أضطر كل صباح، وأنا أستيقظ مثل عامة البشر، إلى توجيه نظري إلى ما وراء الحدود، لما يحدثه في نفسي من اشمئزاز وتقزز المشهد “السياسي” الذي لا يطاق منذ العهدة الرابعة التي فرضت على الجزائر مصيرا حتميا، مصيرا رهيبا، حيث يزج بها عنوة وقوة كل يوم أكثر في العصر الحجري وخارج العالم المعاصر، ولو تمكنوا، لرموا بها خارج الكرة الأرضية لإبعادها في الفضاء وعزلها عن عالم الأحياء.
ومع ذلك، فإن الأحداث تساءلنا يوميا، وفي بعض الأحيان تأتي لنا على غفلة بما أن الجزائريين والفرنسيين تفاجئوا بولوج زائرين غير متوقعين في حياتهم المؤسساتية: إيمانويل ماكرون كرئيس لفرنسا وعمره 39 سنة، ومسعود بن عقون وزيرا في الحكومة الجزائرية، وعمره 37 سنة. كل الجزائريين تقريبا يعلمون من هو ماكرون، لكن لا أحد في فرنسا يسمع بمسعود بن عقون، ولن يسمع به مهما طال الزمن، مع أنه تقلد منصب وزير السياحة والصناعة التقليدية مدة يومين وتنحى من غير سابق إنذار ولا تفسير، وكما يقول المثل الجيجلي “هاو هاو مكانش”. ربما كان ينقص السيد بوتفليقة أن يمدنا بآخر جوهرة من عنقود العبث والتفاهة، كهدية في شهر رمضان الكريم.
ماذا يجمع الرجلين يا ترى؟ لا شيء. ومن غير اللائق طبعا مقارنتهما ببعضهما، لكن قد ينفعنا مقارنة الواقع الذي ولد الأول وأفرز الثاني. فالرجلان نتيجة طبيعية في كلا البلدين وما يستحقانه. فالأول نابع عن محيط تحكم فيه قوة الاستحقاق والجدية، والثاني خرج من أدران الرداءة التي عششت عندنا.
تفرض فرنسا على من يريد الوصول إلى أعلى مسؤوليات الدولة والمجالس المنتخبة أن يمر عبر معايير الشفافية والكفاءة والحياء، و في الجزائر، فإن “المعايير” مختلفة حيث تهيمن الجهوية والخرف والعبودية والقابلية للرشوة والترشي. أما الأولى، فإنها معايير القوة والهيمنة التي قد تؤدي أحيانا إلى استعمار بلدان أخرى، أما الثانية، فإنها عاهات تحكم على حاملها السقوط في “القابلية للاستعمار”. وهو ما عاشه البلدان في الماضي، بصفة منطقية.
ينصحنا جان ديلافونتان (Jean de la Fontaine)التعلم ممن هو أصغر منا، لكن من الأحسن أن نتعلم ممن هو أكبر منا عندما يكون حاملا لتجربة أكبر ومشهود لها في فن بناء مجتمع وضمير اجتماعي ودولة، الخ… ولنعد لموضوعنا : ماذا يمكن أن نتعلمه من وصول ماكرون على رأس الدولة الفرنسية؟ وماذا يمكن أن يتعلمه الفرنسيون من دخول مسعود بن عقون الحكومة الجزائرية؟ نحن، الكثير، هم، لا شيء. هل يسمح لنا أن نحلم بماكرون جزائري؟ وهل يمكن أن تستيقظ فرنسا يوما ما على وقع خبر قدوم شبيه بوتفليقة على رأس دولتهم؟ والجواب على السؤالين هو بديهي ونهائي وسهل : لا، أبدا.
ومع الألم الذي يقبض أنفاسنا، والحشمة التي تلهب جبيننا، فنحاول فهم سبب ذلك والإقرار بأن الفرق بين البلدين يكمن في المسار التاريخي للشعبين وثقافتهما الاجتماعية، وفي الوعي بالمواطنة المرتفع لديهم والمنعدم لدينا، وفي الفرق بين مستوى النخب الفكرية والسياسية والإعلامية لديهم ولدينا، ولأن “سلف” ماكرون هو مونتسكيو وجد مسعود بن عقون هو جحا، ورمز فرنسا هو الديك ونحن نعيش في بلد “معزة ولو طارت”، وللمقارنة بقية…
إنها نظرة إعجاب تلك التي حملها العالم لفرنسا وهي تخرج من لدنها، مثل الساحر من قبعته، رئيسا شابا لا يتعدى 39 سنة من عمره، برهن في خطواته الأولى أنه مصنوع من معدن القادة بعد أن عانت فرنسا من عقد مرهق بسبب هيجان ساركوزي (Sarkozy) وخمود هولوند (Hollande) الذين نجحا في إمداد الفكاهيين بمادة ثرية لإضحاك الجماهير على حساب صورة فرنسا. والكل في فرنسا كان واعيا بشدة الانحدار الذي نال منهم، فكتبوا في الموضوع طولا وعرضا مثل آخر كتاب صدر قبل بضعة أيام حول حوصلة رئاسة هولاند تحت عنوان “رئيس الوقت الضائع”. خمس سنوات. نحن ضيعنا ثمانية عشر سنة، فقط مع بوتفليقة.
ولو كان لدينا فكر جزائري، ماذا عساه أن يقول عن كل شخص استحوذ من غير حق على على منصب رئيس الدولة واغتصبه؟ علينا الاعتراف لرؤسائنا “بتواضعهم” حيث تباهوا بصفة واحدة، وهي أنهم “مجاهدين”، والتي يحق لنا الشك فيها لبعضهم. ومهما كان من أمر، فإنهم مسؤولون أمام التاريخ عن الإفلاس المادي والمعنوي للبلاد.
وكأن فرنسا، بعد قضاء جيل الجنرال ديغول (De Gaulle)– بومبيدو (Pompidou)، جيسكار دي ستانغ (Giscard d’Estaing)، ميتران (Mitterand) وشيراك Chirac))، وكأنها لم تعد قادرة على إنجاب رؤساء ممن تجد فيهم سمات القدوة والقيادة اللائقة بالمنصب. وإذ هي يئست من ذلك، توجهت لأول من كانت تبدو عليه تلك العلامات، أو بعضها، مثل فرانسوا فيلون (François Fillon) قبل “القضايا” المتسربه حوله وبعده حولت أنظارها إلى ماكرون المحظوظ. فانتخبته، ورد لها الجميل في بضعة أيام بأن أعاد لها كرامتها وعزتها فقط عبر طريقة مشيه الأنيقة والواثقة، ومصافحته الحيوية، ونظرته الحاذقة وخطابه الصريح، وهي كلها تنم عن قوة الإرادة التي تدفعه. لم يكن هو من ظهر في لباس الشاب المبتدئ خلال لقاء مجموعة السبع بل بوتين (Poutine) وترامب (Trump) هما من بدا كذلك. كم سهل أن نفرض الإعجاب عندما نملك الهيأة اللائقة بالمنصب….
وإن كان هذا يبدو من الشكليات والجماليات، إلا أنها كانت هي الأشياء،على بساطتها، التي كانت تنقص بشدة لاستعادة الفخر الفرنسي الضائع منذ عشر سنوات. أما الباقي، أي سبب انتخاب ماركون وماذا سيعمل وهو في منصبه هذا، فالوقت كفيل بأن يعلمنا عما سيفعله حيث فشل سابقوه منذ السبعينات عند نهاية “سنوات المجد” الثلاثين، حيث انقلبت الأمور وانحدر الاقتصاد، فازدادت البطالة، وانكمشت مداخيل التجارة الخارجية والصناديق العمومية مثل الضمان الاجتماعي، بينما انفجرت المديونية العمومية. وهو الموضوع الذي سنعود إليه بعد الدور الثاني من الانتخابات التشريعية، أو بالأحرى بعد سنة. فالحائط ينتظر البناء الماهر ماكرون، وهو ابن البلد الذي شاعت فيه مقولة شعبية :”نعرف البناء من جودة الحائط”.
وعلى العكس، لا ينظر العالم إلينا نظرة إعجاب ولا حتى نظرة إشفاق، هذا إذا كان لديه سببا للنظر من جهتنا، مثلما فعلت منظمة الأمم المتحدة خلال العشرية السوداء وهي تتساءل حول إمكانية وضع بلدنا تحت الوصاية لعدم كفاءة الدولة على حماية سكانها من المجازر الجماعية. ولو نظر العالم إلينا اليوم، ستكون حتما نظرة احتقار لما يراه من عدم قدرتنا على وقف سقوطنا اللا محدود في هاوية الرذيلة والبهدلة والإخفاق والشيطانية. وليته نظر إلينا تلك النظرة، ليته لم يتجاهلنا ويتركنا في حالتنا المزدرية، ربما كنا لا نحتمل ثقلها وحاولنا النهوض في آخر محاولة لتخليص حلمنا الوطني من موت مبرمج. إننا مررنا من احتلال أجنبي توسعي إلى حالة إذلال وطني مكثف.
انتخب الفرنسيون رئيسا شابا طامعين الخروج من السيئ إلى الأحسن، أما نحن فالاتجاه الوحيد هو نحو الأسفل، والسقوط من السيئ إلى الأسوأ، ولا نملك من أفق سوى ذلك الذي نرى فيه أشباح جحا من سلال وأويحي وسعداني وشكيب خليل ومسعود بن عقون الصغير وحتى خلف أحد المارشالات الموسمين….
ومهما كان من أمر، ومهما صغرنا في أعين الآخرين ومهما عظمنا في أعيننا نحن، فإن العالم لا يريد تعلم أي شيء منا، ومن “عبقريتنا”، ومن “تقاليدنا” السياسية. نحن فقط نرى أنه فيه ما نتعلم من أسلافنا، وهو ما فعله مسعود بن عقون، المناضل الوفي للقضية الوطنية (كما فهمها من أسلافه هو)، فبدأ الترحال من جهة إلى أخرى حسب ما تمليه له “شعيراته” التي يستدل بها في المستنقع السياسي. ومن الأكيد أن توقفه عند السيد بن فليس قبل أن ينصب خيمته عند السيد بن يونس هو ما أدخله الجحيم عندما ظن أنه قد بلغ جنة النظام. بالفعل، من الأكيد أنه تم اكتشاف تلك “المرحلة” من مسيرته السياسية وهو ما جلب له الصاعقة لأننا لم نعهد في عهد بوتفليقة أن نحرم مناضلا وفيا بسبب غياب الشهادات أو الكفاءات أو النزاهة، بل بالعكس. لكن المسكين بن عقون مسعود نقصه أن يعلم شيئا مهما: الوقوف بخيمته في ديار بن فليس، مهما قصرت المدة، جريمة لا تغتفر في أعين بوتفليقة، إنها مثل من اقترف الشرك في أرضنا الطيبة الشديدة التدين.
وفي الحقيقة، أنا أشفق على السيد بن عقون مسعود، وهو الجزائري الأصيل الذي ترعرع في كنف العادات والممارسات التي سادت في الجزائر منذ الاستقلال واستفحلت منذ عودة السيد بوتفليقة إلى الحكم سنة 1999، بعد أن ساد على البلاد دون انقطاع منذ 1957 إلى 1983. أنا حقيقة أسانده في محنته وأندد بالكيل بمكيالين الذي أطاح به إلى الحضيض في اللحظة التي ظن فيها أنه “بلغ العلا”. ويمكنني حتى أن أرافع من أجله، حيث أنه :
- هل يعاب عليه أنه لم يعمل ولا تعرف له مهنة قبل أن يصبح وزيرا؟ العديد من وزراء الحكومات المتعاقبة في عهد بوتفليقة أو سابقيه لم يشتغلوا أبدا في حياتهم أو كانوا في مناصب ثانوية.
- هل نشك في صحة شهاداته؟ أولا، هل الشهادات تصنع روحا وطنية أكبر؟ لا لأن الكثير ممن ظهرت أسماءهم في فضائح تمس بسمعة الجزائر واقتصادها في عهد بوتفليقة يملكون ما يكفي من الشهادات العليا. وثانيا، لو كان الأمر يعاب، ما هو الفرق بين بن عقون وسعداني الذي لم يملك شهادة موثوقة ولا “ماضيا” مهنيا، دون الحديث عن اتهامات تحويل المال العام. لكن، كل هذا لم يمنعه من أن يترأس لجان مساندة المترشح بوتفليقة، وبعدها أن يترأس رئيس المجلس الشعبي الوطني وأن يكون أمين عام حزب جبهة التحرير “المجيد”.
- يقال أن لديه سوابق عدلية؟ ماذا نقول عن العديد من الوزراء الذين انتموا إلى حكومات السيد بوتفليقة أو ما زالوا والذين علمنا أنهم شاركوا في عمليات تحويل وتم استدعائهم في المحاكم الوطنية والأجنبية، ولم يكن ذلك سببا في تنحيتهم؟ بل بالعكس تم “غسلهم” وتنظيفهم ومنحهم مناصب أعلى…
- إذن، ماذا فعله هذا الشاب الواعد الذي كان يتبع خطوات إخوانه الأكبر منه سنا خطوة خطوة؟ هل فعل أكثر من شكيب خليل الذي من أجله تم تفكيك جهاز المخابرات، أو أكثر من كل من هم متربصين في الخفاء لأخذ مكان بوتفليقة والقيام بأسوأ ما فعله؟ إنه من حق السيد بن عقون أن يصرخ في وجوههم كلهم : “شفتوني غير آنا يا جبناء؟ جيتكم ساهل يا حقارين؟ شكون فيكوم إلي ما كلاش يا حسادين؟…”
صدقوا تجربتي وما رأيته وسمعته من هذه “الزريعة” : والله ما كان السيد بن عقون ليكون أسوأ من العديد من المسؤولين العسكريين والمدنيين الذين ما زالوا في مناصبهم أو في التقاعد أو في مربع الشهداء في العالية. إنه يمثل ملايين الجزائريين الذين يرون أنفسهم في السلطة، لولا الحياة “الغدارة” “الخداعة”. إنهم ملايين يمكنهم كلهم أن يصبحوا وزراء ونواب ووزراء أولين ورؤساء حتى، خاصة عندما يتذكرون أسماء من حكموهم من رؤساء وأول الوزراء وآخرهم. وإذ هم واثقون بأنهم أحسن ممن هم في السلطة اليوم، فإنهم يذمون القدر والطبيعة الذين جعلا على طريقهم العقبات الكثيرة وضاقت نفوسهم من طول حياة “النظام”، ومن حكم “المسنين” و الخلود في الدنيا….
إذن، ماذا ينقص للسيد مسعود بن عقون لكي يأخذ مكانة الخليفة بدل من رآهم في نفس المنصب؟ لا ينقصه سوى كونه “مجاهدا”، وهم كانوا ثلاثين ألفا في الاستقلال وهم اليوم مليونين مسجلين لدى مصالح وزارة المجاهدين ويتقاضون منحتهم. الشهادات؟ لقد تطرقنا للموضوع. العمر؟ كان بومدين أصغر منه بعدة سنوات عندما قام بانقلابه العسكري، وكان السيد بوتفليقة أصغر منه ب11 سنة عندما أصبح وزيرا. السيرة المهنية؟ كانت تلك هي المرجعية المهنية الأولى والوحيدة والأخيرة لبومدين كما لبوتفليقة.
والحق الحق، ماذا كان سيغير في الحكومة أو مصير الجزائر أن يظهر مسعود بن عقون، أو آخر مثله، أو حتى آخرون؟ وهو على رأس الدولة مدة أربع عهدات والقادمة منها، يكون السيد بوتفليقة، مثل القط الأسطوري، قد عاش سبعة أعمار وقضى على أعمار أولئك الذين كانوا ينتظرون عند الباب لأخذ مكانه، والذين يحسبون أنهم لديهم الخصال اللازمة لذلك، مثلهم مثل مسعود بن عقون الذي لا يدري أن سبب ويلاته لا تكمن قي “الخلق العام”، بل في حيلة شيطانية يجب أن يعرفها قبل أن تنتابه فكرة التقدم إلى الرئاسيات عندما سيصل إلى العمر القانوني، أي عن قريب، وما ثلاث سنوات في حياة من يناديه القدر؟ وفي انتظار ذلك المصير الموعود للجزائر المسكينة، أطالب بالحكم العادل تجاه كل مسعود بن عقون، قد حط رحاله في هذه الحياة أو ما زال في بطن أمه، إنه خير “خلف” لخير “سلف”….