يعتقد مستشار الرئيس الراحل هواري بومدين، ووزير الإعلام السابق، الدكتور محي الدين عميمور، أن الجنرال قائد جهاز المخابرات السابق، محمد مدين المدعو توفيق، مسؤول عن كل مصائب الجزائر منذ 1992، وأن الحراك مكن الشعب من استرجاع جيشه، “الذي تم اختطافه في بداية التسعينيات” في إشارة إلى ضباط فرنسا الذين قادوا انقلابا ضد الرئيس الشاذلي بن جديد.
وكتب الوزير الأسبق، مساهمة في يومية “رأي اليوم” اللندنية، جاء فيها “الجيش تم اختطافه من قبل مجموعة مخابراتية، قادت البلاد إلى عشرة دموية دمرت الكثير، اقتصادا وبنية تحتية وأخلاقا اجتماعية، بجانب الأرواح البشرية التي أزهقت من مختلف الأعمار”.
ويضيف عميمور ” الأغلبية الصامتة التي أعنيها هي تلك التي اجتاحت ساحات العواصم الجزائرية وشوارعها وعبرت عن إرادتها بكل هدوء وسلمية، ولم يكن أفرادها ممن يجرون وراء ميكروفونات التلفزة الوطنية والخارجية لإعطاء الشعور بأن الحراك الجزائري تسيره فئة إيديولوجية أو فكرية أو جهوية معينة، ومنهم من اكتفى بصور الـ”سيلفي” التي سيعرضها على الأقارب والأصدقاء”.
وأضاف الوزير “الذي حدث هو أن أجهزة كان دورها الرقابة والإبلاغ عن كل ما يمكن أن يضر بمصلحة الوطن تركت مهمتها الأصلية وراحت تتلذذ بممارسة السلطة والنفوذ، جاعلة ممن يمسكون بالبندقية والمدفع ويتحركون بالدبابة وبالطائرة عصيّا ترهب بها من لا ينسجمون مع رؤيتها للأمور، وهي رؤية قاصرة ومرضية لأنها ترى البشر من خلال عيوبهم الإنسانية، وهي تسعد بالسقطات بل وتشجع عليها لأنها وسيلتها في السيطرة والنفوذ”.
ويسترسل عميمور ” عندما تصبح هذه الأجهزة هي صاحبة الرأي الأول والأخير في تعيين إطارات الدولة ومسؤوليها في مختلف المستويات والممسكة الرئيسية بالقرارات المصيرية في كل المجالات فإن المنتسبين للأجهزة يصبحون قِبلة الولاء الوظيفي، طمعا أو خوفا، لأن من ترضى “هيَ” عنه مُرشحٌ لِمجدِ المسؤوليات العليا ومكاسبها، مع ضمان الحماية من الخصوم والمنافسين، ومن لا ترضى “هيَ” عنه يُلْقى به “وراء الشمس″، طبقا للتعبير المصري المعروف”.
ويفسر الدكتور عميمور “لماذا تنفس جزائريون كثيرون الصعداء وهم يرون أحد رجال الأمن يمسك بذراع مدير المخابرات الجزائرية الأسبق وهو يصعد سلم المحكمة العسكرية في البليدة، بعد أن استدعي، في سابقة هي الأولى من نوعها بعد استدعاء صلاح نصر للمحكمة العسكرية المصرية في الستينيات، وذلك للتحقيق معه فيما نسب إليه على لسان الفريق قايد صالح، رئيس أركان المؤسسة العسكرية الجزائرية”.
يقول عميمور “كان الجنرال توفيق، الذي أشرت له في حديث سابق، هو من يُطلق عليه مريدوه وخصومه لقب “ربّ الجزائر”، حيث كان هو العنصر المؤثر في أحداث التسعينيات الدموية، حيث تّم تضخيم إعلامي رهيب لشخصه ولدوره لم يعرفه حتى “إدغار هوفر” الأمريكي، واقترن ذلك، ولنفس الهدف، بتعتيم على صورته بحيث لم تنشر صُوره على الإطلاق في الجزائر طوال نحو ربع قرن من ممارسته سلطاته اللا محدودة”.
وكشف مستشار بومدين أنه “قد عرفت توفيق عن بُعدٍ خلال السبعينيات، وكنا أراه بزيّ “النقيب” في إطار حلقة الحماية حول الرئيس الراحل هواري بو مدين، وكان يبدو لي شابا وسيما دمث الأخلاق هادئ الطبع، لا يُمكن أن يؤذي ذبابة”.
ويروي قصة حصلت معه في مطلع التسعينات ” في بداية التسعينات اتهم الأشقاء في المغرب ظلما مصالح الأمن الجزائرية بأنها وراء تفجيرات إرهابية عرفتها مراكش، وكتبتُ يومها عدة سطور ساخرة في مجلة المجاهد تقول بأنه “عُلم من مصادر بوزارة الداخلية المغربية بأن الجنرال توفيق ومساعديه البعثيين الأصوليين !! (وهم بعيدون عن ذلك بالطبع، بجانب التناقض بين الصفتين) يتآمرون على القطر الشقيق”.
يضيف عميمور “قامت الدنيا ولم تقعد، واستدعي الرفيق نذير بولقرون مدير المجلة للتحقيق في مقر المخابرات العسكرية، وكان المأخذ الرئيسي هو نشر اسم الجنرال، ولأن ما نشر كان بدون توقيع كبقية الأعمدة القصيرة فقد قال نذير بأنه يتحمل مسؤولية ما كتب، ولما أبلغني بالأمر قلت له إنني سأعلن أنني أنا صاحب تلك السطور ولكنه قال لي برجولة المناضل: أتريد أن تعلن أنني كاذب؟، الناس يعرفون أنك كاتب يعرف ما يقوله، وسيستنتجون بأن مصالح الأمن الجزائرية لا تعرف القراءة، ولست أحب أن يُقال مثل هذا عن مصالحنا الأمنية”.
وسُجن مدير الجريدة عدة أيام ظلما وعدوانا، وهاتفته يوم استدعاء توفيق للتحقيق وبعد عرض صورته في التلفزة وهو يسير محني الظهر، وقلت لنذير إن الله انتزع له بعض حقه.
توفيق هو من جلب بوتفليقة للرئاسة في 1999
وواقع الأمر، بحسب عميمور وقطاع عريض من الشعب الجزائري، هو “أن “الماجور”، كما كان يُطلق عليه أعوانه، نجح خلال أكثر من ربع قرن في الإمساك بمقدرات الدولة عبر السيطرة على المؤسسة العسكرية، وكان رجاله مزروعين في كل مؤسسات الدولة، ابتداء من رئاسة الجمهورية ومرورا بكل الوزارات والسفارات ووصولا إلى أصغر بلدية نائية، وكان هو الفاعل الرئيسي في اختيار الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لمهمة الرئاسة في 1999، في حين كان الجنرال خالد نزار ضدّ الترشيح، كما كان كذلك وبضراوة شديدة الجنرال رشيد بن يلّس”.
ويكشف الوزير السابق كيف “كان الرئيس (بوتفليقة) يستشير توفيق في الكبيرة والصغيرة، حسب ما قاله يوما للسفير عبد القادر حجار، الذي روى الأمر لي، وهذا يجعل “الماجور” شريكا رئيسيا في كل الانحرافات التي عرفتها البلاد، لمجرد أنه لم يبلغ الرئيس بها، وهو تواطأ واضح مع عناصر سياسية وإدارية، في السلطة وفي المعارضة، وأكرر..في المعارضة..وكان هناك وزراء استمدوا قوتهم على الساحة السياسية من تسريب الأخبار التي تقول بأنهم يلعبون الكرة مع الماجور، وكان مندوبوه في مجال الإعلام وراء كل النكسات التي أصابت هيبة الصحافة الجزائرية، وحولت العديدين إلى مجرد أسماء توقع على مقالات تعد سلفا في مصالح المخابرات”.
ويقول عميمور أنه بحكم الانتماء العربي الإسلامي الذي يعتز به، وبحكم مواقف اتخذها انطلاقا من ذلك، تعرضت لعداء الجهاز خلال “مروره” بوزارة الثقافة والاتصال، مما جعله، وبعد شهور من المعاناة، يطلب إعفائه من مهمته الوزارية مهددا بالاستقالة المُبرّرة، وهو ما قلته لوزير الخارجية آنذاك عبد العزيز بلخادم، “حيث أنني لم أتمكن من الانفراد بالرئيس دقيقة واحدة طوال عملي الوزاري بعد أن اعترضت في الأيام الأولى على منح الرئيس وساما ساميا للممثل الفرنسي روجي هانان (وكنت ذكرت هذا في كتاب من ثلاثة أجزاء حمل اسم “وزيرا زاده الخيال”، صدر في الجزائر ابتداء من عام 2014)”.
ويضيف عيمور أن توفيق لم يخلد للراحة منذ إنهاء مهامه، وهو ما يفسر استدعائه للتحقيق في المحكمة العسكرية، ويفسر أيضا سرّ اشتداد الحملة العدائية الهائلة التي يتعرض لها رئيس الأركان، المعروف بنفوره من المستعمر السابق الذي لم يكن من ضباطه الفارين، كما عرف بتركيزه على تنويع التعامل مع الدول الأوربية في قضايا التسليح، ومع روسيا على وجه التحديد، وهو ما يعطي صورة عن النظرة الفرنسية لقايد صالح”.
ومن هنا يضيف عميمور “كنت أعرف ما أقول عندما كنت أكرر للرفاق في المشرق العربي بأن المؤسسة العسكرية الجزائرية تختلف تماما عن مؤسسات كثيرة مماثلة يعاني منها الوطن العربي، ومن أن تعبير “حكم العسْكر” لا ينطبق بأي حال من الأحوال على القوات المسلحة الجزائرية، التي ترفض تماما الاستيلاء على الحكم مسترشدة بما عرفته الجزائر في التسعينيات، وهو ما أشعل نار الغضب لدى شرائح سياسية جزائرية كانت تأمل في أن انتزاع مقاليد الأمور عبر مجلس رئاسي يتناقض وجوده مع الدستور الجزائري، الذي تتمسك المؤسسة العسكرية بكل نصوصه، وهو السبب الذي انطلق به العداء ضدّ الفريق”.
وواقع الأمر أن دور المؤسسة العسكرية عَرَف منذ فبراير تطورا يؤكد بأن مركز أبحاث المؤسسة يعمل بكل فعالية، حتى ولو لم يكن الأداء الإعلامي في نفس المستوى من إدراك المعطيات الميدانية في مواجهة التيار المعادي للانتماء العربي الإسلامي للجزائر، والذي يُشار له بـ”جزائر باريس” التي تحارب جزائر “باديس” ( والمقصود به عبد الحميد بن باديس).
وحملت الخطب الأسبوعية للفريق، يضيف الوزير السابق ” رسالة توقف عندها البعض بنظرة سلبية ينقصها الذكاء، فقد حرص دائما على أن يتلو كل خطبه من نص مكتوب، متفاديا أي ارتجال لاستمالة الجمهور، وكأنه يقول ضمنيا: هذا هو الرأي الرسمي الذي تلتزم به القوات المسلحة تجاه الأحداث الجارية، أي أنه ليس رأيا شخصيا”.
و”تطور موقف المؤسسة بشكل إيجابي بمجرد أن أحست بأن الحراك الشعبي هو تعبير حقيقي صادق عن رأي الجماهير الجزائرية، ومن هنا نفهم لماذا كانت الأوامر صارمة باحتضان الحراك عن بعد، تاركا التأطير المباشر للشرطة الجزائرية التي حرصت على عدم السماح بأي انزلاق مهما كانت تفاهته، وكان لهذا كله دوره في المظهر السلمي الرائع الذي سار عليه الحراك منذ انطلاقه.
غير أن تطور مواقف العناصر الباحثة عن التموقع تميز بالكثير من التذبذب، وكان أكثر الأمور إثارة للتعجب هو تحالف بعض أبناء باديس، أو من يدعون أنهم كذلك، مع أبناء باريس”.
ويقول الوزير السابق “كانت قيادات المعارضة قد ظلت خلال أكثر من شهر تطالب الجيش بالتدخل لتنفيذ إرادة الجماهير المنددة بالعهدة الرئاسية الخامسة، وكان واضحا أن الشارع يرفض كل محاولات المعارضة لركوب موجة الحراك، بل إن المتظاهرين طردوا عناصر المعارضة المعروفة التي حاولت المشاركة في التظاهرات مصطحبة كاميرات تلفزة سوف تستعمل لقطاتها لافتعال أبوة لا يعترف بها أحد، وهو ما لم يمنع البعض من المشاركة في بعض التظاهرات مؤكدين ذلك بصور الـ”سيلفي”، ومن هنا كانت معظم القيادات تأمل في انقلاب عسكري يعطيها إمكانية تولي القيادة عبر مجلس رئاسي ليس له أي وجود في دستور البلاد، وهكذا طالب الكثيرون بتفعيل المادة 102 من الدستور، التي تعلن حالة الشغور الرئاسي، لكن استقالة الرئيس بدت انتقامية متعجلة، ووضعت البلاد في طريق مزروع بالألغام..وتمسكت القوات المسلحة بنص الدستور، وتولى عبد القادر بن صالح، مهام رئيس الدولة، وتبدأ التعليقات السلبية بالادعاء بوجود عيب في الشكل (Vice de forme) برغم أن من يقولون بهذا هم من طالبوا بقراءة سياسية، وليس حرفية، للدستور، وهكذا عرفت التظاهرات شعار “فليرحل الجميع”، والذي كان تحمس الجماهير له تعبيرا عن إدانتها لكل ما عاشته في السنوات الأخيرة من فساد وانحرافات، لكن هذا لم يمنع من تساؤلات كثيرة حول من يقف وراء إعداد لافتات ضخمة طالبت بذلك وأعلام معينة غير العلم الوطني برزت هنا وهناك، وراجت إشاعات عن تمويل هام تحمل مسؤوليته أحد رجال الأعمال، حدث أن كان ممن لهم نشاط اقتصادي في بلاد الجن والملائكة”.
ويضيف الوزير “هنا ارتفعت نفس الأصوات بادعاء أن الأثرياء الذين لاحقتهم العدالة ينتمون إلى منطقة معينة مما يوحي باستهدافٍ انتقائي مُغرض، لكن هذا الادعاء تلاشى فورا عندما كان ردّ الفعل التلقائي للشارع بأن اتهام العدالة بالتحيز ضد منطقة معينة يكشف أن الثروة تحتكرها تلك المنطقة..وبدأ الشارع يُحسّ بتزايد محاولات ركوب موجة الحراك، وعاشت الجزائر عملية استفزاز تحاول أن تدفع بالحراك الشعبي نحو انزلاقات يمكن أن تفرض على الجيش تغيير موقفه، وتم ذلك بشكل اتسم بالكثير من الحماقة، وهكذا احتضنت جامعة تيزي وزو محاضرة للانفصالي “مهني”، ذكّرت كثيرين بالاضطرابات التي عرفتها منطقة القبائل في 1980 إثر منع محاضرة أقل خطورة، ونتج عن ذلك ما أصبح يُعرف بالربيع البربري..ولم تتدخل السلطات لمنع المحاضرة الجديدة التي كانت، حسب ما نشر من عناوينها، تندد بالاستعمار “الجزائري” للمنطقة”.
ويصل عميمور إلى القول”أصبح التركيز على رفض الانتخابات الرئاسية التي تقررت في يوليو واحدا من مظاهر التعنت التي تدفع نحوها قيادات إيديولوجية نشطة، تنتهز فرصة الفراغ الإعلامي لتبث السموم التي تعبر عن خيبة أملها في فقدانها فرصة السيطرة على مقاليد الأمور خارج العملية الانتخابية وفي تناقض تام مع الدستور ومحاولة دائمة لابتزاز المؤسسة العسكرية، يدعمها في ذلك وجود إعلامي مكثف ومنسق عبر العديد من قنوات التلفزة الخارجية كما سبق أن أسلفت”.
التحرير