أراء وتحاليلالجزائرالرئيسيةسلايدر

وقفة مع الذكرى 53 لتأسيس الأفافاس

الدكتور محمد أرزقي فراد*                          

أترحّم في البداية على شهداء الديمقراطية (الأربعة مائة) الذين قدمهم الأفافاس كقُربان من أجل بناء دولة جزائرية ديمقراطية بمعايير بيان أول نوفمبر 1954م.

 

ظهور الأفافاس

ظهر حزب الأفافاس في ظروف استثنائية، جعلته حزبا غير عاديّ. وأعني بالظروف الاستثنائية، استعمال قائد أركان جيش التحرير العقيد هواري بومدين( رحمه الله) القوة من أجل فرض جماعة وجدة في السلطة متجاوزا بذلك السيادة الشعبية، والشرعية الثورية التي كانت تتمتع بها الحكومة المؤقتة للثورة الجزائرية بقيادة بن يوسف بن خدة (رحمه الله). وتجرأت هذه الجماعة المغتصبة للحكم على إدارة ظهرها لبيان أوّل نوفمبر ذي الشحنة الديمقراطية، فكرّست نظام الحزب الواحد، ووضعت دستورا على مقاس الرئيس أحمد بن بلة (رحمه الله)، وتمت صياغته بطريقة عبثية، بقاعة سينما الماجستيك بشارع باب الوادي( الأطلس حاليا).

الأفافاس حزب وطنيّ

حاول المجاهدون المخلصون لقيم ثورة نوفمبر، التصدي لهذا الانحراف الخطر نحو الحكم الفردي التسلطيّ، فأسسوا “جبهة القوى الاشتراكية” بالجزائر العاصمة، شارك في تأسيسها مناضلون من مختلف جهات الوطن أذكر منهم على سبيل المثال:  أبو بكر بلقايد من غرب الجزائر، لخضر بورقعة من وسط الجزائر، حسين أيت أحمد من منطقة القبائل. ومن الطبيعي أن يتفق المؤسّسون على إسناد مسؤولية الحزب الناشئ للمناضل الكبير حسين آيت أحمد. وتم إعلان التأسيس يوم 29 سبتمبر 1963م في مدينة تيزي وزو، التي كانت تحت نفوذ قائد الولاية الثالثة التاريخية “محند اُولحاج”(رحمه الله) الذي رفض سياسة الأمر الواقع التي فرضها الرئيس أحمد بن بلة. والجدير بالذكر أن العقيد محمد شعباني (رحمه الله) قد رفض مواجهة الأفافس بالقوة، لإدراكه أنه طرح قضية سياسية خطرة تحتاج إلى علاج سياسيّ. ولم يستبعد البعض أن يكون موقفه هذا ضمن الأسباب التي جعلت مغتصبي السلطة يحقدون عليه ويقررّون إعدامه بطريقة تعسفية سنة 1964م. وكان محمد بوضياف قريبا من الأفافاس، فقد جاء في  شهادة المناضل عمر طوبال (رحمه الله) أنه قد التحق فعلا بهذا الحزب.

الأفافاس وفيّ للشرعية الثورية

هكذا يتضح جليّا أن حزب الأفافاس لم يكن حزبا جهويا، كما أنه لم يكن تعبيرا عن حركة التمرد والعصيان، لأن حكم الرئيس أحمد بن بلة كان فاقدا للشرعية، بدليل أن معظم قادة الثورة قد أعلنوا معارضتهم لهذا الانحراف السياسيّ، لكن منطق القوّة العسكرية انتصر على منطق القوّة السياسية التي كان يمثلها – فضلا عن حسين آيت أحمد- محمد بوضياف، ومحمد خيضر، وفرحات عباس، ولمين دباغين، وعبد الرحمن فارس وغيرهم. هذا وقد عبّر الكثير من المجاهدين المخلصين في مذكراتهم عن الخيبة الكبيرة التي أصابتهم في الصميم جرّاء هذا الانحراف السياسيّ الخطر، فكتب محمد بوضياف في وقت مبكّر كتابه الشهير ” الجزائر إلى أين؟”، وكتب فرحات عباس كتابا بعنوان: ” مصادرة الاستقلال”، في حين كتب الرائد لخضر بورقعة كتابا بعنوان: “شاهد على اغتيال الثورة”، وكتب عبد الرحمن فارس كتابا بعنوان: ” الحقيقة المرة”. وبناء على ما ذكر من الحقائق التاريخية، فإنه ليس من الموضوعية أن يتهم الأفافاس بـ”التمرد” وهو المدافع عن القيم الديمقراطية للثورة، والرافض لمصادرة الاستقلال بقوّة سلاح العسكر.

اعتراف الرئيس أحمد بن بلة بحزب الأفافاس

  رغم اعتقال مسؤول الأفافاس  السيد حسين آيت أحمد، في أكتوبر 1964م، فإن الرئيس أحمد بن بلة لم يسرع إلى تنفيذ حكم الإعدام الصادر في حقه، لأنه كان يدرك في قرارة نفسه أن مبادىء الأفافاس السياسية مستوحاة من قيم ثورة نوفمبر ومن الفكر الديمقراطي، كالمجلس التأسيسيّ واحترام السيادة الشعبية وإقرار التعددية الحزبية وتكريس الحريات الأساسية وترقية حقوق الإنسان والديمقراطية الاجتماعية. لذلك لم يتوان الرئيس أحمد بن بلة عن الدخول في مفاوضات جادة  مع الأفافاس في ربيع سنة 1965م، أسفرت عن توقيع اتفاق مبدئي يقرّ مبدأ التعددية الحزبية عبر الأفافاس، يوم 16 جوان 1965م، وكان من المنتظر أن يتواصل الحوار  وتعلن قرارات سياسية هامة بعد انعقاد المؤتمر الأفرو/ أسيوي المقرّر عقده في الجزائر في موفّى شهر جوان1965، تسير في اتجاه تكريس المصالحة الوطنية والنهج الديمقراطي السليم. لكن بعد ثلاثة أيام فقط  من توقيع الاتفاق، أزيح الرئيس أحمد بن بلة عن الحكم اثر انقلاب عسكريّ قاده وزير الدفاع هواري بومدين يوم 19 جوان 1965م ، فأجهض الاتفاق.

 

الأفافاس في عهد النشاط السريّ        

دخل الأفافاس في الحياة السريّة استمرت طيلة سنوات حكم هواري بومدين، واكتفى الحزب بالحد الأدنى من النشاط السياسي، تمثل في تأطير الطلبة في الثانويات والجامعة المركزية، وبرز في هذه المرحلة بصفة خاصة المناضل ياحة عبد الحفيظ كهمزة وصل بين حسين آيت أحمد والقاعدة النضالية. وعندما انفجرت أحداث الربيع الأمازيغي في شهر أفريل 1980م، ساهم مناضلو الأفافاس في تأطيرها بفعالية، وكان حسين آيت أحمد قد تعامل بحذر مع هذه الأحداث لحماية مناضليه، فصرّح أن ما يقع في الجزائر هي أحداث داخلية غير ضالع فيها. غير أن ذلك لم يحل دون اعتقال بعض شباب الأفافاس وعددهم 11 شخصا، ضمن مجموعة 24 مناضلا الذين طالهم الاعتقال في خضم هذه الأحداث.

ومن النشاط البارز للأفافاس في عقد الثمانينيات، لقاء لندن الذي رتّبه المناضل علي مسيلي في يوم 16 ديسمبر 1985م، جمع بين حسين آيت أحمد وأحمد بن بلة، وأسفر عن إصدار بيان سياسيّ قويّ  دعا الشعب إلى تحمل مسؤوليته في تغيير النظام التسلطي وإقامة نظام ديمقراطيّ،  وساند البيان أيضا حراك أبناء الشهداء وأنصار حقوق الإنسان الذين طالهم الاعتقال، اثر تأسيسهم لجمعيات مدنية مستقلة. ولإنجاح بيان لندن أسّس الأفافاس منبرا إعلاميا “Libre Algerie” أشرف عليه مهندس لقاء لندن علي مسيلي، وقد نجح هذا المسعى في تحريك الساحة السياسية وفي استقطاب الرأي العام الدولي حول ما يجري في الجزائر، وهو الأمر الذي أقلق النظام الجزائري، لذا لم يتوان عن تكليف بوليسه السريّ  باغتيال المناضل علي مسيلي في باريس يوم 7 أفريل 1987م في رابعة النهار.

عودة الأفافاس إلى العلانية

  صارت عودة الأفافاس إلى العلانية ممكنة بفضل انتفاضة  الشباب في 5 أكتوبر  1988م، وقام السيد مولود حمروش بدور بارز لتسهيل هذه العودة. أما على صعيد الحزب فقد عرف – مع الأسف- تصدعا اثر انفجار الخلاف بين حسين آيت أحمد ورفيق نضاله الطويل ياحة عبد الحفيظ، واشتد الصراع بين الرجلين في مسألة إيداع ملف الاعتماد، وكان حسين آيت أحمد قد فوّض المناضل الهاشمي آيت الجودي ناب عنه  في إيداع الملف بوزارة الداخلية، وكانت النتيجة لصالح ملف حسين آيت أحمد. كان هذا الخلاف بمثابة شرخ أصاب جهاز الأفافاس، جعله يفقد السيد ياحة عبد الحفيظ ومن كان معه من المناضلين وهم كثيرون.

ومن الأحداث الجديرة بالذكر في هذا الميلاد الثاني للحزب، عقد مؤتمر 1991م الذي أسفر عن انتخاب مجلس وطني مشكّل من 261 عضوا وأمانة وطنية. ومشاركته الفعالة في ” عقد روما ”  في جانفي 1995م الذي حضرته أحزاب المعارضة (الأفافاس- الأفلان- حزب العمال- حركة النهضة- الجبهة الإسلامية للإنقاذ- الرئيس الأسبق أحمد بن بلة- علي يحي عبد النور.) حاول فيه المشاركون إيجاد حل سياسيّ سلميّ للحرب الأهلية التي عصفت بالجزائر، إثر توقيف الجيش للمسار الانتخابي الذي أسفر عن فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ(الفيس)، وكان هذا اللقاء فرصة ثمينة – أهدرها النظام الحاكم- لإحلال السلم في الجزائر. وفي سنة 1997م شارك الأفافاس في الانتخابات التشريعية أسفرت عن انتخاب أوّل مجلس تعددي بعد الاستقلال. وفي سنة 1999م شارك السيد حسين آيت أحمد في الانتخابات الرئاسية، وبعد تأكد المترشحين الستة من حسم النتيجة لصالح مرشح النظام (وهو السيد عبد العزيز بوتفليقة) انسحب المترشحون الستة قبل إجراء الانتخابات، وكان ذلك ضربة موجعة للنظام.

ظاهرة التسرب السياسي المزمنة

  ابتلي الأفافاس طيلة وجوده بالنزيف البشري المزمن، الذي أضرّ به إلى درجة كبيرة، وفي هذا السياق فقد الحزب مناضلين  كثيرين، وكفاءات سامقة قادرة على بناء طبقة سياسية صحيحة، وعلى المساهمة في بناء الدولة الديمقراطية الحديثة. رحل هؤلاء في موجات متلاحقة، نذكر منهم جماعة السيد ياحة عبد الحفيظ عقب العودة إلى الحياة العلانية سنة 1989م ، وجماعة الهاشمي نايت الجودي التي رحلت عقب مؤتمر 1991م بعد أن قصم ظهره مقصّ بالتهميش العمدي، وطاله “جزاء سنمار”، ثم جماعة السعيد خليل عقب مشاركة السيد حسين آيت أحمد في لقاء “عقد روما” دون إعلام الأمانة الوطنية للحزب بذلك مسبقا، ثم جاء دور النواب الثمانية سنة 2000م الذين تم إقصاؤهم بطريقة تعسّفية في جلسة من جلسات المجلس الوطني(!) بعد أن برّأت لجنة الانضباط ساحتهم، حدث ذلك اثر تجرؤهم على تقديم  وثيقة عمل “جريئة” للجنة المكلفة بتحضير المؤتمر،  بسبب عجز  جهاز الحزب عن جمع 75 ألف توقيع في 25 ولاية للمترشح حسين آيت أحمد بجلالته، وكادت أن تحدث الفضيحة لولا تدخل رئيس حركة النهضة جاب الله الذي وفّر له العدد المطلوب من توقيعات المنتخبين كخيار بديل. ثم رحلت موجة أخرى من أبرز عناصرها المناضل القدير سي العربي حنفي.  وبعدها جاء دور الأمين الأول الأسبق كريم طابو.

إن التفسير العقلاني الوحيد لهذا النزيف المزمن، هو وجود “خلل” في تسيير الحزب، مرتبط  بشخصية حسين آيت أحمد ذات  الكارزمية التي لازمها الغياب. فهذه الوضعية كانت وراء إخراج ” النقاش السياسي” من سياقه الصحيح، الدائر بين المناضلين، وكانت سببا في رفض النقد الذاتي واعتباره تطاولا على الخط السياسي للحزب!.

هذا وليس من المعقول أن يُتّهم هؤلاء المناضلون المغادرون بالخروج عن الخط السياسي للحزب أو بالانشقاق أو التمرد، وخلافا لما يروّجه “الإعلام الكسول” الذي لم يجهد نفسه لفهم خصوصيات الأفافاس، فإن مشكلة هذا الأخير تكمن في “سوء التسيير” العاجز عن احتواء ظاهرة تنوّع الأفكار المنسجمة مع فلسفة الحزب. ومما يؤكد نزاهة هؤلاء المناضلين المفصولين أو الذين دفعوا دفعا للانسحاب، أنهم  لا يزالون في ساحة المعركة يناضلون من أجل انتصار الفكر الديمقراطي، في الوقت الذي دخل فيه جهاز الحزب في مرحلة “المغازلة” مع النظام القائم، تجلت نتيجتها في الانتخابات التشريعية السابقة، وفي السكوت إزاء عبثية العهدة الرابعة للرئيس عبد العزيز بوتفليقة.

الأفافاس إلى أين؟

  هل سيعيش الأفافاس بعد رحيل الزعيم حسين آيت أحمد؟ لا شك أن الإجابة تختلف بين شخص وآخر حسب قناعة كلّ طرف. فهناك من يرى أن الأفافاس مجرّد حزب تشكّل حول شخصية الزعيم، ومن ثم يصعب عليه البقاء بعد رحيل قلبه النابض. في حين أن هناك من يرى أن الأفافاس أكبر من أن يحصر في أيّ شخص ولو كان في حجم حسين آيت أحمد بجلالته، لأن هناك خزانا من المناضلين  هم أحفاد وأقارب شهداء الأفافاس ومناضلي الساعة الأولى، الذين لن يفرّطوا في رأسمالهم الرمزي.

ومهما يكن الأمر فقد أضاع الأفافاس على نفسه – على مرأى ومسمع رئيسه حسين آيت أحمد- فرصة مؤتمره الأخير ليجعله مؤتمرا للمصالحة مع أبناء الحزب،  يفتح أبوابه أمام الراغبين من أبنائه في العودة إلى المنزل الاوّل. كما أن الرأي العام لم يفهم  المفارقة العجيبة التي سقط فيها الأفافاس، والمتمثلة في عجزه عن تحقيق مصالحة في بيته، وشعاره المصالحة الوطنية مع جميع الأطياف المتناقضة(!)

 

أصناف المناضلين

تجدر الإشارة  إلى نقطة هامة، متعلقة بأصناف  المناضلين خرّيجي مدرسة الأفافاس. هناك مناضل “البطاقة” ميزته أن علاقته بالحزب تنتهي يوم يتوقف عن دفع اشتراكاته للحزب. وهناك مناضل من أجل “الفكرة” قد تنتهي علاقته مع الجهاز لسبب أو لآخر، لكنه يستمر في النضال من أجل تحقيق “الفكرة” أينما كان موقعه. وهناك صنف ثالث من المناضلين يعتبرون  الأفافاس – بغضّ النظر عن الهيكلة- مكوّنا ثابتا ضمن مكوّنات شخصيته، لا يستطيع الفكاك منه ولو كان خارج الهيكلة الحزبية، وهذا بسبب رابطة التاريخ أو الدم المراق في سنوات المواجهة الدامية مع النظام التسلطي. وميزة هذا الصنف الثالث  تجاوز اعتبارات المنافع والمكاسب في علاقته بالأفافاس الهوية. وأزعم أنني أنتمي إلى هذا الصنف، لأنني مرتبط به بالرابطتين: التاريخ وضريبة الدم التي دفعها أقاربي هناك في مسقط رأسي بآزفون، وقد ذكر المناضل ياحة عبد الحفيظ بعضَهم في مذكراته.

 

وجع الأفافاس

ممّا يحزّ في القلب أن يرى المرء هذا الحزب العريق في النضال، في حالة عجز بعد رحيل المؤسس، عن إيجاد مناضل يتبوأ منصب  “رئيس الحزب” كغيره من الأحزاب، الأمر الذي جعله يعود إلى أرشيف الاتحاد السوفياتي ليستنسخ تجربة ” البريزيديوم” التي لا تنسجم مع المنطق الديمقراطي. وليس سهلا أيضا  أن يهضم المرء  “عقدة التمركز حول الذات” التي يعاني منها الأفافاس، جعلته يحاول التغريد خارج سرب المعارضة، بحجة واهية متمثلة في تقديم مبادرة أساسها ورقة بيضاء!؟ وعلى أيّ حال، إن أكن قد كويتُ لحم جهاز الأفافاس، فمن الكيّ قد يجيء الشّفاء كما قال الشاعر نزار قباني، أو كما قال الفنان الراحل معطوب لوناس:

– خاسْ أوْثضْ إڤـمَا أسَاڤِي

– ثاسَاوْ اُورْ تُوڤِي

– إوَكَنْ كانْ إدِفْرِيوَسْ.

 

*باحث في التاريخ

-الجزائر 2 أكتوبر 2016م                                                            

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى