بين الفكر والسياسة

2)-الوجه الجديد للعالم العربي

بقلم نور الدين بوكروح

ترجمة عبد الحميد بن حسان

كان الجزائريون خلال التسعينيات يعتزّون بكونهم رواد الديمقراطية في العالم العربي لأنهم كانوا أوّل من انتف في سنة1988، وقدّموا خمسمائة من الضّحايا، وتلتْهم بعد ذلك عدة آلاف أخرى. وعندما اندلعت أولى الثورات العربية تساءلْتُ أوّلا عمّا إذا لم نكن مسؤولين عن تأخير انتفاضة تلك الشعوب بعشرين سنةً، ثمّ تساءلْتُ ثانياً عمّا إذا كانت تلك الثورات ستحدث لو انطلقتْ من ليبيا بدلاً مِنْ تونس وبالطريقة التي جرتْ بها. إنّني أعتقد أن الرئيسيْن ابن علي وحسني مبارك كان يمكن أن يبقيا في قصريْهما وأنّ أسعار الزيت لم تكن لتنخفض عندنا. ذلك أنه لا أحد يقبل أن يحدث في بلده ما حدث في ليبيا: انهيار الدولة، وانقسام البلد، والقذافي يقترف أضعاف ما اقتُرِفَ في جرنيكا (Guernica)، إضافة إلى التدخل العسكري الخارجيّ… وحصيلة كلّ هذه الأحداث الأليمة هي عودة هذا البلد إلى العصر الحجري الحديث.

عندما قام الرئيس الشاذلي بن جديد بتأسيس التعددية الحزبية سنة 1989 في الجزائر عارضَهُ الرؤساء ابن علي وحسني مبارك والقذافي وحذّروه من خطر إدخال أحزاب إسلامية في اللعبة السياسية المشروعة. أمّا ملك المغرب فكان يرى أنه من المفيد أن تكون الجزائر ” مخبراً” لهذه التجربة. وعندما اندلعت حرب الإرهاب وارتُكِبتْ مجازر فزع لها العالم، أتيح لهؤلاء الحكام العرب أنْ يُهددوا شعوبهم بما ينتظرهم إذا وسوست لها نفوسها بالمطالبة بالديمقراطية الغربية.

ولم يكن هؤلاء المستبدون على خطإ في رؤيتهم، وهكذا استتبّ لهم الأمر ليتفرّغوا للنهب ولإعداد توريث الحكم لأقاربهم. هذا هو السبب في أنّ خمسمائة بوعزيزي جزائري لم يتمكنوا من تحقيق ما حققه بوعزيزي تونسي واحد: لقد تمكّن البوعزيزي التونسي من استثارة مائة وخمسين مليون عربي، ومن الإطاحة في ظرف أسابيع قليلة بأكبر الديكتاتوريين العرب الذين طال تربُّعهم على عرش الحكم في” جمهورياتهم”، في انتظار البقية، لأنّ الفتيل يشتعل في كلّ الاتّجاهات.

باستطاعتنا أنْ نؤكّد أن تجربتنا الفاشلة كانت، إلى حدّ ما، عاملا مساعدا للمستبدّين العرب كي يُمدّدوا من فترة سيطرتهم على شعوبهم، هذا في الوقت الذي كانت فيه شعوب شرق أوروبا تتحرر من الغطرسة الشيوعية، وشعوب أمريكا اللاتينية تتحرر من الحكم العسكري. لقد أثبتتْ التجربة الجزائرية أنّ الانتخابات الحُرّة في العالم العربي ستُفْضي لا محالة إلى انتصار الإسلاميين المتشدّدين. ويأتي الحكم التيوقراطي في إيران، والمشهد المُرعِب الذي ظهر به طالبان في أفغانستان، والأعمال الإرهابية التي ارتكبتها القاعدة، وكذا تأسيس ” إمارة غزة”، كعناصر إضافية لتزيد من تثبيط العزائم لدى الشعوب العربية وصرفها عن خوض المغامرة الديمقراطية. فالنظام المستبد أحسن من الانفلات المتوحش الذي شوهد في الجزائر وأفغانستان.

وبالموازاة مع ذلك راح التيار الإسلاموي يُرسي قواعده في البلدان الغربية، مُستفيداً من أجواء الحرية المتاحة هناك ليبدأ في العمل بمبدأ ” الحق في الاختلاف”. وهكذا بدأتْ تظهر تجارة ” الحلال”، ومنارات المساجد، وارتداء البرقع بعد الحجاب، إلخ، كمشاهد جديدة في الساحة الاجتماعية بأوروبا. وقد اتّخذت هذه العلامات المظهرية شكل رسائل سياسية مُستفِزّة وانتهى بها الأمر إلى إشعار الأوروبيين بالتضايق، إذ بدأت المشاعر العدائية ضد الإسلام في الظهور لأن هؤلاء الأوروبيين بدؤوا يشعرون بالخوف من أسلمة بلدانهم بالتدريج، وراحوا يدفعون بحكوماتهم إلى التحلّي بالحيطة والحذر إزاء التحوّل الديمقراطي في البلدان العربية لأن ذلك سيفتح المجال واسعا للتيار المتطرف والمتشدد. وكانت تلك الحكومات تجد مصلحة أخرى في هذه المسألة: فالتعامل مع حُكّامٍ ذوي شخصية هشّة وذوي حسابات بنكية معروفة يكون أسهل من التعامل مع برلمانات مرتبطة بسيادة شعوبها.

ومع ذلك فإنّ الجزائر لم تكن نموذجاً سلبياًّ فقط. فالإسلاموية الجزائرية بخطابها الرافض وبانزلاقاتها الإرهابية، ورفض الشعب لها بعد ذلك، كل هذا ممّا دفع بالتنظيمات الإسلاموية في العالم العربي إلى مراجعة نفسها وتكييف طموحاتها مع الواقع الداخلي والخارجي. فلا شك أن المقابلة بين النموذج السلبي المتمثل في الجبهة الإسلامية للإنقاذ الجزائرية وبين النموذج الإيجابي المتمثل في حزب العدالة والتنمية التركي AKP، تلك المقابلة هي التي ساعدت كُلاًّ من حزب النهضة في تونس والإخوان المسلمين في مصر على تبنّي موقف أكثر اعتدالا، إذ شرع هذان الحزبان في استعمال مفاهيم ” دولة القانون ” و ” المجتمع المدني ” و”الديمقراطية ” و ” الحريات العامة”، مع الحرص على تفادي كلّ إشارة إلى ” الدولة الإسلامية”. وفي هذا يبدو أن المودودي و سيد قطب لم يعودا بضاعة مطلوبة ورائجة. وهذا ما جعل العديد من الناس يرى أنه إذا كانت هذه هي الإسلاموية فلا مُبرّر للتخوّف منها.

إنّ كل الثورات في بداياتها الملحمية، عندما يحتدم التنافس بين الجماهير على البطولة والحصافة لافتكاك حريتها، تظهر جميلة ومثالية، ويتراءى لنا من خلالها شيء أصيل. ومع ذلك فإننا قد تعلّمنا من التاريخ أن نحذر من غداة كل ثورة. فقد عرفت الثورة الفرنسية بعد مرحلتها الملحمية سنة 1789 فترة كان فيها الحكم الجماعي (le Directoire)، ثمّ الحكم القنصلي(le Consulat)، ثمّ الحكم الإمبراطوري، ولم يتمّ الإعلان النهائي عن قيام الجمهورية إلاّ سنة 1870. ومثلها الثورة الروسية التي استولى عليها حزب أقليات، وهو الحزب البلشفي الذي حوّل تلك الثورة إلى ديكتاتورية ألقت ستارها الأسود على نصف البشرية طيلة ثلاثة أرباع قرن من الزمان لتنتهي إلى انهيار كامل بانهيار جدار برلين.

ولقد خرجت الثورة في تونس ومصر من المرحلة الملحمية لتدخل في المرحلة التقنية، وهي مرحلة وضع أسس المؤسسات الجديدة. وعلى خلاف الثورة الفرنسية التي لم يكن بين يديها نموذج تتبعه ـ باستثناء النموذج الروماني ـ والتي كان عليها أن تأتي بجديد، وكذا الثورة الروسية التي كانت تريد أن تحقق حلماً بالاستناد إلى النموذج الماركسي، فإنّ التغييرات التي أحدثت في كل من تونس ومصر جرتْ في إطار دستوريّ موجود مسبقاً. وعند الحاجة فإنّ التونسيين والمصريين كانت بين أيديهم عدة نماذج للتنظيم الديمقراطي كان يمكن لهم أن يستلهموها. ويبقى مصيرنا نحن مرتبطا بالمخرج الذي ستؤول إليه الثورة في هذين البلدين.

إنّ العالم العربي اليوم صار في بؤرة المشهد الإعلامي الدولي وفي مركز السياسة العالمية. فلأول مرة شاهد سكان الكرة الأرضية العرب يخرجون إلى الشارع بمئات الآلاف لشيء آخر لا علاقة له بالنواح على زعيم أو مُطربة، أو من أجل الحكم بالإعدام على كاتب ” شيطاني”. صار العرب موضوعا لإعجاب الجميع لأنهم التحقوا أخيرا بـ “العالم الحر”.

لكن دوائر السلطة الدولية لا زالت تنتظر بشيء من التّخوّف ما ستتمخّض عنه هذه الثورات بعد أشهر أو بعد سنوات، وهي تتجسس على كل حركات وسكنات أطراف الصراع، وخاصة منها ممثلي التيار الإسلامي. إنّ الغرب الذي يكفيه ما يشغله من أمر إيران وأفغانستان ليس مستعداًّ ليشغل باله بأنظمة من نفس النوع، وهو ينتظر بخوف شديد ما ستتمخض عنه الاستحقاقات المقبلة، لأنه يعرف ما سينجر عنها من آثار على الأنظمة الملكية البترولية وعلى مصالحه في المنطقة، هذا دون الحديث عن إسرائيل.

لقد ترسّخ الاقتناع، منذ التجربة الإيرانية والجزائرية والفلسطينية، بأنّ أكبر خطر يأتي من تبنّي النموذج الديمقراطي في البلدان الإسلامية هو وصول الإسلاموية إلى سدّة الحكم. فالجميع يعرف أن الإسلاموية حاضرة في كل دواليب المجتمع، مختبئة في المساجد أو في أمكنة أكثر سرّيّةً. وكان الإسلامويون من بين المتظاهرين في تونس وفي مصر واليمن ، وفي ليبيا والأردن والبحرين والمغرب وسوريا، حتى ولو كان من المستحيل إحصاء أعدادهم. لكن الغريب أننا لم نسمع من جهتهم أصواتا ضدّ التيار العام، فقد ضموا أصواتهم إلى الجميع ولم تظهر عليهم أية علامة دالة على الانزواء أو التفرقة. وأكثر من ذلك فإنّ الإخوان المسلمين في مصر والنهضة في تونس التزموا بالعمل العلني وفي داخل الدولة ذات الطابع الجمهوري.

وهناك مؤشرات عديدة تدل على أنّ هذا الخطر يمكن أنْ يُستبعد وألاّ يعتبر كخطر رئيسي. ففي الوقت الذي عرفت فيه جماعة الإخوة المسلمين أوج ازدهارها كان المجتمع المصري ريفيا وأمّياًّ في أغلبيته، وكذلك الأمر في باقي أصقاع العالم العربي. كان العالم العربي منقسما بين أنظمة ملكية وأخرى ” ثورية”، وكان غارقا في الحرب الباردة بسبب القضية الفلسطينية، وكانت تتخلله إيديولوجيات أعلنت كلها عن إفلاسها في مواجهة التحدّي الصهيوني. وجاءت أحداث الثورة الإيرانية والجهاد ضدّ الاتحاد السوفياتي في أفغانستان وضد إسرائيل في فلسطين ولبنان، ثمّ انهيار الاتحاد السوفياتي، كلّها كعوامل إيجابية لصالح أفكار الإسلامويين. فقد صار بإمكان هذه الأفكار أنْ تُقدَّم على أنها البديل الأنسب عن الثنائية القطبية وعن الحكومات ذات السلطة الزمانية. وهكذا ظهر جناحها المسلح متمثلا في ” الجماعات الإسلامية ” في مصر، وفي الـ GIA في الجزائر، وفي” القاعدة “على المستوى الدولي.

وبإزاء الهزائم العسكرية المتتالية التي مني بها العرب في صراعهم مع إسرائيل بدا الإسلاميون في صورة أبطال لأنهم حملوا السلاح ليثوروا على الحكام في سبيل الله، هذا في الوقت الذي كانت فيه الشعوب خاضعة خضوعاً تاماًّ للمستبدّين. لكن، ومنذ دخول الجماهير إلى ساحة الصراع السياسي ، راحت وجوه الإسلاموية تفقد قيمتها فجأة كما تفقد الأسهم قيمتها في البورصة بسبب أزمةٍ ما. فلمْ يعُدْ بن لادن أو الظواهري أو علي بن حاج رموزا للبطولة الإسلامية ، والدليل على ذلك أنّ الثوار لم يهتفوا بأسمائهم ولم يرفعوا صورهم فوق رؤوسهم.  لقد رُمِي بتلك الأسماء في أقبية التاريخ مع أسماء المستبدّين المخلوعين.

إنّ عهد الإسلاموية الصّرفة والمتشددة قد ولّى، وإنّ الشبيبة التي يحدوها الأمل في الارتقاء إلى الحياة الديمقراطية لن تقبل أنْ تُنْهب منها ثورتُها لأنها شبيبة واعية سياسياًّ، مُثقفة ويقظة. وهذا الأفق لمسناه في الطريقة التي فرضت بها الشبيبة ورقة طريقها على السلطات المكلفة بتسيير المرحلة الانتقالية عندما اشترطت عزل كل الحكومات التي خلّفها المستبدّون، وحلّ الحزب الرسميّ، واسترجاع أملاك الشعب من أيدي الطبقة المستبدّة، وحلّ الشرطة السياسية، وانتخاب مجلس تأسيسيّ، ثمّ تنظيم انتخابات تشريعية ورئاسية.

إنّ العالم العربي يمرّ بمنعرج خطير من تاريخه. وقد تكون النهضة التي لم تتحقق خلال القرن الماضي آخذة في شق طريقها إلى الواقع تحت قيادة الشعوب. إنّ هذه الشعوب صارت متحكمة في مصائرها ومُحقّقة لوجودها، وذلك بخروجها من صمتها واتباع طريق التعقل في ثورتها، إذ لم تسلك أسلوب الفوضى ولا التحطيم الأعمى، ولا طريق الإسلاموية ولا العشائرية. على عكس ذلك كله، راحت تلك الشعوب تُثبت أنها في درجة عالية من حصافة الرأي والقدرة على التحليل، ولم يصرفها أي شيء عن تحقيق أهدافها، وهي سائرة في طريق تحقيق تلك الأهداف، وستحققها إذا بقيت ناظرة إلى الأمام، مُستلهمة من الماضي دروسه، وإذا تشبّثتْ بقيم الحرية والتطوّر والتسامح.

حان الأوان لفكّ كلّ العُقد، وخاصة منها مواجهة مسألة توظيف الدين. وإنّ مصر وتونس أَحْرَى بالتكفل بذلك وأولى بأداء دور الريادة. فلا بدّ من الفصل بين أمور الدين وأمور السياسة، وهو ما أوصى به علماء مثل عبد الرحمن الكواكبي وعلي عبد الرازق خلال القرن الماضي.

إنّ عدد الأقباط في مصر هو عشرة ملايين نسمة. وإن مشاهد الأُخُوّة بين المسلمين والأقباط في ساحة التحرير خلال المرحلة الملحمية من الثورة هي مشاهد تدلّ على ما يمكن أن تحققه مصر في المستقبل. وإذا كان شيخ الأزهر ورئيس الكنيسة القبطية قد بقيا وفيين لحسني مبارك إلى آخر لحظة، فإنّ أَتْبَاعَ الديانتين قد واجها قوات الأمن جنباً إلى جنبٍ، ولم يُحققوا الانتصار إلاّ مجتمعين، كما شوهد الصليب والهلال على نفس اللافتة، والمسلمون والمسيحيون يؤدون الصلوات جنبا إلى جنب. وكانت صلواتهم متّجهة إلى سماء واحدة، حاملة دعوات واحدة لإنقاذ بلدهم المشترك.

وسيكون على الدستور المصري الجديد والمؤسسات الجديدة أن تعكس هذه المصالحة بين المسيحيين والمسلمين بفضل امتزاج الدماء المراقة على محراب الحُرِّية. فالقبطي يجب أن يتساوى مع أخيه المسلم في كل الحريات وفي كل الحقوق، لأن الديمقراطية سبيل لا نسلكها إلاّ إذا تخلّصنا من بقيا الفكر التيوقراطي وعقلية الدعوة الدينية بواسطة الحرب.

إنّ مسيرة الأفكار بطيئة، لكنها ستصل لا محالة إلى وجهتها. وإذا ما تحقق ذلك صارت تلك الأفكار بمثابة قواعد عامة ونماذج كلّيّة ومصادر للإلهام لدى الشعوب العربية الإسلامية الأخرى التي أتيح لها أن تتعلّم كيف يمكن التّحرّر من الاستبداد. فالجزائريون الذين شاهدوا هاتين الثورتين سينْكَبُّون بالتأكيد على التفكير في أوضاعهم، هذا دون الحديث عن أثر حركة جناحي الفراشة وما يمكن أن ينجرّ عنه من أحداث غير متوقعة في أي حين. وكثيرا ما تخلق هذه الأحداث مفاجآت كبيرة، مثل ذلك ” الحرفي الرّصّاص” (plombier)  الذي أطاح بنيكسون(Nixon)، أو تلك الصفعة التي وجّهتْها شرطية إلى بائع جواّل في إحدى قرى بلاد المغرب والتي أدّت إلى نتائج كان القذافي وابن علي ومبارك على استعداد لدفع أغلى الأثمان من أجل تفاديها.

ومهما يكن من أمر، فإنّ وجه العالم العربي الجديد أخذ في الارتسام مرحلة بعد مرحلة، تبعا لسقوط معاقل الاستبداد. وكل تجربة ناجحة تصير نموذجاً. إنّ هذا الوجه لم يتضح لنا بعدُ، لكننا لا نبالغ إذا قلنا إنّ العالم كلّه متعلق بهذه القصة، قصة البوعزيزي.

لوسوار دالجيري 24 مارس 2011

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى